قررت البحرية البريطانية ارسال مجموعة من السفن الحربية الي الشرق الأقصي هذا الصيف علي أن تقودها الفرقاطة البريطانية حيث عبرت قناة السويس صباح الثلاثاء الثالث والعشرين من مايو2000, وقد عرض قائد الفرقاطة علي السفير البريطاني بالقاهرة استضافة من يرغب دعوته للعبور علي ظهرها من الاسماعيلية الي السويس, وهي مسافة تستغرق أكثر من ست ساعات كاملة نظرا لعملية الانتظار المعتادة في البحيرات المرة حيث تلتقي قوافل السفن القادمة من الشمال مع تلك القادمة من الجنوب وفقا لتنظيم دقيق جري العمل به علي امتداد عمر القناة, ولقد تلقيت أنا وزوجتي دعوة السفير البريطاني جراهام بويس وقرينته بشيء من الاهتمام لأنها دعوة لا تتكرر كثيرا, كما أنها تجربة فريدة أن أري نفسي فوق بارجة بحرية بريطانية وأنا الذي كانت فترة الخدمة العسكرية بالنسبة له في الشهور التي تلت نكسة1967 بالغة الصعوبة والتعقيد خصوصا وأن علاقتي بالسلاح تقوم علي ود مفقود وألفة غائبة, وبالفعل اتجهنا مع السفير وقرينته والملحق العسكري البريطاني الي سطح البارجة مع الساعات الأولي من صباح يوم عبورها بمدينة الاسماعيلية, وقضينا في ضيافة الكابتن ماكليمنت قائد الفرقاطة ساعات من الحوار المتصل والحديث المتنوع إذ اكتشفنا أن السفير قد وجه الدعوة لنا فقط, وهو الأمر الذي دفعني الي استئذان السيد وزير الخارجية قبل قبولي هذه الدعوة ذات الطابع الخاص.
لذلك أود هنا أن أضع القاريء أمام أهم ما دار من نقاش ثقافي وحوار عميق خصوصا وأن السفير البريطاني ـ شأن معظم سفرائهم الي العالم العربي ـ خبير بالمنطقة إذ كان سفيرا من قبل لبلده في كل من قطر والكويت علي التوالي, وهنا لابد أن اسجل أن بريطانيا قد حرصت ـ بمنطق العلاقات التاريخية والوجود الطويل ـ علي أن تتعايش مع الظواهر الشرق أوسطية بصورة مباشرة حتي تراكمت لديها خبرة فريدة برزت خلالها أسماء مثل لورانس العرب مع الملك فيصل الأول والجنرال جلوب مع الملكين الأردنيين عبد الله والحسين.
وقد بدا لي الحوار فوق سطح مياه قناة السويس أمرا مثيرا للغاية ونحن علي ظهر بارجة حربية بريطانية خرجت من انجلترا الي جبل طارق مرورا بمواني البحر المتوسط وعبورا لقناة السويس متجهة الي مسقط, ثم سنغافورة وشواطيء الشرق الأقصي, ولقد أثارت تلك الرحلة القصيرة لدي شيئا من تقاليد البحر وحياة قواته وتقاليد التدرج القيادي لها إذ يكفي أن قائد الفرقاطة قد ذكر أنه قد فوض صلاحياته لمن يليه مباشرة من الضباط حتي يتفرغ لضيافتنا احتراما منه لتقاليد البحر التي تعطي ربان السفينة ـ الحربية والمدنية ـ صلاحيات واسعة وسلطات تجعل لقراره سلطة القانون علي ظهر سفينته, ولقد حرص القائد علي أن يأخذنا في جولة تفقدنا فيها ارجاء الفرقاطة الضخمة متنقلين من حجرة القيادة الي حجرة العمليات ثم حجرة مراقبة الأجهزة والماكينات عبورا بالمطابخ والملاعب وصولا الي هناجر الطائرات ومواقع الصواريخ الذكية المتقدمة التي لا يمكن رصدها إلا وهي علي مسافة عشرة أميال من أهدافها المطلوبة فتبدو المفاجئة كاملة من حيث الزمان والمكان, كما شاهدنا كذلك مهابط الهليكوبتر ومراكز الخدمات المختلفة فوق المدينة العسكرية العائمة, لذلك يهمني هنا أن أوجز خلاصة ما دار من حديث في النقاط التالية:
أولا: إن القوات المنقولة بحرا أو المنقولة جوا أصبحت بديلا حديثا للقواعد العسكرية الثابتة, فلم تعد الولايات المتحدة الأمريكية أو القوي الغربية الكبري بحاجة الي الوجود المقيم في مراكز عسكرية متقدمة, مادامت اساطيلها الحربية تجوب البحار, وطائراتها المتقدمة تستطلع اجواء الدنيا بأسرها, ولقد ذكرني قائد الفرقاطة الذي شارك في حملة جزر الفوكلاند الشهيرة عندما انتزعتها بريطانيا من جديد بقرار من رئيسة الوزراء ذات القبضة الحديدية السيدة مارجريت تاتشر عام1982 أن رحلة فرقاطة البحرية البريطانية قد استغرقت أحد عشر يوما من سواحل بريطانيا الي شواطيء الأرجنتين, حيث قامت بعملية عسكرية بحرية خاطفة كانت تعبيرا عن آخر صيحة يطلقها الأسد البريطاني في شيخوخته.
