درجت الصحف والدوريات المحلية والعالمية في شهر ديسمبر من كل سنة علي الاعلان عن شخصية العام في مباراة مفتوحة لاختيار اكثرها تأثيرا في احداث السنة وأشدها ارتباطا بما جري فيها واوضحها بصمة علي مسارها, وقد يحتدم الجدل وتختلف الآراء عند تقويم الاشخاص واستعراض الاسماء, ولكن المسألة تزداد صعوبة وتبدو اكثر تعقيدا عندما تتعلق المهمة باختيار شخصية القرن العشرين علي مستوي العالم كله, اذ تتداخل في هذه الحالة أحداث مائة عام كاملة بما فيها من صعود وهبوط وماطرأ عليها من انتعاش او انكماش, كما ان الانتماء القومي يمارس تأثيره عند الاختيار, ويلعب الهوي السياسي دورا في تحديد من يستحق اللقب, فلو سألت امريكيا عن شحصية القرن فقد يقول ودرو ويلسن او تيودر روزفلت او غيرهما من رؤساء الولايات المتحدة الامريكية واذا سألت تركيا فسوف يقول بغير تردد اتاتورك واذا سألت هنديا فسوف يقول علي الفور غاندي, واذا سألت ايرانيا فقد يقول الخوميني, واذا سألت عربيا فقد يقول ناصر واذا سألت فرنسيا فقد يقول ديجول واذا سألت افريقيا فقد يقول مانديلا, واذا سألت مصريا فقد يقول السادات او مبارك, وهكذا تختلف الردود باختلاف النزعات القومية والمشارب السياسية, وواقع الامر ان شخصية القرن مسألة نسبية يصعب الإجماع حولها وقد يستحيل الاتفاق الكامل عليها, ومع ذلك فسوف نجازف بوضع عدد من المعايير التي قد تكون صالحة للأخذ بها عند التفكير في تحديد شخصية القرن العشرين الذي يقترب حاليا من نهايته تاركا وراءه كما هائلا من الاحداث التي تختلط فيها الابتسامات بالاحزان, وتتجاوز معها الضحكات بالدموع في عالم يبدو متشابكا في علاقاته, معقدا في تطوراته, عالم يموج بتيارات فكرية جديدة, واكتشافات علمية حديثة.. وحين نتحدث عن شخصية القرن فإننا لانقصر عناصر الاختيار علي الجانب السياسي وحده, إذ ليس المطلوب ان تكون شخصية القرن العشرين مرتبطة بنجومية الحكم وحدها, حيث ان التعددية قد تعطي الشخصية رونقا وتألقا بين نجوم القرن اللامعة وكواكبه الساطعة في كل مكان.
ولنفكر الآن في معايير الاختيار تمهيدا للتقليب في ملفات القرن العشرين منذ بدايته بحثا عن شخصية القرن, ولعلنا نجمل تلك المعايير فيما يلي: ـــ
اولا: المحلية هي نقطة الانطلاق نحو العالمية:
ان أية شخصية كبري في التاريخ إنما بدأت بالتأثير المباشر في البيئة المحيطة بها والوطن الذي تنتمي إليه, فالنجومية العالمية لاتهبط علي صاحبها من السماء المفتوحة دون خلفية ترتبط بوطنه الاصلي, حتي ولو كانت بدايته الفعلية في واشنطن او لندن او باريس او هوليوود, فالعبرة دائما بتقدير المجتمع المحلي اولا وهو الذي يعطي المتميز اوراق اعتماده نحو العالمية, والامر لايختلف في هذا الشأن بالنسبة للزعيم السياسي ايضا حيث تتحدد مكانته الدولية وفقا لقيمته الوطنية, فمصر قدمت عبد الناصر للعرب في1956, وقدمه العرب للعالم رئيسا لدولة الوحدة في1958, كما ان السادات وضع اسمه علي الخريطة العالمية بحرب اكتوبر1973, ثم احتل مكانته بمبادرة السلام بدءا من عام1977, ولو قسنا بذات المعيار علي الزعامات الكبري في التاريخ لوجدنا دائما ان العالم ينظر اولا لما اعطاه الزعيم لبلاده, فأدولف هتلر ساق ألمانيا الي الهزيمة ومزق اوصالها بديكتاتوريته وجنونه, ونكب العالم بآثار حرب عالمية كبري مازالت بعض آثارها باقية حتي اليوم, لذلك فإن الحديث عن الشهرة والنجومية يختلف بالضرورة عن الحديث حول شخصية القرن, فالمجرمون الكبار هم ايضا من المشاهير لذلك فإن عناصر التميز الحقيقية تظل قابعة في ثراء الشخصية بالمعاني الانسانية, وإسهامها في الارتقاء بالانسان محليا وعالميا..
