يتمثل حصاد القرن العشرين لمصر في سبيكة فريدة من المواقف والاحداث التي تشكلت منها شخصية مصر المعاصرة بعد أن حدد القرن التاسع عشر ملامح مصر الحديثة, وليس من شك في أن دراسة التطور السياسي والاقتصادي والتحول الثقافي والاجتماعي لمصر في القرن العشرين لايمكن دراسته دون الوعي بالمتغيرات المثيلة التي حملها القرن العشرون علي الصعيدين العالمي والعربي وهو ماتعرضنا له في المقالين السابقين, ومصر دولة مركزية اقليميا محورية دوليا, منحتها الجغرافيا مكانا متميزا وأعطاها التاريخ مكانة فريدة وعلاقة مصر بالقرن العشرين علاقة هبوط وصعود إذ تغير خلاله نظام الحكم بها وتحول من الملكية إلي الجمهورية كما شهدت مصر تحولات ضخمة يبدو مجملها ايجابيا ولكنها لاتخلو أيضا من سلبيات لعبت فيها الزيادة الطردية لعدد سكان مصر في متوالية شبه فلكية دورا مؤثرا للغاية, فقد تزايد عدد المصريين والمصريات إلي أكثر من ثلاثة اضعافه عبر سنوات القرن العشرين, وهو ما انعكس علي كثير من أوضاع البلاد الداخلية, وامتص قدرا كبيرا من معدلات زيادة النمو الاقتصادي سواء ما اتصل منها بحجم الانتاج أونوعية الخدمات, كما أنه أيضا قرن التحول الثقافي الواسع في العقل المصري, بدأ سنواته برحيل الإمام المجدد محمد عبده, وعرفت عقوده الاولي حركة تحرير المرأة, كما أنه القرن الذي شهد ظهور الجامعة بمفهومها العصري وارتفع في منتصفه شعار' التعليم كالماء والهواء', وهو قرن أحمد لطفي السيد وشوقي وحافظ وطه حسين والعقاد وسلامة موسي والحكيم ونجيب محفوظ, وهو أيضا قرن سيد درويش وأم كلثوم وعبد الوهاب, أنه قرن الرموز الضخمة والاعلام الشامخة في حياتنا الفكرية وثروتنا الثقافية, وهو قرن الزعامة عربيا, والريادة اسلاميا, والقيادة افريقيا, أنه قرن سنوات المجد وأعوام الهوان في الوقت ذاته, ذاق فيه المصريون معاناة الهزيمة وعرفوا معه طعم النصر, أنه قرن فؤاد الأول وعبد الناصر والسادات ومبارك, كما أنه قرن مصطفي كامل وسعد زغلول ومصطفي النحاس وحسن البنا, انه القرن الذي اختلطت عبر سنواته النداءات الوطنية بالبيانات السياسية والفتاوي الدينية, انه القرن الذي ارتفع فيه مع الثورة الشعبية عام1919 شعارها الخالد( مصر للمصريين) بنفس الحماس الذي رفعت به ثورة الجيش في1952 شعارها( ارفع رأسك ياأخي) وكأن الشعارين يكملان معا عبارة أحمد عرابي المدوية أمام خديو مصر في القرن التاسع عشر عندما صاح( لن نورث بعد اليوم), أنها مسيرة شعب خالد.. ورحلة وطن عظيم.في دروب العصر ومنعطفات التاريخ.
