عرفت مصر المهن والحرف منذ آلاف السنين, وتراكمت لديها خبرات طويلة, وانتظمت لها تقاليد ثابتة في كل منها, وهو أمر وضع بلادنا في مكانة خاصة عبر التاريخ, حتي التصقت بنا شخصية حضارة البنائين الذين يشيدون الرموز الباقية في عصور التاريخ المختلفة, ولكن الصورة الآن تدعو إلي شئ من القلق, فقد توارت التقاليد المهنية وكادت تختفي القيم الحرفية, وأصبحنا أمام واقع مختلف قد تتأثر بسلبياته ذاكرة الأمة, ويختل به توازنها التاريخي, وتغيب معه درجة الوعي الذي يعتبر جزءا من كيان الشعب المصري, ويكفي ـ ونحن نتطلع إلي المستقبل ونخطو نحو آفاقه أن نكتشف أن المهن والحرف تتعرضان لهزة تحتاج إلي نظرة سريعة ومراجعة شاملة, فلقد دخلنا عصر الأعداد الكبيرة في كل القطاعات, ولم يعد اهتمامنا بالكيف بنفس القدر الذي كنا نوليه للكم, ففي ظل تركيبة الزحام الشديد, والأعداد الكبيرة, اختفت عنايتنا التاريخية بالتقاليد الثابته للمهن والحرف بشكل غير مسبوق, ونحن نعني بكلمة التقاليد هنا ذلك النمط السائد من العادات والأعراف اللذين وجدا عبر أجيال مصر العريقة, ولعله من المفيد أن نشير إلي عدد من الملاحظات ونحن نتناول المهن والحرف المصرية بالدراسة في هذا المقام:
أولا: إن الحديث عن التقاليد ليس حديثا يقف عند حدود الشكل, إذ أن التطور الإنساني يثبت يوما بعد يوم أن الشكل جزء من المضمون, ومن الخطأ أن نتصور أن الأمور الشكلية لا تنعكس علي جوهر المسائل, فتحية العلم في المدارس رمز له دلالته في التكوين النفسي للأجيال, كما أن القيام للمعلم عند دخوله الفصل الدراسي هو تعبير مباشر عن العلاقة المطلوبة بين التلميذ والأستاذ, كذلك فإن ارتداء روب المحاماه في المحكمة هو أمر يشعر صاحب المرافعة بتقاليد المهنة العريقة وآدابها الرفيعة وأهدافها الساميه كما يترك أثرا من الهيبة والاحترام لدي الناس, ونفس الأمر ينطبق علي الروب الجامعي الذي اقتصر استعمال الاساتذة له حاليا علي جلسات مناقشة الرسائل العلمية للدكتوراه والماجستير.. فواقع الأمر يؤكد دائما أن استيفاء الشكل أمر ضروري لسلامة المضمون.
ثانيا: إن مصر عرفت التقاليد الفكرية في كافة نواحي الحياة, وضرب المصريون القدماء في كل جوانب الحضارة بسهم لاتزال آثاره باقية, لذلك فإنه من الطبيعي أن تمتد التقاليد إلي المهن والحرف باعتبارهما التطبيق العملي للنهضة في كافة الميادين تعبيرا عن ميلاد مرحلة جديدة من حضارة قائمة, وهل ننسي التقاليد العلمية والاجتماعية لرواق الأزهر الذي نقلته عنه الجامعات الغربية ليصبح أساسا لفكرة الكلية الدراسية المتخصصة داخل الجامعة الواحدة.
ثالثا: إن التفريط في الالتزام بالتقاليد المهنية وغياب التمسك بالأعراف الحرفية قد أدي إلي ذلك الذي نراه, تدهور واضح في بعض المهن, واختفاء كامل لعدد من الحرف, وافتقاد لمفهوم التجويد بمعناه التاريخي المتطور, ومع تسليمنا بأن التكنولوجيا الحديثة قد جارت علي بعض منها, إلا أن استمرارها كان يعكس بالضرورة جزءا من الهوية المصرية وشخصيتها المعروفة.
