ثار جدل منذ فترة بعد مقال للدكتورة نعمات فؤاد دعت فيه إلي استعادة نظام الكتاتيب كبوابة للتعليم من جديد أسوة بما كان قائما في بلادنا حتي منتصف هذا القرن, ورد عليها عدد من رجال التعليم وخبراء التربية منتقدين هذه الدعوة التي يرون فيها ردة عن النظم التعليمية الحديثة, بل إن صاحب أحد الردود استشهد بشكوي الدكتور طه حسين في كتابه الأيام من الشيخ والعريف في واحد من كتاتيب قرية الكيلو مركز المراغة منذ أكثر من قرن مضي لكي يدلل علي مساوئ الكتاتيب حتي في عصرنا الذي ازدهرت فيه!
وواقع الأمر أنني لست ممن يستهويهم الهجوم الدائم علي الدكتوره نعمات فؤاد لأنني أري أنها ـ برغم حدة في الرأي وغلظة في الجدل أحيانا ـ نموذج يستحق الاعجاب لسيدة من مصر نالت حظا وفيرا من الثقافة وقدرا رفيعا من المعرفة, فبينما ضربت في التاريخ الاسلامي بسهم فهي أيضا وفية لتاريخ بلدها الفرعوني وتمثل في شخصيتها تزاوجا بين الحضارتين يستحق الاهتمام والتقدير.
ومع ذلك فإنني أظن أن دعوتها لعودة الكتاتيب لم تكن واضحة الهدف دقيقة المحتوي, فهي تريد أن تقول أن سقم اللغة العربية لدي الأجيال الجديدة وهبوط مستوي إجادة الفصحي ـ كتابة ونحوا ـ إنما يرجعان إلي قصور في حفظ القرآن الكريم كتاب العربية الأول وإهمال للدراسات اللغوية في سن مبكرة, وذلك تشخيص قد لا يختلف معها فيه أحد, أما أن يصبح ذلك مبررا للدعوة إلي عودة الكتاتيب ونحن ندخل القرن الحادي والعشرين فتلك قضية أخري.. فالكتاتيب ـ وقد التحقت بأحدها في نهاية الأربعينيات ـ ارتبطت بتركيبة اجتماعية تغيرت, ونمط للقرية المصرية لم يعد له وجود تقريبا, كما أن البيئة الثقافية في مصر لم تعد هي تلك التي عرفناها في القرنين الماضيين, أضف إلي ذلك كله وربما قبله أيضا أن البدائل الحديثة قائمة, ونظم التعليم الجديدة يمكن أن تحقق الهدف المطلوب دون اللجوء إلي الوسيلة القديمة المطروحة, واعترف أن الذي لفت نظري إلي الموضوع برمته حوار دار بيني وبين الدكتور سامح همام الأستاذ بجامعة القاهرة ورائد طب الأوعية الدموية في مصر أثناء لقاء عابر في فيينا عندما كان يحضر مؤتمرا علميا دوليا في عاصمة النمسا, والرجل له مكانة عالمية في تخصصه فضلا عن انحداره من أحد بيوتات المنيا العريقة فقد كان والده عضوا في مجلس الشيوخ, وذات يوم قرر د. همام ترشيح نفسه لعمادة طب القاهرة وفاز عليه وقتها الأستاذ الراحل د. خيري سمرة بصوت واحد, ويومها تلقي د. همام مكالمة هاتفية من الدكتور رفعت المحجوب رئيس مجلس الشعب السابق رحمه الله ـ يقول له لقد نلت التشريف ورفع عنك التكليف وهو نفسه د. همام الذي قام بدور طبي حاسم لانقاذ حياة الروائي الكبير نجيب محفوظ يوم أن تعرض أديب مصر وهو في شيخوخته لطعنة غادرة, وقد أردت بكل هذا التعريف أن أضع الرجل في إطاره اللائق حتي يكون تقييم رأيه مستندا إلي خلفية واضحة, لقد قال لي الأستاذ الكبير والطبيب العالمي أنه يتفق مع د. نعمات فؤاد ـ المعروفة بغيرتها الشديدة علي مصلحة الوطن من خلال مواقف صلبة مهما تكن مساحة الخلاف معها في الرأي ـ فيما ذهبت اليه لأنه ثبت علميا أن الطفل يستكمل في سنواته الأولي فيما بين الثالثة والسادسة من طفولته ثلث رصيده من المعارف والمعلومات في حياته كلها ويستكمل الثلث الثاني فيما بين السنة السادسة