حمل القرن العشرون للعرب من الهموم والنقم والشواغل بقدر ماحمل لهم من المزايا والنعم وأسباب التقدم, إنه القرن الذي ظهرت فيه دولة اسرائيل في قلب الخريطة العربية, وهو أيضا القرن الذي تفجر فيه النفط من جوف الأرض العربية, فكان تأثير هذين الحدثين فاعلا بل وحاكما في تشكيل صورة العرب مع نهاية القرن العشرين.... إنه القرن الذي شهد في بدايته عملية تقسيم مقننة للوطن العربي بين قطبي الظاهرة الاستعمارية بريطانيا وفرنسا في اتفاق( سيكس بيكو), وهو أيضا القرن الذي شهد انحسار الظاهرة الاستعمارية عن الأقطار العربية, إنه القرن الذي عرف المد السياسي للحركات الدينية السياسية بدءا من الوهابية في الجزيرة العربية مرورا بالمهدية في السودان وصولا إلي السنوسية في ليبيا, كما أنه قرن تنامي ظاهرة الإسلام السياسي التي بدأت بظهور جماعة الإخوان المسلمين في مصر منذ أكثر من سبعين عاما, وهو قرن الثورة العربية الكبري ودخول الشريف حسين طرفا في تحالفات الحرب العالمية الأولي والتي انتهت بوصول الهاشميين إلي الحكم في عدد من دول المشرق العربي, كما أنه أيضا قرن الحركات القومية خصوصا البعث والناصرية, وهو كذلك قرن أربع حروب بين العرب واسرائيل, وقرن تفاوت الثروة بين الدول العربية بصورة عطلت امكانات الوحدة الكامنة لديها, إنه قرن تضارب القوي وصراع المصالح علي الأرض العربية, إنه قرن الصدام بين الولاء للفكر القومي والانتماء للمجتمع الدولي, وسوف نكتشف ان هذا الصدام قد كلف العرب كثيرا علي امتداد سنوات القرن العشرين, فهم موزعون دائما بين مسئولياتهم العربية والتزاماتهم الدولية, وهل كان الموقف العربي في أثناء حرب الخليج الثانية بعد غزو العراق للكويت إلا تجسيدا لذلك التنازع بين القومية والعالمية؟... ولعلي أقول في هذه النقطة إن فرادة الدور المصري عربيا تأتي من قدرته التاريخية علي الموازنة الدقيقة بين حقوق العروبة وواجبات الدور العالمي.
وسوف يظل الوجود الاسرائيلي من ناحية, والاكتشاف البترولي من ناحية ثانية, هما العاملين المستقلين في حركة المجتمع العربي علي امتداد سنوات القرن العشرين, حيث تشكلت نتيجة لهما تركيبة العلاقات العربية ـ العربية في جانب, وكذلك تحددت وفقا لهما طبيعة العلاقات العربية ـ الدولية في جانب آخر.
ولو بحثنا في تركيبة العالم العربي مع نهاية القرن العشرين فإن ذلك سوف يعطينا القدرة علي الرجوع إلي الوراء لاكتشاف أبرز عناصر التأثير الأخري في مسيرة هذا القرن عربيا, ويمكن أن نجمل ذلك في النقاط التالية:ـ
أولا: الثورة العربية الكبري:
وتبدو أهميتها في دخول طرف عربي حليفا في حرب عالمية كبري تحت تأثير آمال الاستقلال عن الحكم التركي وطموح الشريف حسين في وراثة دولة الخلافة وتحقيق حلم قيام دولة عربية كبري في الحجاز والشام والعراق, ولعل متابعة يوميات تلك الثورة تكشف عن الارتباط المبكر للهاشميين مع القوي الغربية في أول تحالف عربي مسلم ضد دولة إسلامية أخري هي تركيا وهو مايعني الخروج من شرنقة الدولة الدينية تطلعا إلي دور جديد في ظل الدول القومية, وحيث كان المعتمد البريطاني في القاهرة هو مركز اتصال رئيسي بين الحلفاء والشريف حسين فإننا نلحظ أن مكانة مصر كانت ذات وضع خاص حيث لم تكن يوما من الأيام جزءا من حسابات الثورة العربية لوضوح التفرقة لدي زعمائها بين مفهوم العروبة ودور مصر المتميز, ولعل ذلك يفسر أيضا طبيعة السلوك الهاشمي في الإدارك المبكر للمتغيرات الدولية والتطورات الإقليمية قبل قيام دولة اسرائيل وبعدها, حتي كانت النهاية المأساوية للشريف حسين