ثانيا: الاقليمية دور وسيط بين المحلية والعالمية:
اذا استعرضنا زعامات القرن ــ كمثال ــ فسوف يتأكد لدينا انطباع بأن دور الزعيم يخرج من اطاره المحلي ليعبر علي جسر الاقليم الذي ينتمي اليه متجها نحو العالمية, فشارل ديجول بطل تحرير فرنسا يعتبر جزءا رئيسيا من المقاومة الاوروبية للنازي, وكاسترو اكتسب شهرته من مواجهة السيطرة الامريكية في الكاريبي, وهشي منه عرفه العالم من قيادته للفيتناميين ضد الوجود الاجنبي, وصدام حسين سمعت عنه الدنيا من خلال ممارساته السياسية والعسكرية في منطقة الخليج, وقبل ذلك ذاع اسم عبد العزيز بن سعود بعد ان اسس دولة تحمل اسم عائلته في ظاهرة فريدة علي امتداد القرن كله, وهكذا يبدو المحيط الاقليمي هو المعبر الذي تمر عليه الشخصيات المرموقة من منطلقها المحلي الي الساحة العالمية, والواقع ان التداخل الزمني بين المستويات المحلية والاقليمية والدولية يمكن ان يضع النجم في سماء العالم من خلال حادث واحد علي المستويات الثلاثة في الوقت نفسه.
ثالثا: التعددية مفتاح الشخصية المتميزة:
فالزعامة السياسية تكون في الغالب سببا للانضمام لطابور شخصيات القرن الكبري, كما ان الابداع الفني او الابتكار العلمي يمكن ان ينهضا لكي يكونا مبررا لتألق شخصية ماعلي المستوي العالمي, ولكن وجود اكثر من سبب واحد للتميز يعطي صاحبه مكانة اكبر ووهجا اشد بصورة تقترب به من طراز الشخصيات الموسوعية في تاريخ الانسانية قبل ان تأخذ البشرية بنظام التخصص الدقيق فقد كان مألوفا ان نري المفكر الكبير وهو في الوقت نفسه عالم فذ او طبيب مشهور او موسيقي بارع, حيث تجسدت في الشخصية الموسوعية الواحدة كل خصائص التميز واسباب التفوق, لذلك فإن الحديث عن شخصية القرن العشرين لايقف عند حدود جانب واحد اذ ان معايير المفاضلة تأخذ في حساباتها العوامل الاخري التي تمثل الجوانب المتعددة في الشخصية الواحدة حتي تظل الاسباب الموضوعية هي مبرر الاختيار, وسوف نكتشف ان التعددية صفة لحقت بزعامات كثيرة وارتبطت بمواهب بشرية متعددة, لذلك فإنه يتعين علينا احيانا ان نحدد اتجاه دراسة شخصية القرن لنحدد نوعية التخصص الذي نبحث فيه, فاذا اردنا شخصية القرن في مجال العلوم فقد نقولتوماس اديسون اوماري كوري اوالبرت اينشتين واذا بحثنا عنها في مجال الفنون التشكيلية فقد تقولسلفادور دالي اوبابلو بيكاسو, واذا فشتنا عنها في ميدان التمثيل والسينما فقد نذكرشارلي شابلن ملك الكوميديا البريطاني النشأة أو فرديرك فيلليني رائد الواقعية الايطالي الأصل, واذا اتجهنا الي ميدان الفلسفة والادب فقد نجد اسمبرتراند راسل او جان بول سارتر وهنا يكون من المفيد التنقيب ايضا في اسماء الحاصلين علي جائزةنوبل خلال المائة عام الاخيرة فقد يساعد ذلك علي اكتشاف شخصية القرن في اطار التخصصات المختلفة, لان الذي نريده في النهاية هو الوصول الي شخصية واحدة تجمع في جوانبها المتعددة كل ملامح التميز خلال القرن العشرين كله.