رابعا: إن فلسفة الزحام الشديد والأعداد الكبيرة قد أدت تلقائيا إلي التفريط المتكرر في عناصر ثابته من التقاليد الراسخة للمهن والحرف المصريتين, ولكن ذلك لاينهض وحده كسبب يتحمل وحده المسئولية عما جري ويجري, إذ أن الذي حدث هو أن شواغل العقل المصري قد زينت للكثيرين أنه لا وقت للشكليات, وأنه لابد للدخول للمسائل مباشرة باعتبار أن التقاليد طقوس بالية لاتحتم روح العصر التمسك بها, فلو أخذنا مهنة واحدة كمثال يؤكد مانذهب إليه فقد نختار مهنة الطب بحكم عراقتها في التاريخ المصري, ومساسها بحياة البشر فضلا عن أنها مهنة عالمية, فجسم الانسان واحة في كل زمان ومكان, كما أن تلك المهنة كانت تمثل لنا ـ في زمن مضي ـ رصيدا اقليميا نعتز به, ومركز جذب لاشقائنا في المنطقة العربية والقارة الأفريقية, ولكن الذي حدث بعد ذلك هو أن سياسة الأعداد الكبيرة التي زحفت علي كليات الطب ـ في الجامعات القديمة والاقليمية ـ قد أدت إلي وجود أفواج ضخمة من الخريجين في السنوات الأخيرة علي حساب النوعية بالضرورة, وتفضيلا لمفهوم الكم دون النظر إلي مضمون الكيف الذي لايجب أن يهبط عن مستوي معين لأن الأمر يتعلق بصحة الناس بل وبأعمارهم أحيانا, كما أنه لايخفي علينا أن الطب ليس الطبيب والمستشفي وحدهما, بل إن الطب والتمريض وجهان لعملة واحدة, كما أن الرعاية الصحية عملية متكاملة وإن كان جوهرها هو الطبيب الذي يجب أن يمتلك أساسا نظريا علميا بقدر مالديه من خبرة عملية, ومصر التي عرفت أساطين الطب الحديث في مختلف فروعه لاتزال ـ برغم كل الظروف ـ معطاءة تنجب كل يوم نوابغ ومتميزين, ولكن واقع الحياة قد جعل اللهاث وراء مطالبها سببا في افتقاد المثل, وغياب القيم, والتغاضي عن سلامة التقاليد, ولايقف الأمر عند حدود مهنة معينة أو حرفة بذاتها, إذ أن التفريط في التمسك بالتقاليد المهنية والسوابق الحرفية قد أدي إلي نوع من الاستسلام لمسار التغيير دون التحكم في توجيهه, حتي أصبح التطور ذا دلالات رقمية فقط دون أن يعني ـ في الغالب ـ تقدما في النوعية, ويأتي السؤال الكبير.. كيف نستعيد تلك التقاليد مادامت هناك جدوي لوجودها؟ والأمر هنا بسيط للغاية فالحرص علي الالتزام بشكليات المهن والحرف سوف يؤدي بالضرورة إلي العودة لمفهوم التجويد في كل عمل نسعي إليه بحيث يؤدي ذلك أيضا إلي دعم المجتمع المدني وتقوية أركانه, ولعلني أطرح في هذه المناسبة تصورا لاستعادة هذه التقاليد والتمسك بها في القطاعات المختلفة وأوجز ذلك في الملاحظات التالية:
(أ) دعنا نسلم بداية أن التقاليد مازالت مرعية بشكل يكاد يكون كاملا في المؤسسة العسكرية المصرية وربما تبعتها بعد ذلك ـ وبدرجات متفاوته ـ هيئات أخري ترتبط بمهن مختلفة مثل السلك الدبلوماسي, وهيئات القضاء والشرطة, وبعض القطاعات الجامعية, إلا أن الأمر يختلف بشكل ملحوظ في الأغلب الأعم من مؤسسات المجتمع الأخري, وهذا أمر لا يبدو طبيعيا في دولة عرفت في القرنين الأخيرين ازدهار موسسات فريدة في المنطقة كلها بدءا من البرلمان ومرورا بالجامعة وصولا إلي الحركة النقابية المهنية والعمالية وذلك استنادا إلي خلفية ثقافية وظفت العلاقة بين الدين والدنيا لخدمة التطور حين لعب الأزهر الشريف ثم الكنيسة القبطية أدوارا مشهودة خصوصا في إطار الحركة الوطنية, وهو أمر يدعو إلي الاحساس بالرصيد العالي الذي كنا نملكه وحان الوقت لاستعادة مافقدناه منه.