والسنة الثامنة عشرة من حياته, بينما يستجمع الثلث الأخير فيما يتبقي من عمره, وهذا منظور خطير للطفولة يجب أن نقف أمامه طويلا, فالطفل المصري ـ وربما الطفل العربي أيضا ـ يضيع تلك السنوات الثلاث الحاسمة في حضانة قد لاتبدو هي المكان الأوفق تربويا أو تعليميا, لذلك يقترح د. همام النظر بجدية إلي مرحلة ما قبل التعليم الابتدائي, من هنا فإن رأيه وكذلك اجتهاد د. نعمات فؤاد لا يمسان من قريب أو بعيد جوهر العملية التعليمية القائمة التي نري فيها تطورا ملحوظا وجهدا مخلصا, ولكن محور الحديث يدور حول السنوات الضائعة من أعمار أطفالنا بين المنزل والحضانة خلال فترة يجب أن ينال فيها الطفل ثلث معارفه ومعلوماته في حياته كلها! ويقترح د. همام ـ ولعله بدأ بالفعل مشروعا في هذا الخصوص بادئا من محافظته ـ نشر دور حضانة اسلامية في ربوع القري وأحياء المدن من أجل تحفيظ القرآن حتي تصبح الفصحي هي لغة الأجيال الجديدة بدلا من توزيع جهد الطفل المصري وربما العربي بين العامية والفصحي وهو جهد يستطيع لو اختزله بالتركيز علي الفصحي أن يضيف إلي العربية لغة اجنبية بدلا من الحيرة بين لغة المنزل والشارع في جانب ولغة المدرسة والكتاب في جانب آخر, فلقد تعلمنا من الطفولة الباكرة لغة غير التي نقرأ أو نكتب بها وهو أمر يضاعف المجهود ويكون في الغالب خصما من رصيد الالمام المطلوب باللغة العربية الصحيحة, وهنا اتفق مع د. همام في الهدف وإن كان لي بعض التحفظ علي الوسيلة فانا قلق دائما من كل ما يفصل بين المصريين بسبب ديانتهم ـ خارج دور العبادة ـ لأنني أري أن وحدة الفكر الوطني وتجانس المجتمع المصري بكل فئاته وطوائفه هدف لا يسبقه سواه ولا يطغي عليه غيره, ولعل الأستاذ الكبير يدرك ذلك, وربما قبلي, ففي ذاكرته ـ بلا شك ـ أن الكتاتيب كانت منتشرة في الريف المصري ومدن الدلتا والصعيد يلتحق بها المسلمون والمسيحيون علي حد سواء, بل إن كثيرا من الأقباط كانوا يسعون لإلحاق أبنائهم بالكتاتيب حتي يتمكن الشيخ الأزهري من تحفيظهم بعض القرآن الكريم تقويما للسانهم العربي وتمكينا لهم من لغتهم الأولي, ومازلنا نفكر أن الاعلام الرائدة في تاريخنا الحديث ـ مسلمين واقباطا ـ قد مروا بمرحلة الكتاتيب في طفولتهم حتي وإن انتهي بهم المطاف بعد ذلك إلي السوربون أو اكسفورد أو غيرهما من جامعات العرب الشهيرة.. ولازالت اذكر عندما كنت أدرس للحصول علي الدكتوراه في جامعة لندن منذ قرابة ثلاثين عاما كيف كانت تستهويني لغة المجاهد الكبير مكرم عبيد باشا وأري فيها بصمة شيوخ الكتاتيب من رجال الأزهر الشريف في عصر جميل التحق فيه عدد من الأقباط بذلك الجامع الاسلامي الشامخ طلبا للمعرفة وتقويما للغة بل وأحيانا لدراسة الشريعة الاسلامية وفقه الأئمة, لذلك فإنني أشارك د. همام قلقه من تبديد تلك المرحلة العمرية المبكرة من طفولة المصريين بل والعرب أيضا في أسر تلك الأزدواجية اللغوية, وأطالب معه باستثمار فترة ما قبل الالتحاق بالتعليم الابتدائي في تعليم اللغة العربية ببساطة وسلاسة من خلال الجمل الكاملة والتراكيب السهلة مع البعد تماما عن دراسة النحو في تلك المرحلة المبكرة, فأنا أريد للطفل المصري أن يتعلم اللغة العربية كما يتعلم عزف البيانو( سماعي) وليس بالضروة من خلال( النوتة الموسيقية) خصوصا وأن