يستبد بي هاجس ـ يشاركني فيه كثيرون ـ خلال الشهور الأخيرة مؤاده, ان الشرق الأوسط يدخل مرحلة المخاض الحقيقي, وان هناك محاولة لاعادة تريب الاوضاع فيه مع السنوات الاولي للقرن الجديد, وقد عزز من هذا الشعور القوي لدينا عدد من المؤشرات, في مقدمتها استئناف المفاوضات علي المسار السوري ـ الإسرائيلي ثم دخول المباحثات الفلسطينية الإسرائيلية مراحلها النهائية, فضلا عن شواهد عديدة توحي بأن الترويج لثقافة السلام تبدو عملية تمهيدية لإعداد المسرح السياسي لفصل جديد من تاريخ هذه المنطقة ذات الحساسية البالغة من قلب العالم المعاصر, ويبدو أننا سوف نشهد قريبا عملية فتح الستار علي معطيات مختلفة, وافتراضات غير مسبوقة, بما يستتبع ميلاد رؤي جديدة, والأمر يستدعي ـ والحال كذلك ــ عملية تمحيص واعية لكل مايدور حولنا, ورصد دائم لكل الدلالات التي توحي بأن التغيير قادم وأن التحول مقبل, وان العرب يدخلون مرحلة تختلف من الناحية الواقعية عما قبلها حتي وان كانت النظم قائمة والأطر مستمرة والأفكار سائدة, والذي يعنينا في المقام الأول هو مستقبل الدور المصري, وطبيعة مساره, وتوظيف قيمته الكبيرة ليصبح واحدا من المتغيرات المستقلة, لا ان يتحول إلي دور تابع ينزوي أمام الاحداث, ويتواري مع المتغيرات, أو يتآكل مع حركة الزمن, وسوف نتناول في السطور القادمة القضية برمتها علي محاور ثلاثة, يسعي الأول منها إلي عملية مسح ميداني موجز للمشهد القائم علي مسرح التطورات الاقليمية, بينما يتناول الثاني التوقعات المنتظرة في السنوات القليلة القادمة, ولا أريد ان اتعجل فأقول الشهور المقبلة, أما المحور الثالث فهو يبحث في طبيعة الدور المصري معتمدا علي الحقائق وبعيدا عن العواطف.
المشهد الحالي لمسرح الأحداث
إن القراءة المتأنية لحركة الأحداث تؤكد لنا أن ما نتوقعه الآن قد جري الاعداد له بالفعل, وأن مانراه ليس الا تعبيرا فوقيا عن تحركات غير معلنة استكملت بها القوي القادرة علي إعادة ترتيب الاوضاع في المنطقة ملامح التصور النهائي لها, وقد يكون من الملائم أن نستعرض في ايجاز شديد مواقف الاطراف المختلفة, لكي نكتشف أن رؤية كل منها لمستقبل المنطقة تختلف عن غيرها, فالولايات المتحدة الأمريكية تسعي لتحقيق تسوية تضمن لإسرائيل الحد الاقصي من مطالبها,, وتضع الشرق الأوسط في حالة سكون بغض النظر عن عدالة التسوية, اذ ان عنصر الوقت ـ الذي اعطاه كيسنجر دورا فاعلا في حل المشكلات المزمنة ـ سوف يتكفل بتحويل حالة السكون إلي تطبيع دائم وسلام شامل, ولا شك ان الولايات المتحدة الأمريكية تضع عينها بالدرجة الأولي علي مستقبل مصالحها في المنطقة, وهي تريد ان تكون لإسرائيل قنوات تعامل اقتصادي قوية مع دول المشرق العربي, سواء كان ذلك بالنسبة لمنطقة الخليج أو في الهلال الخصيب, كما تسعي الولايات المتحدة الأمريكية في الوقت ذاته إلي تحسين صورتها التي شوهها الدعم الدائم لإسرائيل, والتدخلات المتتالية في المنطقة, لهذا فانها تبدي تفهما عاما لجوهر القضية الفلسطينية, وتعاطفا ظاهريا مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني, فالولايات المتحدة تمارس حاليا دور علاقات عامة بالمنطقة تحاول به واشنطن التخلص من الآثار السلبية التي احدثتها اخطاء متراكمة لسياستها الدولية والاقليمية في مناطق مختلفة من العالم, فضلا عن ان الرئيس الأمريكي الذي سيغادر مكتبه في البيت الأبيض بعد شهور قليلة, يريد هو الآخر ان يجمل صورته وصورة حزبه بعد سلسلة طويلة من الانتقادات التي استهدفت الإدارة الأمريكية الحالية علي نحو غير مسبوق في مناسبات عدة بدءا من العراق مرورا بالبلقان وصولا إلي مونيكا!