(ب) إن الأمر لايحتاج إلي جهد كبير لاكتشاف أن الصيغة التي نجمت عن المشكلة السكانية في مصر هي التي عسكت نفسها علي الواقع كما نري الآن وهو أمر يدعونا إلي إعادة النظر لافي السياسية السكانية والتوزيع الديموغرافي وحدهما, ولكن يدعونا إلي اعادة النظر أيضا في جوهر فلسفة السياسة التعليمية والعمل الثقافي في الدولة العصرية التي بشر بها الراحل أحمد بهاء الدين منذ أكثر من ثلاثة
عقود, فنحن نحتاج اليوم الي مراجعة شاملة وصريحة للأمور التي ادت للاستسلام لمفهوم الكم علي حساب الكيف في توجه مرحلي يسعي للارضاء الوقتي للجماهير, وشراء الشعبية السريعة دون اعتماد نظرة بعيدة تري ما في الآفق من سحب وغيوم.
ج ـ ان طبيعة النظام السياسي وتركيبة الهيكل الاقتصادي هما عاملان رئيسيان في تشكيل فكر الناس ورؤيتهم للأمور وقدرتهم في الحكم عليها, وليس من شك في ان التطورات المتلاحقة علي امتداد نصف القرن الاخير سوف توحي لنا بشيء آخر, فلقد غاب عنا في غمار الحروب والمواجهات والتحديات ان المسار الأمثل لحركة التطور المصري كان يجب أن يأخذ في اعتباره عددا من المحاذير يقع في مقدمتها ان الزيادة العددية في السكان قد صاحبتها بالضرورة عملية انخفاض في النوعية لان الفئات التي اقدمت علي ضبط النسل وتنظيم الاسرة كانت هي تلك الأكثر قدرة علي ضمان حد ادني من المطالب الصحية والتعليمية, بينما ظلت الطبقات التي لم تستجب لمفردات السياسة السكانية هي تلك المحرومة ـ في الغالب ـ من حد ادني من الرعاية الصحية والفرص التعليمية, يضاف الي ذلك ان الحكومة في مراحل سابقة كانت تنظر الي مسألة تنظيم الاسرة نظرة تخلو من بعض الجدية ولاتبرأ من بعض الاستخفاف في ظل وهم سيطر علينا طويلا مؤداه ان وزن مصر السياسي مرتبط بحجمها السكاني دون الاخذ في الاعتبار بدلالات الكيف في تلازم مطلوب مع مؤشرات ذلك الكم.
د ـ ان غياب الحفاوة بالتقاليد المهنية قد ارتبط بنوع من التهالك الاجتماعي للحصول علي الشهادات العلمية دون العناية بالخبرات العملية والدورات التدريبية.. وهو امر يبدو بالغ الاهمية اذ أن القيم السائدة اصبحت تساوي بين من يحملون المؤهل الواحد دون الاعتبار بعناصر اخري جري تهميشها تدريجيا علي خريطة التطور السياسي والاجتماعي في مصر الحديثة, وبرغم الجهود الهائلة التي تبذلها الحكومة المصرية والمنظمات الاهلية لرعاية الفئات الأولي بالاهتمام بدءا من الامومة والطفولة مرورا بالقطاع الريفي وصولا الي التجمعات الشبابية, الا ان كثيرا من تقاليد الحياة السوية قد توارت في عصر غياب طابور الصباح والملعب المدرسي والعلاقة الحميمة بين المعلم والطالب.
ه ـ ان الانفتاح علي عالم اليوم قد ادي في بعض الاحيان الي عملية انتقال غير واعية لكثير من معطيات الحياة الغربية دون النظر الي مضمونها فاصبح التقليد لدينا مسطحا بدرجة كبيرة, واختفت ركائز جوهرية عند الاخذ من المصادر الاجنبية فعصر الاقمار الصناعية والسماوات المفتوحة والبث الاعلامي الكاسح كان كله علي حساب القراءة التقليدية بكل مايرتبط بها من تقاليد معرفية تجعل العلاقة بين الانسان والكتاب مصدر اعتزاز ذاتي كان له دوره دائما في تنمية الشخصية وخلق الثقة بالذات وتدعيم النظرة الموضوعية للاشياء وبرغم الجهود المبذولة في هذا الشأن, الا ان انقطاع الصلة عموما بين الاجيال الجديدة وعادة القراءة قد ادي الي نوع من ميوعة التفكير, وذوبان الهوية, والتخلي عن تقاليد الشخصية المصرية.