رابعا: الرؤية الشاملة اداة الشخصية المتميزة:
يبدو واضحا انه يصعب الاحتكام الي معيار فكري محدد عند البحث عن شخصية القرن, ولكن الامر الذي لاخلاف حوله هو ان الشخصية ذات الابعاد المتنوعة في اطار رؤية بعيدة المدي هي الاكثر تميزا واعمق اثرا, فالسياسي ورجل الدولة والمفكر وكذلك الاديب والعالم والفنان يحتاجون جميعا الي قدرة كبيرة علي تصور المستقبل واستشراف ملامحه والسعي بخطوات محسوبة نحوه, وهذا هو الفارق بين من يملكون الرؤية ومن لم يتجاوزوها, وشخصية القرن لابد ان تكون ذات خيال واسع يسمح باستكشاف ملامح الغاية النهائية ــ دولية او اقليمية او محلية ــ التي يسعي صاحبها لتحقيقها, والحكام الذين عانوا فقر الخيال وغياب الرؤية اختفوا في ازقة التاريخ فور ابتعادهم عن اضواء السلطة, وذات الامر ينسحب علي كل الذين هبطوا علي مواقعهم دون مقومات حقيقية او امكانات واضحة, واذا نظرنا عبر عقود القرن العشرين فسوف ندرك ان الشخصيات المحورية التي كانت بمثابة نقاط تحول في مسار الانسانية هي كلها شخصيات تمتلك ثراء الرؤية وعمق النظرة ودقة الملاحظة, والعظام هم اصحاب الاهداف الكبيرة والآمال البعيدة, وليسوا ابدا قصار النظر او محدودي الرؤية, انهم من يركبون قطار العمر وهم يتخيلون مساره المحدد ومحطته الاخيرة التي يتجهون اليها ويعملون من اجل بلوغها.
خامسا: الحكم علي الشخصيات الكبري لايكون بشكل النهاية:
فالحكم علي المسرحية لايكون بفصلها الأخير وحده, بل لابد من اللجوء الي ادوات عادلة للتقويم تضع في اعتبارها الظروف الموضوعية والمرحلة التاريخية وطبيعة التحديات التي اعترضت مسار الشخصية قرب نهاية رحلتها في الحياة, فنابليون بونابرت مات سجينا مهزوما, ومحمد علي انتهت حياته بعد تقليص امبراطوريته المصرية في اتفاقية لندن1840 ثم رحل عن عالمنا وهو يعاني اعراض الجنون, واحمد عرابي كان الناس يسخرون منه اذا رأوه وقد كف بصره تقريبا بعد عودته من المنفي بل ان بسطاء التفكير كانوا يلعنون جهاده الوطني ويحملونه مسئولية دخول الاحتلال البريطاني لمصر, وجمال عبد الناصر ودع الحياة كالاسد الجريح بعد سنوات قليلة من هزيمة يونيو النكراء وهو رافع شعاره المعروف إن ماأخذ بالقوة لايسترد بغير القوة, بعد أن أعلن أيضا أنه لاصوت يعلو علي صوت المعركة وهكذا لاتبدو العبرة بالخاتمة وحدها, وإلا حكمنا علي معظم شخصيات القرن بالذبول والانزواء, لان ذلك معناه اخترال حياتهم في مشهد واحد عند إسدال الستار ايذانا بانتهاء الفصل الاخير, وهو امر غير عادل كما انه يحيل حركة التاريخ كله الي مجموعة من النهايات السعيدة او التعيسة.
هذه هي قراءتنا للمعايير الرئيسية التي تدور حولها عملية تقويم شخصيات القرن في المجالات المختلفة, وهي تؤكد في مجملها ان التنوع والتعددية في جانب, والرؤية والعالمية في الجانب الآخر يشكلان معا الاطار العام لشخصية القرن..