عندما لفظ آخر انفاسه في جزيرة قبرص بعدما تولي إبنه فيصل الأول الحكم في سوريا لفترة قصيرة ثم انتقل الي العراق حيث خلفه بعد رحيله ابنه الملك غازي الذي قتل في حادث سيارة مشبوه يقترب في غموضه من كثير من أحداث تاريخ العراق, وقد كان دور لورانس العرب ـ ولايزال ـ موضع جدل, إذ يبدو أن ذلك المغامر البريطاني الذي كان يعمل لحساب المخابرات البريطانية حتي لفظ آخر انفاسه في حادث دراجة بسيط في بريطانيا, كان نموذجا للتفكير الأوربي التقليدي في نشاط الاستخبارات والذي يعتمد علي مفهوم الاقتراب المباشر من الظاهرة وزرع الأعوان بدلا من الاعتماد علي الحسابات قصيرة المدي والتوقعات المباشرة مثلما تفعل المدرسة الأمريكية عند رسم سياسات واشنطن في الشرق الأوسط, وعندما عجز الحلفاء عن الوفاء بتعهداتهم للشريف حيث اصطنعوا لابنه عبد الله إمارة شرق الأردن التي أصبحت المملكة الأردنية الهاشمية ليلعب الملك الجد وحفيده الملك حسين أدوارا مؤثرة للغاية في الصراع العربي ـ الاسرائيلي علي امتداد سنواته كلها.
ثانياـ فارس نجد يوحد الجزيرة العربية:
إن وصول آل سعود الي السلطة بعد صراع طويل يمثل هو الآخر جانبا هاما من حركة القرن العشرين عربيا, وعلي الرغم من ان فارس نجد عبد العزيز بن سعود قد تمكن من توحيد الحجاز ونجد وعسير بعد انتصاره علي آل الرشيد معتمدا علي خلفية دينية ترجع لمذهب الشيخ محمد بن عبد الوهاب الي جانب دور قبلي وعشائري يسبق ذلك بأكثر من قرن كامل, إلا اننا نري أن رؤية ذلك الرجل تبدو متميزة للغاية ويكفي أن نشير هنا الي مباحثاته مع الرئيس الأمريكي روزفلت فوق بارجة في البحيرات المرة بمنطقة قناة السويس لنري كيف كانت نظرته للمستقبل ثاقبة وواعية خصوصا في تشدده دفاعا عن الحقوق الفلسطينية, ولعل دور ابنه الملك الراحل فيصل هو المكمل لذلك; وهنا يجب ألا ننسي دور الأخير في حرب أكتوبر1973 وتضامنه الكامل مع مصر وسوريا باعتباره بطل الحظر البترولي وصاحب مبادرة استخدام النفط سلاحا في المعركة, ولقد دفع ذلك الزعيم العربي حياته ثمنا لمواقفه الإسلامية والقومية, والذي يهمنا هنا هو دور المملكة العربية السعودية كقوة اقتصادية في الخليج والمنطقة العربية كلها, وارتباطها التقليدي مع الغرب في ظل تمسك واضح بالثوابت القومية.
ثالثا: قيام جامعة الدول العربية:
قد يشكك البعض في قيمة جامعة الدول العربية ودورها في المنطقة ولكن ذلك يبدو تجاوزا للواقع التاريخي, فمهما كانت المصاعب والتحديات التي واجهتها تلك المنظمة العربية الاقليمية إلا أنها ـ كما يثبت السياق التاريخي ـ قد حافظت علي حد أدني من وحدة الصف العربي في كل الظروف حتي أن عبد الناصر بطل المد القومي في هذا القرن قد استخدم الجامعة كأداة للالتقاء بخصومه والحصول علي نقطة البداية لعمل عربي مشترك في مواجهة أحداث مختلفة نتذكر منها إقدام اسرائيل علي تحويل مجري نهر الأردن في بداية الستينيات, ومازلنا نذكر أيضا تحفظ الملك عبد العزيز بن سعود علي الانضمام للجامعة كواحد من المؤسسين السبع لها وكيف لعب السياسي العروبي عبد الرحمن عزام دورا رئيسيا في تقريب وجهات النظر بين الملك السعودي والملك المصري باعتبار أن عزام مصري يحظي بقبول سعودي, ولعلنا نشير هنا الي أن السعوديين قد حرصوا علي علاقات طيبة مع مصر عموما باستثناء ذكريات مريرة لهجوم ابراهيم باشا علي مدينة الدرعية في النصف الأول من القرن التاسع عشر ووصول قوات عبد الناصر الي الحدود الجنوبية للسعودية في النصف الثاني من القرن العشرين بهدف دعم ثورة اليمن وتحديث حياة شعبه.