اما إسرائيل فهي تبدو الرابح الأول واللاعب النشيط علي مسرح الأحداث في المنطقة, فهي تكاد تنجح في تشكيل ملامح التسوية السلمية لتقترب إلي حد كبير من تصورها المنفرد لشكل السلام بالمفهوم الإسرائيلي بكل ابعاده الأمنية والاقتصادية والبشرية وشكل مستقبل المنطقة, كما تريده إسرائيل, ولايخفي علي أحد ان إسرائيل لاتنظر إلي كارت التوقيع مع سوريا في حد ذاته,, ولكنها تتطلع أيضا إلي كارت التطبيع مع دول المنطقة خصوصا دول الثروة النفطية بالدرجة الأولي, وهو أمر يفرض علي الدول العربية ان تفكر بشكل مختلف في المستقبل, وان تنسق سياساتها الاقتصادية لأن الاطراف الأخري قد فرغت من ذلك بالفعل, اما سوريا فإنها قد اكتشفت ان الظروف حولها تدعوها إلي استئناف المفاوضات والتقدم نحو تسوية علي الارض تستعيد بها الجولان بصورة تقترب من استعادة مصر لسيناء, علي ألا يؤدي ذلك إلي تغيير في الطبيعة الحالية للعلاقات السورية ـ اللبنانية, ولاشك ان السياسة الخارجية السورية تتصرف حاليا وفي خلفيتها الاطروحات التاريخية لسورية الكبري مع احساس مرحلي بدورها في منطقة الهلال الخصيب, يضاف إلي ذلك عامل يتصل بالظروف الداخلية للسياسة والحكم في سوريا, والمفاوض السوري يدرك انه يملك ورقتين في وقت واحد هما اتفاقيتا سلام بين إسرائيل وسوريا ولبنان من جانب, وفتح الباب للتطبيع النهائي بين إسرائيل والدول العربية الأخري من جانب آخر, بل انني اكاد ارقب عملية تهيئة واضحة في عدد من العواصم العربية للهرولة نحو إسرائيل فور استكمال مراسم توقيع اتفاقية السلام بين سوريا ولبنان وإسرائيل ووصول المسار الفلسطيني بشكل مقبول إلي مراحله النهائية, ويجب ان نعترف هنا بأن الحياء القومي لن يكون لوجوده مبرر قوي في ظل التسوية القادمة, علي اعتبار انه لايمكن ان نطالب طرفا بأن يكون ملكيا اكثر من الملك ذاته, ثم يبقي المسار اللبناني في حالة ترقب بحكم خصوصيته ومكانة لبنان الفريدة دوليا وعربيا وهي دولة صغيرة راقية دفعت ثمنا غاليا للصراع العربي ـ الإسرائيلي علي ارضها عبر العقود الثلاثة الأخيرة, واما الفلسطينيون فهم يناضلون علي موائد التفاوض في صبر طويل, ويدركون ان إسرائيل قد تسعي إلي جعل نهاية المفاوضات في غير صالحهم, وهم يكتشفون أيضا أن المعروض عليهم ينكمش يوما بعد يوم حيث تقوم إسرائيل بعملية تغيير واسعة علي الارض مع مواصلة سياسة استيطانية متوحشة تجعل الدولة الفلسطينية المنتظرة دويلة صغيرة تحت وصاية امنية إسرائيلية دائمة فضلا عن تطويقها بحصار جغرافي قائم.
