هذه مجموعة من الحوارات ذات الصلة الوثيقة بروح العصر وأسلوب الحياة الحديثة وفقا لمعطيات التكنولوجيا الجديدة وماطرحته من تغيرات في انماط الحياة وطرائق التعامل ومناهج التفكير, وقد رأيت أن أجعل لها اطارا من لغة الحوار حتي أتمكن من عرض وجهات النظر المختلفة بنفس الدرجة من الموضوعية والتجرد والحياد, وسوف أواصل تناول الموضوع في مقالات قادمة تتركز حول مسائل تعتبر التكنولوجيا الحديثة طرفا اساسيا فيها فنبحث في أحدها تأثير تلك التكنولوجيا علي الحرية الشخصية وفي آخر دورها في تطوير القيم الاجتماعية وفي ثالث علاقاتها بمفهوم العولمة ثم نتطرق إلي صياغتها للمجتمع الحديث وغير ذلك من الأمور المتصلة بالتطور التكنولوجي المعاصر الذي فتح آفاقا جديدة, وطرق ابوابا كانت مغلقة, وقطع اشواطا لم تكن متوقعة.
وعندما نبدأ بالبحث في تأثير التكنولوجيا علي الحرية الشخصية فإننا سوف نصل الي قضية هامة ذات أبعاد تطرح نفسها علي حياتنا اليومية في مختلف نواحيها, اذ أن خصوصية الفرد خرجت من جغرافيا الأشخاص لتستقر في تاريخ الانسان وأصبحت تعبيرا بغير دلالة لأنها أضحت قابلة للإختراق في أي لحظة ولم تعد لها حصانة طبيعية كتلك التي احتمت بها آلاف السنين, والمسألة هنا تذكرني بما طرأ علي مفهوم النظرية التقليدية للقانون الدولي بشأن سيادة الدولة حيث كانت تعتبر الي عهد قريب بمثابة قدس الاقداس في ظل فلسفة سادت في النظام الدولي لعدة قرون ولكن الأمر أصبح يختلف الآن إذ أصبح لدولة عظمي أو تحالف مجموعة من الدول الكبري الحق في اختراق سيادة دولة معينة ـ ولو من الناحية الفعلية علي الأقل ـ تحت غطاء من الشرعية الدولية بدعوي حماية حقوق الأنسان أو انقاذ الديموقراطية أو الدفاع عن الأقليات أو حتي مواجهة مشكلات البيئة, فليس غريبا أن يقترن انتهاك الحرية الشخصية نتيجة لتأثير تكنولوجيا الإتصالات باهتزاز نظرية سيادة الدولة نتيجة مفهوم جديد للشرعية في ظل عولمة السياسة الدولية, واذا كنا نريد مناقشة القضية من جوانبها الفنية والإنسانية والأخلاقية وفي اطار من التجرد والموضوعية فإننا يجب أن نخضع لسياق من الحوار المتوازن.
الحرية الشخصية:
حق مستقر في تاريخ البشر يرتبط بتلك التركيبة المعقدة للانسان الذي يملك خصوصية ذاتية تجعله في حوار مستمر مع النفس بصورة يصعب معها أحيانا التنبؤ بما سوف يفعل, وقد استقر في وجدان الانسان أن كثيرا مما يفكر فيهلا علاقة له بما يعلنه أي أن هناك هامشا ضخما بين الحوار الداخلي والحوار المعلن وعلي أساس هذه المعادلة مضت البشرية في طريق طويل, وعبر الانسان مراحل مختلفة علي امتداد القرون, ولو تصورنا أن حجم الاسرار التي يحملها الفرد العادي علي كاهله باعتباره الشاهد الأول علي كل مافعل منذ مولده حتي رحيله فإن هذا التصور لم يعد له وجود حقيقي اذ لم يعد الانسان هو الشاهد الوحيد علي مسيرة حياته الذاتية بل بدأت تشاركه في ذلك اجهزة تقنية حديثة بدءا من الأقمار التي تدور في السماوات وصولا الي المحمول الذي يضعه في جيبه.