.. ان مانتحدث عنه اليوم ليس نوعا من الترف الفكري, او التنزه العقلي, ولكنه اكبر من ذلك واهم, فالتاريخ البريطاني لم يكن ساذجا حين جعل العناية بالتقاليد علي قمة اولوياته وانصاعت اجياله لدستور غير مكتوب يلتزم بالسوابق والاعراف, ويحترم الشكل باعتباره جزءا لايتجزأ من المضمون وبذلك احتفظ البريطانيون باقل هامش من هبوط الحس الانساني في كافة قطاعات الحياة وهو امر يجب ألا يتداخل في الذهن مع الوزن الاقتصادي للدولة, فقد يقول قائل ان الولايات المتحدة الامريكية التي تعد القوة القائدة اقتصاديا في عالم اليوم لاتبدو حريصة علي التقاليد, او راعية للقيم, وهذا قول غير صحيح علي الاطلاق, فعناية الامريكيين لاتقل عن عناية الأوروبيين او حتي اليابانيين بالتقاليد المهنية والمظاهرالسياسية والاجتماعية بل ان افتقاد التاريخ العريق يدفع الامريكيين احيانا الي اصطناع السوابق والحفاوة بالاجراءات كما ان شعوبا كثيرة كانت قد فقدت جزءا كبيرا من تقاليدها في غمار حركة التطور وزحام الاحداث, وقد افاقت سريعا لاستعادة ماكادت تفقده مع حركة التاريخ, ونحن مطالبون بشيء من ذلك اكثر من اي وقت مضي في تاريخنا كله, ويكفي ان نتأمل حركة المرور في احد الشوارع الرئيسية بالقاهرة في احدي ساعات الذروة ـ وما اكثرها ـ لنكتشف ان العقول التي تقف وراء عجلة القيادة لاتعرف بالضبط ماهو معني العقل المنظم, ومنطق الاولويات الصحيح, وذلك بسبب بسيط وهو انها لم تعرف قيمة التقاليد ومكانتها في حياة العصر.
انني أدق الناقوس ـ في سياق حديث موصول عن المستقبل ـ لكي اقول ان اجيالنا القادمة يجب ان تعود الي العناية بالتقاليد المهنية والعادات الحرفية, فرباط العنق ليس دائما من الكماليات, وطالب الطب في الثلاثينات والاربعينات الذي كان يلتزم بالطربوش غطاء لرأسه وهو يؤدي الامتحان الشفهي أمام استاذه لم يكن عابثا او مضيعا للوقت, ولكنه كان في واقع الأمر يتصرف في حدود التزام بالشكليات ينعكس بالضرورة علي سلوكياته اليومية, وآدابه المهنية, لذلك فقد اصبح من المتعين علي كل اصحاب مهنة ان يعيدوا النظر من جديد في السوابق, وان يمعنوا النظر في التقاليد التي غابت في اطار عملية انتقاء واعية تعرف ما الذي يجب الاحتفاظ به, وما الذي يجب الاستغناء عنه, انني لا ادعو الي عودة مصر الطرابيش او نموذج الادب التركي ولكنني ادعو الي التمسك بكثير من الشكليات الايجابية من اجل استعادة الصحة النفسية للعلاقات بين الافراد داخل المهنة الواحدة وفي اطار المجتمع المشترك, ولن يتحقق ذلك الا بالوعي الكامل بدورنا التاريخي زمانا, ودورنا الجغرافي مكانا, والاحساس الكامل بمسئوليتنا تجاه الآخرين, اذ لن نتمكن من تحقيق القفزة المطلوبة والطفرة المنتظرة الا بصحوة حقيقية تستند الي تقاليد ثابتة تسمح بالحديث الحقيقي عن الجدية والاستمرارية في حياتنا بكافة جوانبها فلتكن عودتنا الي التقاليد الصحيحة في كافة المهن والحرف امرا واعيا ندركه جميعا في موضوعية وتجرد اننا نتطلع الي يوم نجد فيه ان التقاليد العريقة قد عادت للطب المصري كنموذج لمهنة عظيمة ترتبط بالانسان في اصعب لحظات حياته وهو اسير معاناة المرض, بل انني اتجاوز النموذج المهني الي مثال لاحدي الحرف ولتكن السباكة واقف عاجزا امام ظاهرة المياه الراشحة التي نراها علي امتداد البصر في معظم المباني وكأنها تشير بوضوح الي مواقع دورات المياة في كل طابق لكي تؤكد ان التجويد الحرفي غائب, وان الصبي غير كفء لان المعلم لم يعد موجودا!.. ولن نيأس من تأكيد مانذهب اليه مؤمنين بان الاشياء الصغيرة هي في الغالب ذات دلالات كبيرة, ولن يصلح مستقبلنا الا بما صلح به ماضينا في فتراته الزاهرة وايامه الخوالي حين كنا نعرف شيئا اسمه التقاليد المهنية, والمهارات الحرفية.. فيا تري متي نستعيدها بعد غياب ؟
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/8/10/WRIT1.HTM