واذا كان التركيز في نقاط محدودة هو أفضل اسلوب لاستخراج الأفكار, فإننا نفتح الملفات المصرية للقرن العشرين علي النحو التالي:-
أولا :- إذا تطلعنا إلي بدايات القرن فسوف نتعاطف مع حماس ذلك الشاب الذي انطلق صوته الي كل الأسماع في وقته برغم وطأة المرض في صدره وكثرة التحديات حوله لكي يقول' لو لم أكن مصريا لوددت أن أكون مصريا', وهو ذاته مصطفي كامل الذي انبري لكي يكون محامي مصر الأول أمام العالم المتحضر بعد مأساة دنشواي الدامية, وقد شهدت مصر بعد رحيله فترة باهتة خمد معها لهيب الحركة الوطنية وأطل فيها الوجه الكئيب للفتنة الطائفية بعد اغتيال بطرس غالي باشا لأسباب نراها سياسية أكثر منها دينية حتي احتوي عقلاء الأمة الموقف المشتعل وتغلب رصيد الوحدة الوطنية المصرية علي محاولات التفرقة ومؤتمرات الطوائف, ثم جاءت ثورة الشعب بقيادة سعد زغلول لكي تجتمع مصر كلها علي قلب رجل واحد من أجل الحرية الحقيقية والاستقلال الكامل, واحتشد الوطن في ملحمة رائعة جمعت المسلمين والأقباط بصورة سوف تظل باقية في ذاكرة الأمة دائما, وظهر حزب الوفد بزعامة سعد زغلول ثم خليفته الوطني الصلب مصطفي النحاس لكي يكون الوعاء التنظيمي الواسع للحركة الوطنية المصرية, واستطاع برغم كل الانشقاقات عنه والخروج عليه أن يكون تعبيرا ممتدا عن التيار السياسي الغالب لأكثر من ثلاثين عاما,رفع فيها شعارات تدعم الوحدة الوطنية وتبشر بالروح الليبرالية وتعتنق قدرا كبيرا من المفاهيم العلمانية, ويجب أن نسجل هنا أن الانجاز الأكبر لثورة1919 هو تركيزها علي العنصر المصري واستخلاص الحركة الوطنية من شخصيتها الدينية التي ارتبطت بها علي امتداد سنواتها قبل اندلاع تلك الحركة الجماهيرية, حتي برز لأول مرة تعبير( الأمة المصرية) لكي تؤكد لمن حولها عددا من المعاني في مقدمتها أن مصر للمصريين وأن لديهم مقومات الأمة الكاملة في وقت كان الحديث فيه عن العروبة السياسية غير مطروح, ولعل تلك الفترة من تاريخ مصر في القرن العشرين تثبت دائما قوة الامكانات الكامنة لدي الشعب المصري والتي تؤكد المخزون الضخم الذي ينطلق تلقائيا أمام المحن والتحديات, وقد كنت أجد حرجا في الحماس لمفهوم( الأمة المصرية) ولو في اطار العروبة الواحدة الي أن استمعت إلي الرئيس اللبناني يتحدث يوم تنصيبه عن( الأمة اللبنانية) فارتفع الحرج عني وزالت الحساسية مني تجاه ذلك التعبير الذي يجب أن تعتز به مصر في تاريخها الوطني الحديث خصوصا وأن لديها قبل غيرها كل مقومات الأمة تاريخا وأرضا وشعبا.
ثانيا :- إذا كنا نسلم بأن تصريح28 فبراير1922 الخاص باستقلال مصر وانتهاء سنوات الحماية التي أعلنت عليها مع بداية الحرب العالمية الأولي كان تصريحا شكليا لاتتجاوز أبرز نتائجه اعطاء السلطان فؤاد الأول لقب ملك, الا أننا ننظر اليه من زاوية أخري وهي تلك المتصلة ببدء التمثيل الدبلوماسي المصري المباشر مع الدول المختلفة وايفاد المبعوثين الرسميين الي المفوضيات في الخارج إيذانا بميلاد السلك الدبلوماسي الحديث لدينا بحيث أصبح انفتاح مصر الدولة علي العالم معترفا به كما أن الوجود بعثاتها في العواصم الكبري أعطي لها احساسا لازما بالكيان الذاتي والوجود الفاعل, وعلي الرغم من أن ذلك الحدث قد تواكب مع واحدة من أصعب فترات الحركة الوطنية والمواجهة الحادة مع الوجود الأجنبي ومناوراته للالتفاف علي قضية الاستقلال بالمفاوضات الشكلية تارة والتصريحات الزائفة تارة أخري الا أن مصر تمكنت من التصرف دوليا بشكل مستقل نسبيا علي نحو أعطاها فرصة الأخذ والعطاء في المحافل العالمية والمنظمات الدولية دون الاكتفاء فقط بمكانتها الثقافية أو وزنها الحضاري وكان ذلك سعيا منها لممارسة دور مباشر في السياستين الدولية والإقليمية.