رابعا: حركة الاسلام السياسي:
يرجع الفضل للشيخ حسن البنا القادم من محافظة البحيرة ليعمل معلما بمدينة الاسماعيلية في اعلان قيام جماعة الاخوان المسلمين عام1928 متأثرا بفكر محمد رشيد رضا تلميذ الإمام محمد عبده, وكان ذلك إيذانا باحياء حركة الاسلام السياسي في العالم الاسلامي كله, وعلي الرغم من تأكيدات الامام الشهيد أن دور جماعته ديني خالص في بدايته, إلا أنه كان دورا سياسيا بالدرجة الأولي, وقد شاركت جماعة الاخوان المسلمين في الحياة السياسية والحركة الوطنية في مصر في فترة مابين الثورتين(19 ـ1952) كما كان لها أيضا دور رئيسي في العنف السياسي وعمليات الاغتيال في الأربعينيات حتي دفع مؤسس الجماعة حياته ثمنا لذلك, ولسنا نشك في أن منطوق الاسلام السياسي الذي يعتمد علي مبدأ الحاكمية استلهاما لأفكار ابن تيمية وابن حزم قد كان له تأثير ضخم علي العالم الاسلامي عموما والعالم العربي خصوصا, لاسيما أن اجتهادات أبو الأعلي المودودي وسيد قطب قد أضافت لفكر الحركة أبعادا أكثر عمقا, وقد كان اقتران مسيرة الجماعة بالعنف السياسي سببا في الربط بينها وبين الأعمال الارهابية التي مارستها في السنوات الأخيرة جماعات لاتفهم الاسلام بصورته الصحيحة, والملاحظ أن فكر حسن البنا وجماعته كان يري في البغد العربي لمصر جزءا من بعدها الاسلامي, بل كانت مشاركة المتطوعين من جماعة الإخوان المسلمين في حرب فلسطين1948 تعبيرا عن التضامن الاسلامي قبل التضامن العربي.
خامسا: حزب البعث العربي الاشتراكي:
لقد كان المد القومي واضحا في الشام أكثر من ووضوحه في المناطق العربية الأخري لأسباب تتصل بالمواجهة بين العرب والترك اللذين ينتميان لنفس الدين ولكن يفرقهما اختلاف القومية, حتي ظـهر الاباء المؤسسون للفكر القومي العربي وفي مقدمتهم أبو خلدون ساطع المصري الذي كان وزيرا للمعارف في حكومة فيصل الأول حيث كان له تأثيره في الحركات القومية التي ظـهرت بعد ذلك ثم نادي زكي الارسوزي بفكر البعث الذي تلقفه ميشيل عفلق وصلاح البيطار في منتصف الأربعينيات ولقد شاءت الأقدار لذلك الحزب ـ ذي النظرة المتحفظة نسبيا تجاه الدور المصري ـ أن يلعب أدوارا كبري في النصف الثاني من القرن العشرين في المشرق العربي, وقد وصل الحزب الي الحكم في كل من سوريا والعراق بسبب اعتماده علي جناح عسكري له منذ بدايته, وقد دخل الحزب في سلسلة من المواقف المتنافسة مع المد الناصري في الستينيات حتي حطم تجربة الوحدة عام1961 والتي كان قد شارك ايجابيا في قيامها بإعتبارها أول تجسيد لعمل وحدوي بين قطرين عربيين في القرن العشرين حتي أن دولة الوحدة لم تصمد لأكثر من سنوات ثلاث.
سادسا: عبد الناصر البطل القومي لعرب القرن العشرين:
لاتمنعنا مصريتنا من اعطاء جمال عبد الناصر حقه كبطل جسد الحلم العربي في فترة معينة, وإن جاءت نهايته في ظروف صعبة له ولوطنه ولأمته إلا أن ذلك كله لايقلل من قيمة دوره الضخم في تاريخ العرب في القرن العشرين, فهو الذي جعل شعار القومية العربية واقعا, وهو الذي أعطي مصر دورها العربي سياسيا بعد أن كان ذلك الدور يقف عند حدود الدور التنويري ثقافيا وتعليميا, ولقد كان الصراع العربي الاسرائيلي عاملا مؤثرا في تحديد مسار عبد الناصر قوميا الي أن كانت هزيمة العرب في الحرب الاسرائيلية العربية الثالثة بمثابة ضربة عنيفة للمد القومي الذي قاده عبد الناصر, ثم تولي السلطة بعد رحيله أنور السادات وخاضت مصر وسوريا حربا رابعة تحقق فيها انتصار مشهود ثأر به العرب لما حدث لهم في يونيو1967, وليس من شك في أن تقويم دور عبد الناصر خلال النصف الثاني من القرن العشرين يؤكد بوضوح انه كان اللاعب الرئيسي علي مسرح الحياة السياسية العربية أثناء تلك الفترة.