وانطلاقا من هذه المعايير فإنني اتوقف كثيرا امام شخصيةالمهاتما غاندي من بين كل شخصيات القرن العشرين ذلك انني اري ان المعايير الواردة تنطبق عليه اكثر من غيره وتعطيه ميزات لم يمتلكها سواه علي امتداد القرن كله, فقد اعطي بلاده روحا جديدة تجاوزت حدودها الي العالم بأسره, واتسمت شخصيته النادرة بالتعددية والتنوع في الفكر والهدف, كما كانت رؤيته البعيدة وفلسفته العميقة هي ابرز سماته وارقي خصائصه, وعلي الرغم من ان نهايته قد جاءت برصاصات من متعصب هندوسي فإنها كانت الوسام الاخير علي صدر المهاتما العظيم تاكيدا لمكانته الرفيعة التي تخطت دائما حاجزي المكان والزمان, وقد يقول قائل إن غاندي يمثل في النهاية فلسفة عدمية تعبر عن المقاومة السلبية والحماس لمنطق اللاعنف في مواجهة من يريدون القضاء علي حرية وطنه وكرامة بلاده..
وهي قول مردود عليه لان قيمة غاندي الحقيقية انما تنبع من زواية تختلف عن الروح التي سادت القرن المتصف بالعنف في عمومه, وذلك مصدر تميز غاندي عن سواه من الشخصيات الكبري التي ظهرت علي مسرح الحياة في القرن العشرين, فقوة غاندي الروحية تنطلق من ضعفه الجسدي, ومكانته الانسانية مصدرها فلسفته الذاتية التي افرزتها عبقريته التي ادركت مبكرا ان المقاومة السلبية هي سلاح المقهورين عند انعدام التكافؤ في القوي واختلال التوازن في العلاقات, إن غاندي ينفرد في رأيي عن كل شخصيات القرن بخصائص ثلاث:ــ
(ا) التعددية الواضحة في الشخصية والروح معا, فهو زعيم سياسي وفيلسوف إنساني ومفكر رفيع القدر عبرت مبادئه عن تراث الهند الضخم وحضارتها المتعددة المصادر.
(ب) التسامح الرحب الذي يستوعب اعداءه مثلما يحتوي اصدقاءه, واذا ذكر التسامح الانساني فإن غاندي يجسد أبلغ صورة وأروع امثلته سواء كان ذلك في مرحلة وجوده في جنوب افريقيا او بعدها.
(ج) البساطة العظيمة التي تؤكد انه نسيج وحده وانه نموذج انساني فريد, فهو قاهر التعصب وداعية السلام مع النفس, ورائد الوحدة الوطنية في بلد الطوائف والديانات واللغات..
ان اختيار غاندي كشخصية القرن العشرين لا يأتي من مفاضلة عشوائية بين عدد من القيادات المؤثرة في حركة القرن ولكنه يعبر ايضا عن قناعه طوعية لدي ضمير انسان القرن, العشرين تدرك قيمة ذلك الرجل الذي غير التاريخ ــ فلسفة وفكرا ـــ ولم يتنكر لمواقفه في اقسي الظروف واصعب الاوقات.. إنه غاندي الذي اعطي الامل للشعوب المقهورة عندما ابتكر فلسفة العصيان المدني, واثبت ان لدي الانسان الأعزل قوة روحية تفوق كل سلاح وعتاد, يواجه بها سطوة القوة وبطش الظلم, وهوغاندي الذي كان يجسد خلاصة روح الشرق في مواجهة مادية الغرب, وهو ايضا الذي استخدم سلاح المقاطعة امام منتجات بريطانيا العظمي وبضائع دولة الاحتلال لكي يؤكد ان بساطة الحياة وزهد العيش بديلان صامدان ضد إغراء الرفاهة ومحاولات تمييع الشخصية القومية واضعاف الشعور بالانتماءالوطني.. ولقد ادرك المصريون تلك المنزلة الرفيعة التي بلغها المناضل الهندي وهو يضرب الامثال للناس حتي قال فيه امير الشعراء:
سلام النيل لغاندي
وهذا الزهر من عندي..
عندما كانت تمر البارجة التي تحمله عبر قناة السويس عام1931 لمفاوضات الدائرة المستديرة في لندن.. انه غاندي المناضل من اجل حرية الشعوب.. المدافع عن حقوق الامم.. رائد كرامة انسان القرن العشرين.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/10/5/WRIT1.HTM