مدارس التعليم الحديثة تركز علي الطريقة الكلية التي تتميز بالشمولية وتقترب من مفهوم وحدة المعرفة بدلا من المضي في تلك السن الصغيرة وراء التفاصيل, فالأفضل عند التعليم هو الانتقال من العام إلي الخاص وليس العكس.. وفكرة الدكتور همام جديرة بالرعاية مع تطوير يعتمد علي شرطين أولهما انفتاح التجربة علي المصريين جميعا بغير استثناء مع إعطاء الفرصة للمسلمين والمسيحيين بنفس الدرجة, وثانيهما عدم المساس بجوهر العملية التعليمية القائمة علي اعتبار أن الاقتراح يدور حول الافادة من المرحلة السابقة علي الالتحاق بالمدرسة الابتدائية مع قيد مهم لابد من الاشارة اليه وهو الذي يتصل بمحظور لا يخفي علي فطنة الدكتور همام ـ الوطني المهموم بمشكلات مصر الزاهد في المناصب والمبتعد عن الأضواء ـ وهو ضرورة التدقيق الشديد عند التقاء من يقومون بتحفيظ القرآن الكريم ويعملون علي ترغيب اطفالنا في لغتهم القومية وابراز جوانب جمالها امامهم في مقتبل العمر لأن وصول أصحاب العقليات المتزمتة أو ذوي الافكار المتشددة إلي مواقع التوجيه والتأثير في تلك المرحلة من الطفولة الباكرة سوف يكون أمرا بالغ الخطورة وسنكون أمام واحد من احتمالين أولهما تعقيد الأطفال من لغتهم وتعجيز عقولهم الصغيرة عن ادراك شخصيتها الرائعة كما احتواها القرآن الكريم وثانيهما احتمال اصابة بعضهم بنوع من التزيد والمغالاة عند فهم امور الدين وأساليب اللغة علي نحو قد يفرخ للوطن عناصر يمكن أن تتجه صوب ساحات التطرف الفكري والتزمت الاخلاقي, ولحسن الحظ أنني وجدت أن الدكتور همام علي دراية بهذه الاحتمالات ووعي كامل بنتائجها مع تحوط شديد لها, باعتبار أن الهدف الحقيقي هو ترسيخ أصول لغتنا العربية لدي الأجيال الجديدة والحفاظ علي الهوية القومية لهم وهي شواغل حقيقية لكل من يعنيه مستقبل الوطن في الألفية الثالثة.
ولعلي هنا أطرح عددا من الملاحظات المرتبطة بتلك المرحلة العمرية الضائعة من معظم أطفالنا حيث يقضونها أمام جهاز التلفزة في المنازل يلتقطون ما يجب وما لا يجب, أو يصرفونها في دور للحضانة تقدم ماله جدوي وماليس منه جدوي.. وهذه الملاحظات في مجملها هي: ـ
1 ـ إن الفكرة الخاصة بدور حضانة تعلم اللغة العربية من خلال القرآن الكريم هي فكرة تقترب من مفهوم مدرسة الفصل الواحد في التعليم الابتدائي مع الفارق في المرحلة العمرية فقط, ولكن جوهر الفكرتين يلتقي عند مفهوم التغلب علي نقص الإمكانات وضرورة الوصول لأصغر قرية وأبعد حي وأقصي نقطة يعيش فيها مصريون علي خريطة الوطن.
2 ـ إن الفكرة تستعيد مفهوما تاه في زحام العصر وهو ذلك الذي يؤكد أن للتقدم طرقا كثيرة وأنه ليس رهنا بالنمط الغربي وحده, إذ أن توظيف معطيات البيئة في ظل ظروف كل مجتمع هو الذي يصنع عوامل التطور الذاتية وليس بالضرورة أن يتم ذلك نقلا عن الغير أو تقليدا للآخر.
3 ـ إن استغلال المرحلة العمرية السابقة علي الالتحاق بالتعليم الالزامي ضرورة ملحة لأنها سنوات حاسمة في تكوين عقل الطفل وتشكيل شخصيته لذلك فإن اهدارها نتيجة غياب التخطيط السليم أو التربية الصحية أو التنظيم المتكامل هو إهدار لطاقات الوطن وتبديد لاغلي استثماراته وهو الاستثمار البشري, فضلا عن أن تنمية الذكاء وتدريب المهارات يبدآن من تلك السن ولا يهبط انفجأة علي الطالب في الجامعة!