إن القرن العشرين بالنسبة للعرب ليس هو فقط قرن الشريف حسين وابن سعود وحسن البنا وميشيل عفلق وعبد الناصر والسادات وبورقيبة والملك حسين وحسني مبارك وحافظ الأسد وصدام حسين وغيرهم ولكنه قبل ذلك كله قرن الصحوة لحقيقة الأطماع الأجنبية في المنطقة وتدويل سياساتها القطرية, وهو قرن الانقسام الدائم بين دولها في ظل الوراثة الأمريكية للدور الأوروبي في المنطقة, كما أنه هو أيضا قرن ظهور دول النهضة في الخليج العربي استكمالا لوجود دول المدن القديمة حول الحضارات النهرية في المنطقة العربية....
... ونعود من جديد للعاملين الرئيسيين اللذين يعتبران العلامة الفارقة لحصاد العرب في القرن العشرين ونعني بهما قيام دولة اسرائيل وظهور النفط العربي.
(أ) اسرائيل عامل فرقة أم توحد عربي؟
لاشك أن قيام اسرائيل بعد سلسلة طويلة من المحاولات اليهودية في فلسطين, ورغم الثورات العربية في الثلاثينيات وبعدها الا ان اسرائيل قد حققت الأغلب الأعم من مخططها الصهيوني خلال القرن العشرين وتوجته بقيام الدولة العبرية التي اتخذت من بريطانيا سندا في البداية, ثم اعتمدت علي فرنسا في الخمسينيات التي رأت في دعمها لاسرائيل ردا علي حماس العرب للثورة الجزائرية, ثم أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية هي النصير الأساسي لاسرائيل بعد ذ لك اعتمادا علي التأثير اليهودي عالميا ودور جالياته المتميزة اقتصاديا والموثرة في دوائر صنع القرار السياسي في معظم الأقطار الغربية, والملاحظ أن كل الحركات القومية والتحريرية في النصف الثاني من القرن العشرين قد اتخذت من اسرائيل قميص عثمان الذي تكتسب مشروعيتها من خلال تحديد مواقفها منه, ويجب ألا ننسي أن الوجود الاسرائيلي في قلب الشرق الأوسط قد لعب دورا كبيرا في توجيه السياسات الدلية في المنطقة بل وتحديد سياسات الدول الشرق أوسطية غير العربية مثل تركيا وايران ودول الجوار في القرن الأفريقي.
(ب) هل كان ظهور النفط دعما لفكر الوحدة أم خصما منه؟
إن ظهور النفط العربي ـ خصوصا في الجزيرة العربية والخليج ـ قد أثر تأثيرا كبيرا في المسار العربي كله خلال القرن العشرين, فقد أدي ذلك الي أثر عكسي علي مفهوم الوحدة العربية وأوجد قدرا كبيرا من الحساسية بين من يملكون ولايملكون, بل إن تفاوت الثروة بين الدول العربية والذي نجم عن ظهور البترول في بعضها قد أدي الي تداعيات عطلت أسباب الاندماج الاقتصادي والانصهار القومي, ولعل حرب الخليج الثانية وتداعياتها هي نموذج لتأكيد ذلك, بل أن تعطيل قيام السوق العربية المشتركة يرجع في معظمه الي مخاوف الاقتصاديات البترولية من غيرها, والاحساس الدائم لديها بأن الثروة الطارئة هي مصدر أطماع دائمة تستدعي الحماية ولو من خارج المنطقة وفقا لتطورات الأحداث ومجريات الأمور في العقد الأخير من القرن العشرين....
... هذا هو حصاد القرن العشرين للعرب بكل ماله وكل ماعليه, إنه قرن الصعود والهبوط... قرن المتناقضات... قرن قيام اسرائيل وظهور النفط... قرن الصراع الدامي علي أرض الأنبياء... قرن الصدام بين النظم والزعماء.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/9/7/WRIT1.HTM