التكنولوجيا الحديثة:
هي الجوهر الحقيقي للتقدم وهي الاعلان الصريح عن الانتقال من مرحلة الي مرحلة كما أنها نتاج للعقل الإنساني الذي أصبحت تراقبه, والانسان دائما هو صانع كل ما له تأثير في حياة عصره, كما أن لكل الاكتشافات والابتكارات آثارا سلبية معينة الي جانب آثار إيجابية ضخمة وعلي الإنسان أن يقبل ما أنتجه عقله بالخير أو بالشر, واذا كانت الانسانية قد قطعتاشواطا ضخمة في التقدم العلمي الهائل خصوصا في مجال تكنولوجيا المعلومات فإنه يظل رهينة تلك النقلة النوعية الضخمة في اسلوب الحياة وطريقة التفكير, فلقد قدمت التكنولوجيا في العقود الأربعة الأخيرة وحدها ما أصبح يهييء الساحة العالمية لعملية مسح شامل تقتحم العقول وتخترق الصدور لتعرف مافي القلوب!! إننا بحق أمام انقلاب ضخم في العلاقات الانسانية نتيجة التقدم المبهر في شبكة الاتصالات الحديثة.
الحرية الشخصية:
لقد كانت واحدة من أعظم نعم الخالق علي الإنسان أنه يستطيع أن يفكر في أمر ما دون أن يعلن عنه, كما أنه كان يستطيع أن يحتفظ في داخله بصندوق مغلق يشبه ذلك الصندوق الأسود للطائرات لا يعرف مضمونه كاملا ا بعد رحيله أحيانا مثل صندوق الطائرة الذي تبدأ قيمته الحقيقية عند تعرضها لحادث النهاية, كذلك عاش الانسان دهرا طويلا وهو يطوي النفس علي خصوصيته لا يشاركه فيها أحد ولكن ذلك لم يستمر علي ما كان عليه بل بلغ الأمر إلي مستوي الدول ذاتها فلم تعد للسرية السياسية تلك القداسة التي تمتعت بها طوال العصور الماضية, انهم يقولون الآن أن الوثيقة التي تحمل أعلي درجات السرية لدي الادارة الامريكية تصبح معروفة لسبعين شخصا علي الأقل وهو أمر يجعل مفهوم السرية تعبيرا نظريا أكثر منه حقيقة عملية, والمؤكد أنه قد جري علي الحرية الشخصية ماجري علي الحريات الأخري في هذا السياق.
التكنولوجيا الحديثة:
لقد قطعت وسائل الاتصال شوطا هائلا في السنوات الأخيرة بحيث أصبحت تكنولوجيا المعلومات هي بحق المبرر الأساسي للحديث عن العولمة بمعناها الشامل, فهي التي الغت الحدود واسقطت الحواجز وسمحت لنا بالحديث الدائم عن عالم واحد ينتقل فيه الخبر خلال دقائق معدودة الي اركان الدنيا الأربعة, ولم يعد ممكنا التستر علي معلومة أو اخفاء خبر أو ضرب سور من العزلة علي حقائق معينة, كما أن الانسان ـ باعتباره وحدة الكون الأساسية ـ أصبح مكشوفا لكل من يرصده, فأجهزة التسجيل متاحة والأقمار تجوب السماوات ليل نهار وحتي أجهزة الكشف عن الكذب دخلت هي الأخري الميدان لكي تحرم الإنسان من المراوغة والتلاعب علي الحقيقة, وتجعله معرضا لكل محاولات الاقتحام التي قد يعرفها أو التي لا يشعر بها أيضا, فالكل مرصود ولكن بدرجات متفاوتة وفقا لأهمية الشخص ومكانته وقيمته فالذي فضح قضية ووترجيت في عهد الرئيس نيكسون والذي كشف قضية مونيكا في عهد الرئيس كلينتون هي الاتصالات الهاتفية والذي فتح ملف القضايا الكبري في العصر الحديث هي التسجيلات الصوتية التي اهتمت بها كثير من الأنظمة واستغرقت فيها بشكل لا مبرر له احيانا اعتمادا علي أجهزة التنصت والتسمع واقتحام الخصوصيات, بل إنني أزعم أن تحركات الرئيس العراقي صدام حسين ذاته معروفة ويمكن متابعتها في ظل أجهزة متقدمة وتقنية عالية, وإذ كان الانطباع السائد لدينا منذ سنوات أن رجال المخابرات وشبكات التجسس يعملون في سرية تامة الا أن هذا المفهوم لم يعد له وجود حقيقي, فالكل يرصد غيره ويتلصص علي سواه, إننا في عصر يبلغ فيه حجم المتاح من المعلومات المتداولة أكثر من خمسة وتسعين بالمائة من الحجم الكلي للمعلومات المختزنة.