إنما أردت من هذا العرض السريع للأفكار المتصلة باستغلال سنوات الطفولة الأولي أن أنبه إلي أن الطفل المصري يتعلم لغتين عربيتين في وقت واحد, بينما ينعم نظيره الذي يبدأ بالانجليزية أو الفرنسية بلغة واحدة نطقا وكتابة, والأفكار المطروحة في هذا المقال تحاول كلها توحيد جهود تعلم اللغة العربية السهلة والقريبة من لغة الحوار اليومي حتي تتاح للطفل المصري ـ ونظيره العربي ـ أن يتعلم بنفس الجهد المبذول لغته الأولي ولغة اجنبية أخري معها في وقت يعتمد فيه الخطاب المعاصر علي أدوات حديثة في مقدمتها الالمام بلغة أجنبية واحدة علي الأقل تكون عالمية الانتشار حية التأثير, فالطفل السوي هو الذي تهيأ له العمل علي الجمع بين فكر لغة القرآن وتراثها في جانب, واسلوب التفكير السائد لدي الدول المتقدمة في جانب آخر من خلال الازدواج الثقافي وليس الأزدواج اللغوي كما هو حادث حاليا..
فالتعليم العصري لا يقف عند النمط الغربي وحده كما أنه لا يرتد إلي الوراء ونحن علي أعتاب القرن الحادي والعشرين ليعيد تجربة القرن التاسع عشر, ولقد عشت سنوات في دولة اسيوية كبري هي الهند وشهدت كيف يمكن أن يكون التقدم في كل المجالات ـ بما فيها التعليم ـ وفقا لنمط ذاتي يتسق مع الشخصية القومية وينطلق من مقومات البيئة الثقافية للمجتمع في شبه قارة واسعة لدول يختلط فيها النشاط الزراعي بالصناعات الصغيرة وينتشر معها نمط من التعليم في مدارس صغيرة( أقرب إلي مفهوم الكتاتيب ولكن مع التركيز علي الرياضيات فالأرقام مكون رئيسي في العقل الهندي) في الوديان والجبال علي امتداد ريف الهند الواسعة, بلد الديانات المتعددة والثقافات المختلفة, لذلك فإننا مطالبون في مصر عند التصدي لأسباب التخلف والخلاص منها لتشييد دعائم التقدم أن ألا نقف أمام تجارب أوروبا والأمريكتين وكأنها هي الطريق الوحيد إلي الامام, بل لابد ان يكون في تجارب دول أخري مثل الصين والهند وربما اليابان مع بعض التحفظ بالنسبة للأخيرة علي اعتبار أنها أقرب إلي الصيغة الغربية منها إلي الآسيوية وذلك كله من أجل الحصول علي أقصي عائد لاستثمارات التعليم في ظل ما هو متاح حاليا وما كان قائما من قبل ومازال له وجود في ذاكرتنا الوطنية.
بقيت حقيقة لابد من الإشارة اليها وهي أن التعليم يبدأ بالفعل مع الخطوات الأولي من عمر الوليد حيث يكون بعدها مستعدا لتلقي كل ما يتصل بمعرفة ماحوله, لذلك تبدو مهمتنا خطيرة للغاية وهي تحديد نوعية التلقين الذي يتأثر به الطفل في مستهل حياته, وهنا لا يجب النظر إلي وسيلة معينة باستخفاف ما دامت الغاية واضحة والهدف محددا بل يجب توظيف كل ما هو متاح لخدمة ماهو مطلوب بدءا من الكتاتيب وصولا إلي الجامعات.
هذا بعض من رؤيتنا حول الجدل الذي ثار بعدما طرحت الأستاذة الدكتورة نعمات فؤاد اقتراحها, ثم طوره وأضاف اليه الأستاذ الدكتور سامح همام, وكلها في النهاية أطروحات مفتوحة للحوار البناء لأنها تبغي مصلحة الوطن قبل كل شئ وتهدف إلي إلي تعظيم شأنه دون سواه, وهي أمور لا ينبغي أن تثير حساسية أحد أو تفتح مجالا للتراشق الذي يقوم علي التشكيك في النوايا وهدم جسور التواصل بين الأفكار والأجيال والاجتهادات, وللتذكر دعوة توفيق الحكيم الخالدة التي تطالبنا أن نكون جميعا( الكل في واحد).
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/10/19/WRIT1.HTM