ثالثا :- لقد زاحمت حركة الاخوان المسلمين كافة القوي السياسية علي مسرح الحياة العامة في مصر منذ الثلاثينات وعلي الرغم من أنها بدأت حركة دينية إلا أن بريق السلطة كان له سحره لدي دعاتها الأول خصوصا وأن الشريعة الاسلامية تتميز بالثراء السياسي بإعتبار أن الاسلام دين ودنيا وقد جرت مواجهات بين الوفد وجماعة الإخوان المسلمين حتي فرض النحاس باشا علي الإمام حسن البنا سحب ترشيحه لمجلس النواب مؤكدا له أن جماعتة دينية وليست سياسية وقد حاول الإخوان التحالف مع القصر ومساندة الملك أمام تيار الوفد الكاسح وهو ماخلق جفوة دائمة بين الوافديين والاخوان, ولعل تأمل دور جماعة الإخوان المسلمين منذ إنشائها سوف يؤدي بالضرورة الي اكتشاف دورها الكبير في السياسة المصرية قبل1952 وهو دور كانت له تداعياته بعد الثورة ومازالت آثارة باقية في الشارع المصري حتي الان.
رابعا :- عرفت' مصر القرن العشرين'محاولات للتأثر بما يجري علي المسرح الدولي, فظهر تيار سياسي يتحمس للألمان في الحرب العالمية الثانية كان من أقطابه علي ماهر وعزيز المصري, كما ظهرت جماعات سياسية تأثرت بتنظيمات هتلر وموسوليني من حيث الشكل دون المضمون فظهر حزب مصر الفتاة بقيادة المجاهد أحمد حسين الذي أصدر كتابه( ايماني) قياسا علي كتاب هتلر( كفاحي) مع فارق واضح بين التيارين, فبينما كانت حركة مصر الفتاة وطنية خالصة فإن النازية تمثل خليطا بغيضا من الشيفونية والفاشية وإرهاب الدولة القومية, وتعكس الأوضاع في مصر خلال أربعينيات القرن العشرين تحديدا حالة من التأثر المباشر بما يجري في العالم بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية ودور مصر حليفة بريطانيا العظمي فيها.
خامسا :- لعل قيام ثورة23 يوليو يمثلف أبرز أحداث القرن العشرين علي الاطلاق بالنسبة لمصر وأكثرها تأثيرا علي المصريين خلال النصف الثاني كله من ذلك القرن, فقد خلقت الثورة بإيجابياتها وسلبياتها مناخا سياسيا واجتماعيا مختلفين وأحدثت تغييرا جذريا في الخريطة الطبقية في مصر, ولم يقتصر تأثيرها علي التحول الجذري داخليا بل كان لها تأثيرات راديكالية في توجهات السياسة الخارجية المصرية, بالاضافة الي مسئوليتها عن وضع حدود الصراع العربي الاسرائيلي في اطاره القومي الذي مازال إطاره قائما حتي الان, وهي أيضا الثورة التي تركت بصمات قوية علي النظم السياسية العربية منذ قيامها.
سادسا :- لعل سياسة مصر العربية منذ قيام ثورة1952 هي مسألة جديرة بالاهتمام فقد القت مصر الثورة بكل ثقلها في أتون الساحة العربية خصوصا الجناح الشرقي منها ثم انغمست مصر حتي النخاع في سياسة اقليمية تقوم أساسا علي العامل القومي دون سواه, وقد كان وجود اسرائيل وتصاعد مخاطر سياساتها التوسعية والعدوانية عاملا حاكما في سياسة مصر الشرق أوسطية بل ومحددا أساسيا في سياستها الدولية خلال عقود النصف الثاني من القرن العشرين.