الحرية الشخصية:
سوف يؤدي تقلص حجم الحرية الشخصية المتاحة الي ظهور انسان نمطي قد تكون ابداعاته محدودة وذاته ملغاة فضلا عن أن كرامته قد تصبح مهدرة بل إنني أري أن المجتمع والأسرة وطبيعة العلاقات السائدة فيهما سوف تتأثر كلها بما يحدث لأن شبكة جديدة من العلاقات سوف تتكون وفقا للانفتاح الكامل علي ساحة الحياة العامة المعاصرة, ومازلت أذكر أن أحد أساتذتي الكبار اثناء المرحلة الجامعية كان يقول إنه قد وطن نفسه دائما علي وجود طرف ثالث يشارك في كل اتصالاته الهاتفية, واعترف أنني من أكثر الناس استخداما لذلك الجهاز اللعين ـ ثابتة ومحمولة ـ وهو أمر جر علي كثيرا من المتاعب لذلك فإنني ازداد تمسكا بمفهوم الحرية الشخصية واعتبرها مطلبا عزيزا علي الإنسان يرتبط بحق طبيعي له وليس مجرد حق وضعي يعتمد علي سند دستوري أو نص قانوني.
التكنولوجيا الحديثة:
إن كل ما طرأ علي البشرية من اكتشافات هائلة واختراعات ضخمة كان له وجهان أحدهما ايجابي والآخر سلبي ولا نستطيع في هذا المقام أن ندين التكنولوجيا لأنها قد تؤدي الي الاعدام الكامل للحرية الشخصية والانهاء الحقيقي علي ذاتية الفرد, ولكننا نقول إن الذي يستحق الادانة هم اولئك الذين عمدوا الي استخدامها وتوظيف امكاناتها لخدمة أهداف قد لا تعتمد علي أسس اخلاقية أو اسباب موضوعية اذ أن عمليات التنصت والمراقبة التكنولوجية والمتابعة الفنية يجب أن تكون كلها علي أسس مبررة استنادا الي أمر قضائي أو سبب قانوني أما أن يتم توظيف التكنولوجيا الحديثة في مصادرة الحريات وقهر الذات وتفتيش العقول فإننا نكون بصدد ردة حقيقية قد تزدهر معها التكنولوجيا ولكن تنحسر بها الحضارة والفارق بينهما لا يخفي علي من يدرك طبيعة كل منهما.
وهذه ليست نظرة جديدة لقضية قديمة فالذي اخترع الديناميت لم يكن يقصد به التدمير والخراب كذلك فإن الذين اخترعوا الأجهزة الحديثة لم يقصدوا بها إلا نفعالبشرية ومصلحة الإنسان, وإذا كان هناك عالم خفي آخر تنشط فيه أجهزة مكافحة التجسس ومقاومة الفساد والرقابة علي المعلومات والأموال فإنه يتعين أن يكون لها جميعا ضوابط تقف عندها وإلا يصبح الأمر سباقا مفتحا يمرح فيه كل من يريد أن يقوم بعملية اختراق لخصوصية الأفراد بدوافع لا تخلو من فضول ورغبة في وضع الآخرين تحت السيطرة لأسباب وظيفية أو عائلية ولحسن الحظ فإن مصر قد تجاوزت ذلك في مشهد لا تنساه الأجيال عندما حضر الرئيس الراحل انور السادات احتفال حرق أشرطة التسجيل التي كانت تغطي معظم فترة حكم الرئيس الراحل جمال عبدالناصر في ظل مفهوم مرحلي للشرعية الثورية مع غياب الشرعية الدستورية, ومنذ ذلك اليوم والمفترض ـ نظريا علي الأقل ـ أن استخدام التكنولوجيا في تصوير الأشخاص دون علمهم أو التسمع إلي اسرارهم أمر يرفضه المزاج الوطني العام وتلفظه الأعراف المصرية الصميمة, فضلا عن أنه يتعارض مع القانون نصا وروحا, وفي ظني أن التنصت والتسمع يقترنان بالأنظمة الدكتاتورية أو شبه الدكتاتورية ويتقلص وجودهما في ظل الديموقراطيات لأن عورات الناس ليست مادة مباحة مهما تقدمت التكنولوجيا أو ضاقت مساحة الحريات.