ثانيا: تطرق الحديث الي العسكرية المصرية وتقدير جيوش العالم لخبرتها التاريخية المعروفة, ولقد فاجأني قائد الفرقاطة بقوله: إن لدي البحرية المصرية شيئا يقترب من هذه الفرقاطة الضخمة, بل أضاف أنهم حريصون علي تبادل الخبرات علي مدار العام مع قواتنا المسلحة وأنهم ينظرون الي سجلها العريق وتقاليدها الثابتة بكثير من الاحترام والندية, ولقد شعرت عندما تحدث الملحق العسكري البريطاني معي عن تفاصيل الخبرات المستفادة لهم من العمليات المشتركة المشاورات المتبادلة أننا بحق ورثة قادة الجيوش وأمراء البحار ونسور الجو.
ثالثا: اتجه الحديث الي بعض الموضوعات المتصلة بالحوار الانساني الذي يدور بين ثقافات العالم وحضارات الأرض, ولقد قال لي السفير البريطاني إن روبين كوك وزير خارجية بريطانيا الحالي قد ذكر أن أهم حدث قد جري له علي مدار هذا العام هو لقاؤه مع فضيلة الإمام الأكبر شيخ الأزهرالدكتور محمد سيد طنطاوي, كما أشار السفير الي المحاضرة الشهيرة التي القاها الأمير تشارلز ولي عهد بريطانيا في جامعة اكسفورد منذ عامين والتي أنصف فيها الإسلام بشكل موضوعي عادل تفتقده كثير من الكتابات الغربية المعاصرة, وأخذ السفير يحكي عن طرفة شهيرة حدثت عندما استقبلت مصر ـ في اعقاب الحرب العالمية الثانية ـ العاهل السعودي الملك الراحل عبد العزيز بن سعود مع رئيس الوزراء البريطاني الداهية ونستون تشرشل والذي يري السفير البريطاني أنه كان يستحق جائزة نوبل في الأدب, ولكن شهرته السياسية قد طغت علي مواهبه الأخري, وموجز الطرفة أنه قبل الغداء الذي اقامه تشرشل علي شرف الملك عبد العزيز في أوبرج الفيوم أرسل اليه الملك من يقول إن العاهل السعودي لا يقبل أن يشرب أحد خمرا علي مائدة يكون هو حاضرا فيها, فرد تشرشل علي المبعوث قائلا: أرجو ابلاغ جلالة الملك أن تشرشل يشرب قدرا كافيا من الخمر قبل الغداء وقدرا آخر بعده, لذلك فإن رغبة الملك الجليل هي موضع احترامه مع الحرص علي الأحتفاظ بروح الصدق مع النفس والوضوح مع الذات.
رابعا: تحدثنا عن عظمة المصريين الذين حفروا القناة في منتصف القرن التاسع عشر حيث لم تكن التكنولوجيا متقدمة وادوات الحفر لا تزال محدودة, كما تحدثنا كيف أن القناة تعكس عبقرية الفلاح المصري الذي شيد الاهرامات قبلها, وبني السد العالي بعدها, وهو أيضا الذي حفر الترع وشق القنوات واقام القناطر لكي تكون كلها شواهد علي حضارة البنائين التي لم تتوقف يوما, ثم دار حديث عن الماضي تذكرنا فيه سعيد باشا و دليسبس والنظريات التي كانت سائدة قبل حفر القناة حول تفاوت منسوب المياه بين البحرين الابيض والأحمر, وهي مغالطة وقع فيها الكثيرون الي أن جاء فكر اتباع سان سيمون لكي يكون هو المقدمة الواقعية لفكرة شق القناة, وقد عبر السفير عن سعادته بالقرار الحكيم الذي اتخذه محافظ الاسماعيلية الحالي بمنع حرق تمثال وهمي يجسد شخصية اللورد اللنبي ـ وهو المعتمد البريطاني في مصر مع سنوات الحرب العالمية الأولي ـ وأضاف أن حكمة قرار المحافظ تنطلق من أن مثل هذه التصرفات قد تنقلب احيانا الي نوع من الشغب أو تندلع عنها الحرائق, كما أن ذاكرة الأمم تحتاج دائما الي عملية تنقية تتمكن فيها من نسيان الأمور الصغيرة في ظل روح الغفران المطلوب عند تناول فترات تاريخية ارتبطت بظروف معينة مرت بها العلاقات بين الدول.