سابعا :- أن القرن العشرين بالنسبة للثقافة المصرية يتمثل في اكتشاف كنوز توت عنخ آمون وانقاذ آثار النوبة وإنشاء الأوبرا الثانية, إنه قرن الكتب التي أثرت في أجياله بدءا من رائعة جبران' النبي' حتي رواية همنجواي'' وداعا للسلاح' ومن العبرات والنظرات للمنفلوطي ثم العبقريات للعقاد والأيام لطه حسين وعودة الروح للحكيم وثلاثية محفوظ وفرافير إدريس وصولا الي الارض للشرقاوي وغيرها من الروائع الباقية, كما أنه قرن المراغي وشلتوت والغزالي والشعراوي وهو قرن كيرلس السادس وشنودة الثالث, إنه قرن الجرامفون والراديو والترانزستور والتليفزيون والفيديو والفضائيات, إنه قرن المسرح والسينما, قرن الصحافة الواسعة والخبر السريع والكاركاتير الذكي, قرن الابداع الفني والابهار التكنولوجي, قرن ثقافة' الانترنت' في عصر الكمبيوتر التي شدت الاجيال الجديدة ودخلت مع القراءة في منافسة لاتتصف بالتكافؤ ولا تتسم بالعدل.
ثامنا :- أنه قرن جمال عبد الناصر بكبريائه القومي وشموخه الوطني, قرن السد العالي, قرن القومية العربية وعدم الانحياز, قرن السادات برؤيته البعيدة وسياسته المتميزة, قرن زيارة القدس التي كانت مفاجأة بكل المقاييس حتي أن الرئيس الأمريكي كارتر صاحب أقوي أجهزة استخبارات في العالم هرع يومها الي مكان صغير للصلاة في البيت الابيض لكي يقول ياإلهي ماهذا الذي يحدث في الشرق الأوسط؟!!, إنه أيضا قرن الحروب الاربع الدامية مع اسرائيل, والثمن الفادح بشريا وماديا الذي دفعه المصريون من أجل أمنهم القومي وتحرير أرضهم, وهو قرن مشاركة مصر في حرب تحرير اليمن والسعي لنقلها من العصورالوسطي الي النصف الثاني من القرن العشرين, كما أنه قرن الخلافات العربية والانقسامات والحساسيات والمخاوف التي سيطرت علي العواصم العربية في مواجهة الأشقاء خصوصا بعد حرب الخليج الثانية ودخول العرب مرحلة من التشرذم تبدو غير مسبوقة في تاريخهم الحديث.
هذه هي الملامح المصرية للقرن العشرين بانتصاراته وانتكاساته وهو يطوي آخر صفحاته بينما الخريطة المصرية كاملة لم تتغير, اذ لم يفرط أبناء الوطن في ذرة من ترابه أوحبة في رماله, فعندما تولي مبارك مقاليد السلطة في ظروف شديدة الصعوبة بالغة التعقيد, تحرك بجسارة عاقلة وتصرف كلمة رفيعة لانتشال مصر من ظروف مضطربة كادت تعصف بمقومات الحكم وانجازات النصف الثاني من القرن.فهو الذي استكمل تحرير التراب الوطني ثم رفع علم مصر فوق طابا, وبدأ رحلة طويلة من العمل الشاق متجولا بين المدن والقري من أجل بناء مصر القوية, متنقلا بين أطرافها يتفقد المشروعات الكبري ويرسي قواعد المستقبل الواعد برؤية علمية وفكر محدد وهدف مستقيم وسوف يتوقف مؤرخو العصر طويلا أمام إنجازاته الباهرة من إعادة تشييد البنية الاساسية المتهالكة وتحقيق برنامج اصلاحي اقتصادي ناجح وتغيير خريطة الوطن بالمدن الجديدة والمشروعات الكبري ورفع وطأة الديون عن كاهل مصر, ومساندة الحق الفلسطيني بعد استعادة دور مصر العربي, وتوجيه اهتمام الدولة إلي الصحة والتعليم والبحث العلمي والثقافة في استعداد واع للالفية الثالثة. أنه زعيم غطت انجازات حكمه الخمس الاخير من القرن بكامله, وترك بصمة علي التاريخ المصري سوف تظل شاهدة علي عصره مؤكدة تميزه وهكذا فإن مصر التي علمت الدنيا, تسطر الآن قبيل غروب شمس القرن العشرين صفحات ناصعة من العمل الوطني الجاد طوال آخر عقدين فيه لاستكمال بناء الدولة العصرية في عهد مبارك, امتدادا لشخصية الدولة الحديثة التي أرسي دعائمها محمد علي مع مطلع القرن التاسع عشر.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/9/21/WRIT1.HTM