وهنا أستطيع أن استخلص عددا من النتائج المرتبطة بهذه القضية:
أ ـ إذا كان اللجوء إلي توظيف التكنولوجيا الحديثة في الحصول علي الأخبار والمعلومات ومتابعة السلوك العام لبعض الشخصيات ممكنا فإنه يتعين أن يكون ذلك محكوما بإطار من المشروعية وألا يصل إلي مرحلة يتم فيها تجاوز القانون أو الاعتداء علي الأخلاق, فحماية أمر الوطن واجب يصبح أمامه كل اجراء مشروعا كما أن التصدي للفساد هو الآخر غاية يصعب الاعتراض عليها ولكن الوسائل إلي ذلك كله تظل محكومة بإطار موضوعي لا تخرج منه ولا تنحرف عنه.
ب ـ إإن تكنولوجيا الكومبيوتر وعالم الانترنت أصبحا يتيحان كما هائلا من المعلومات والأخبار التي سوف ينكمش معها بالضرورة حجم الحاجة إلي محاولة الحصول عليها بطرق سرية إذ أن حجم المعلن في العالم المعاصر يتجاوز آلاف المرات ما كان متاحا منه منذ قرن مضي.
ج ـ إن القضية برمتها هي واحدة من قضايا عديدة تطرحها التكنولوجيا المعاصرة التي تقدم كل يوم جديدا وتعطي إحساسا متزايدا بأن العولمة لا تقف عند حدود الدول ولكنها ربما تتجاوز ذلك إلي اختراق المجموعات والأفراد بشكل غير مسبوق في تاريخ البشرية كلها.
إن كل الذي يعنينا من طرح هذه القضية هو أن نعبر عن مخاوفنا من أن تزايد حجم العدوان علي الحرية الشخصية البريئة قد يؤدي إلي قمع الفكر وقهر الرأي وتعطيل الإبداع إذ ليس أشق علي المفكر أو المثقف أو الفنان من تلك القيود التي لا تستند إلي مبرر ولا يحميها قانون, ولقد برع المجتمع الأمريكي الحديث برغم التكنولوجية الهائلة ـ بل ربما بسببها ـ في انتهاك الحريات الشخصية واقتحام الخصوصيات الفردية بل إن الذين تابعوا تطورات قضية الرئيس الأمريكي مع خليلة عابرة قد أدركوا بوضوح أننا أمام نسيج جديد للعلاقات بين البشر لم يكن مألوفا من قبل, وأننا بصدد ظهور علامات فارقة تفصل بين ماض كانت فيه الفردية والذاتية والخصوصية أمورا يمكن احترامها حتي جاء عصر العولمة ابنا شرعيا للتقدم المذهل في تكنولوجيا المعلومات فحدث انقلاب هائل أدي الي جعل الأفكار والآراء والأسراء امورا مكشوفة يصعب حجبها أو التستر عليها, ولابد لعالم اليوم من الوصول إلي نقطة توازن تسمح باحترام المعادلة الصعبة بين التكنولوجيا الحديثة في جانب والحريات العامة والشخصية في جانب آخر, فإذا كان قد قيل قديما إن الحاجة أم الاختراع فإننا نقول اليوم أن الحرية أم الإبداع.
|