وفي رأينا ان الطرف الفلسطيني لايتفاوض من مركز قوة لاسباب تتصل بالموقف العربي عموما, وسوء العلاقات الفلسطينية ـ السورية خصوصا, فضلا عن التداخل بين المباحثات المرحلية والمحادثات النهائية في وقت واحد, ولاشك ان غياب التنسيق العربي بين سوريا وقيادة عرفات في مرحلة التفاوض الحاسم يشكل جانبا سلبيا واضحا علي مستقبل الدور العربي كله في المنطقة.
المشهد التالي لمسرح العمليات
ان البحث في التوقعات المنتظرة خلال السنوات القليلة القادمة لمستقبل الشرق الأوسط يبدو امرا محفوفا بالمخاطر, فالتغيرات سريعة, والتحولات مفاجئة والشعور العام في المنطقة يتأرجح بين التشاؤم والتفاؤل عدة مرات في الشهر الواحد, وفقا لتصريحات الأطراف ومواقفها التفاوضية, وما نراه من كرة الثلج فوق سطح المياه هو اصغر بكثير مما لانراه في اعماقها, ومع ذلك فإننا نجازف زاعمين ان التسوية قادمة, ولكننا لا نستطيع ان نجزم ان السلام قادم, فالأخير طرح يقوم علي أسس تتميز بالعدالة والشمولية, وهما شرطان لايبدو تحقيقهما مؤكدا حتي الآن, واستقراء التاريخ الحديث يوضح بشكل لا لبس فيه ان أية تسوية غير متوازنة ولا تسمح بحد ادني من العدالة النسبية لن يكتب لها الدوام, اذ ان شعور طرف بالاجداف الذي لحق به سوف يؤدي بالضرورة إلي غيبة السلام وافتقاد الأمن واستمرار المخاوف, كما ان زهو الطرف الذي تمت التسوية لصالحه يؤدي به هو الآخر إلي حالة من استمراء ما تحقق, والمضي بنفس الاسلوب, واعتماد ذات السياسة, ولعل درس الحرب العالمية الأولي هو خير شاهد علي صحة مانقول, فقد كان الشعور بعدم التوازن بين الاطراف في تسويات مابعد تلك الحرب,, هو المقدمة الطبيعية لتفريخ الفكر القومي المتطرف وميلاد الحركة النازية ونشوب الحرب العالمية الثانية, لذلك كله فإننا نأمل ان تحقق التسوية درجة من درجات العدالة التي يشعر فيها كل طرف بأنه قد حقق معظم تطلعاته ولا اقول كلها, اما ماهو غير ذلك فلن تكون له الا نتائج سلبية علي مستقبل المنطقة بعد صراع استمر قرنا كاملا منذ بدأت بوادره في نهاية القرن التاسع عشر حتي انتهي القرن العشرون بفصول مثيرة لمشاهد مختلفة من ذلك الصراع علي ارض هذه المنطقة, الحساسة بثروتها, المتميزة باستراتيجيتها, ذات القيمة بتراثها الروحي وتداخلها الحضاري والثقافي.
ولاشك ان عقد قمة عربية خلال الشهور القليلة القادمة سوف يكون له أثره الايجابي في دعم الموقف التفاوضي لجميع الاطراف العربية خصوصا الفلسطيني منها, بشرط ان تكون قمة عمليا تدخل إلي جوهر القضايا, وتعالج الأمور بحكمة وموضوعية, بعيدا عن الشعارات المكررة, والقوالب المعتادة والافكار المستهلكة, ونستطيع فيها ان ننحي جانبا بعضا من مشكلاتنا المزمنة للبحث في المستقبل حتي نعفية من سلبيات الماضي وخطاياه التي لاتخفي علي احد.