خامسا: لقد اثار عبوري لقناة السويس لأول مرة في حياتي شعورا عميقا بما جرته القناة علي مصر حتي أن قادة الحركة الوطنية كانوا يرددون دائما: إننا نريد القناة لمصر لا مصر للقناة, وتذكرت أيضا أن هذه القناة قد ارتبطت بكفاح الشعب المصري في القرنين التاسع عشر والعشرين: وجسدت قدرا كبيرا من روح هذه الأمة وسعيها الدائب نحو آفاق أفضل, وقد ذكر قائد الفرقاطة أن تعريفة العبور في القناة ـ وهي معتدلة ـ لاتزال أحد مصادر التشجيع علي العبور فيها, وهي أيضا التي حرمت غيرها من إنجاح مشروعات بديلة, وقد شعرت بسعادة بالغة وهو يشيد بكفاءة المرشدين المصريين وادارة الهيئة مؤكدا أن كل شيء يحدث بدقة متناهية وأن العبور يتم وفقا لحسابات دقيقة, عندئذ تذكرت قصة انسحاب المرشدين الأجانب في صيف1956 وكيف وقفت الدول الصديقة معنا في تلك الظروف التي كانت نقطة تحول مفصلية في تاريخ هذا الوطن.
.. كانت هذه أهم لقطات الحديث التي امتدت لساعات طوال تخلله كرم زائد وود شديد من جانب طاقم الفرقاطة تعبيرا عن تقديرهم للأرض التي يعبرونها والقناة التي يمرون بها, واستمعت الي أحاديث البحر الذي يقضي فيه بعضهم مددا متصلة قد تبلغ سبعة شهور كاملة في جولة حول العالم, ولقد أسعدني كثيرا أن علمت أن طاقم الفرقاطة المكون من270 فردا قد انقسم الي عدد من المجموعات عند وصولها الي بورسعيد تذهب كل مجموعة منها باتوبيسات السياحة الي القاهرة لزيارة المتحف المصري لعدة ساعات ثم تلحق بزملائها في مدينتي الاسماعيلية والسويس علي التوالي, وقد بدا لي بوضوح شغفهم بحضارة مصر شديدا, وحماسهم لتاريخها ملحوظا, وقد استغرقني التأمل الشديد واتجهت صوب الماضي أتذكر عرابي الذي أراد أن يغلق القناة بردم جزء منها عندما تظاهر دليسبس بالموافقة علي طلبه, ولكن الخديعة الكبري كانت تحاك له في الخفاء عندما تخلي عنه الباب العالي, وانصرف عنه عدد من أعوانه في ذات الوقت حيث ظل وحده يرفع كلمة الفلاح المصري أمام السلطة المتحيزة للعناصر الشركسية والتركية في الجيش المصري, كما تذكرت عبد الناصر في وقفته الشهيرة يوم السادس والعشرين من شهر يوليو عام1956 وهو يعلن تأميم القناة بكل ما تلا ذلك من تداعيات يعرفها جيلنا جيدا, كما تذكرت السادات عندما اعاد فتحها عام1975 للملاحة الدولية بعد ثماني سنوات من اغلاقها, وتذكرت كذلك مبارك وهو يحاول الإرتقاء بذلك المرفق الحيوي الهام الذي يمثل أحد مصادر الدخل القومي, كما تذكرته أيضا وهو يرقب القوافل الذاهبة والعائدة عبر القناة عندما تتيح له ظروف العمل الشاق ساعات قليلة من الراحة في مقره بمدينة الاسماعيلية, وكيف كان يسأل دائما عن مشروعات التطوير ـ اتساعا وعمقا ـ مع حرصه علي متابعة مستوي الايرادات وكفاءة العمل اليومي في هيئة قناة السويس.
وعندما حان وقت مغادرة البارجة عند ميناء السويس اهداني قائدها صورة لها في برواز أنيق مع كلمات رقيقة مكتوبة عليها, ولقد شعرت لحظتها أن الانسان هو الانسان في كل مكان, وأن اختلافات البشر ظاهرية, وأن صراعاتهم مؤقتة, وأننا جميعا شركاء قارب واحد يمخر عباب الزمان ولكنه يؤكد دائما أن ذاكرة الأمم أقوي من كل الشوائب, وأن عبقرية الشعوب أكبر من كل بصمات التاريخ, كما أدركت من جديد أن مواقف الدول قابلة للتغيير, وأن العداوات والصداقات تدور مع دوران الأرض, وشعرت أن الحديث عن عالم مختلف يحمل في طياته تحولات كبري, وافكارا جديدة, ورؤي بغير حدود.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/5/30/WRIT1.HTM