الدور المصري علي المسرح الجديد
ان الدور المصري ليس معطاة تاريخية بلهاء, ولكنه نتاج تراكم طويل لعبت فيه الجغرافيا دورا فاعلا, فمصر دولة ملتقي اجتمعت لديها كل اسباب التفوق وجميع عناصر التميز, كما ان تعددية المسار المصري بين حضارات افريقيا والبحر المتوسط في جانب, والحضارة العربية الإسلامية في جانب آخر,, قد تركت في مجملها بصمة رائعة علي التكوين الثقافي المصري, الذي اعتمد دائما علي عبقرية الزمان, والمكان عندما يلحق بهما العنصر البشري المتكامل برغم تفاوت التوزيع الديموغرافي, من هنا فان عروبة مصر ليست رداء نرتديه حين نريد ويخلعه عنا غيرنا حين يشاء, فدور مصر المركزي المحوري لم يكن منحة من غيرها, ولكنه جاء نتيجة طبيعية لدور قيادي طويل وتضحيات قومية جسيمة, مع تحمل مسئوليات ضخمة قامت بها مصر نتيجة الاحساس بالابوية القومية عبر القرون, والذي يدعوني الآن إلي طرح هذه الحقائق المستقرة, هو ما تروج له بعض الدوائر المعادية للدور المصري, والتي تهمس في كثير من أورقة السياسة الدولية والاقليمية بأن ذلك الدور سوف يتعرض للتهميش في ظل التغيير الجذري الذي قد يطرأ علي المنطقة نتيجة الانتقال من مرحلة إلي اخري في الصراع العربي الإسرائيلي, وقد تناسي اصحاب هذه التوجهات الخبيثة ان مصر هي التي قادت المنطقة حربا وسلاما, وان كل المبادرات المهمة قد صدرت عنها, وكل الأفكار الكبري انطلقت منها, وعندما قاطعت الدول العربية مصر لعقد كامل من الزمان لم يغب الدور المصري ولم يتضاءل تأثير القاهرة في السياستين الدولية والاقليمية, وذلك لا يعني بالطبع أننا غير مدركين لكل المحاولات التاريخية لعزل مصر عن دوائرها المفتوحة, ومحاولة حصرها في دائرة واحدة منها ان اتفاقية لندن عام1840 كانت محاولة واضحة في هذا السياق خلال القرن التاسع عشر, كما كانت حرب1967 هي محاولة واضحة اخري في القرن العشرين, وكان الهدف دائما هو حصار مصر داخل حدودها وايقاف تأثيرها علي من حولها, وندرك الآن أن هناك محاولات خفية تحاول توجيه مصر بعيدا عن المشرق العربي مع تحجيم دورها في الجنوب واضعاف علاقتها مع دول المغربي العربي, ولاشك ان دعاة هذا التوجه انما يستثمرون اوضاع العالم العربي وحالة فقدان الثقة المتبادلة بين اقطاره, مع التطلع الدائم إلي إقامة علاقات مباشرة بين القوي الكبري والدول العربية منفردة, وهنا لانغفل أن غزو الكويت عام1990 وتداعيات الموقف العربي بعدها سوف يبقي علامة سلبية علي طريق العمل العربي المشترك.
ان محاولة استمالة بعض الدول العربية في ظل مايسمي بثقافة السلام, واستقطاب البعض الآخر من خلال ارتباطات اقتصادية وتجارية طويلة المدي بعد استكمال التسوية السلمية, ان ذلك كله يدعونا ـ كعرب وليس كمصريين فقط ـ إلي ضرورة الوعي الكامل بما يدور حولنا وما يخطط لنا, وليدرك الجميع ان قيادة مصر كانت ولاتزال وسوف تظل هي الضمان الحقيقي لسلامة الجبهة العربية وصدق توجهاتها القومية, ان الدور المصري قابل للتطور ولكنه غير قابل للتآكل, لأن غياب هذا الدور يعني امورا كثيرة لاداعي للخوض فيها, خصوصا وان التلازم بين الوصول إلي التسوية الشاملة وتحقيق السلام العادل ليس مؤكدا في ظل استمرار معطيات كثيرة يقع في مقدمتها بقاء الملف النووي لإسرائيل علي ما هو عليه, فالتسوية إجراء قانوني, ولكن السلام تحول انساني.
.. ان المسرح قد اكتمل تجهيزه للمشاهد الجديدة, واللاعبون قد تهيأوا للأدوار المتعددة, وسوف يفتح الستار عن شرق أوسط مختلف تبدو كل ملاحه واضحة, وكل ادواته جاهزة, وكل رموزه قادمة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/2000/2/8/WRIT1.HTM