هذه أسئلة ترددت كثيرا من قبل وكانت لها اجاباتها في حينها, ثم ازداد حجم المعلوم مما يدور حولنا والمتاح عمايجري في عالمنا, فتغيرت الاجابات بالضرورة, وأضحي اليوم حقيقة ما كنا نعتبره احتمالا بالأمس, كما تحول ما كان يبدو منذ سنوات مجرد اشتباه الي واقع محدد لا تعوزه البراهين ولا تنقصه الدلائل, وسوف نطرح أمثلة ثلاثة لتساؤلات تتفاوت فيما بينها من حيث القدم الزمني, ولكنها تصب جميعا في اتجاه واحد هو جوهر تشكيل ملامح النظام العالمي المعاصر, وأول هذه التساؤلات يدور حول هزيمة1967 ـ التي وقعت في مثل هذه الأيام منذ اثنين وثلاثين عاما ـ ومحور ذلك التساؤل القديم هو.. هل كانت الحرب الاسرائيلية ـ العربية الثالثة هي جزء من الارهاصات المبكرة لما أطلق عليه فيما بعد اسم النظام العالمي الجديد؟.. لكي نناقش هذا الطرح فإننا نحتاج الي عودة لظروف تلك الأحداث وملابسات وقوعها, فقد كانت الخمسينيات هي عقد انتقال مقاليد السيطرة البريطانية ـ الفرنسية علي الشرق الأوسط وشمال افريقيا الي قبضة الولايات المتحدة الأمريكية والتي اتخذت بدورها صورا مباشرة من التدخل كان من رموزه ثورة يوليه المصرية عام1952, وموقف الرئيس الامريكي ايزنهاور في أعقاب العدوان الثلاثي علي مصر عام1956 والذي أتبعه بالحديث عن نظرية الفراغ في الشرق الأوسط مع ربطها بما سمي وقتها مبدأ ايزنهاور لإحلال بديل امريكي فتي للوجود الأوروبي الهرم الذي كان قد بدأ الرحيل عن المنطقة, حتي كانت سياسة الأحلاف العسكرية التي حاولت واشنطن جر المنطقة اليها, ثم انتهت الخمسينيات والاتحاد السوفيتي لاعب رئيسي في المنطقة, بينما الولايات المتحدة راصد يقظ لكل أحداثها في ظل عالم عربي منقسم بين دعاة الاشتراكية والتحرر من جانب, وأصحاب النظم التقليدية المحافظة علي الجانب الآخر, ثم تلقي المد الناصري صفعة شديدة بحادث الانفصال الذي أصاب دولة الوحدة المصرية السورية في خريف1961 وهو الذي خلف مرارة دفعت الي دور عسكري مرهق للقوات المسلحة المصرية فوق جبال اليمن, وكأنما بدا المسرح السياسي في الشرق الأوسط وقتها وقد استعد تماما لضربة إجهازية تستهدف المد القومي الكاسح الذي عرفه النصف الثاني من الخمسينيات والنصف الأول من الستينيات فجاءت الحرب العربية ـ الاسرائيلية في يونيو1967 بمثابة تتويج لنتائج مؤامرة جري إعدادها جيدا, وعملية استدراج واسعة تم احكام خطواتها بشكل غير مسبوق, فلقد كان المطلوب هو إنهاء ذلك التيار التحرري ووضع المنطقة في اطار مختلف يتماشي مع تحولات جديدة بدأ العالم يتهيأ لاستقبالها, لذلك لم يكن غريبا أن تتوارد اشارات متعددة توحي بقرب انتهاء فترة التوتر الحاد للحرب الباردة بين المعسكرين مع ظهور بوادر التفاهم بين موسكو وواشنطن علي صيغة جديدة للتهدئة والانتقال الي عالم مختلف, وأذكر أنني ـ وفي أعقاب حرب1967 ـ قد اعددت بحثا مطولا وأنا ملحق بمعهد الدراسات الدبلوماسية, وجعلت له عنوانا هو( تأثير التقارب الأمريكي السوفيتي علي أزمة الشرق الأوسط) حيث قامت بطبعه أكاديمية ناصر العسكرية التي كانت تستضيف المعهد الدبلوماسي في سنواته الأولي ـ تأكيدا لدور العسكرية المصرية في التحديث الدائم للدولة العصرية في مصر ـ وأذكر أنني قد اصدرت البحث في صورة كتاب صغير عالج بوضوح تداعيات الأحداث بعد الهزيمة العسكرية, وكشف في مرحلة مبكرة عن احتمالات التفاهم الجديد بين القوتين العظميين ـ في ظل حسابات علوية ـ علي المستوي العالمي حيث بدأ الشرق الأوسط جزءا هاما منها, كما تعرضت بوضوح في تلك الدراسة لتعبير يدور حول مفهوم التعايش أو التهدئة أو المهادنةDetente ومازلت أذكر أن دوافع اهتمامي في تلك الأيام بهذا الموضوع قد بدأت بمقال قرأته في دورية دولية يبشر كاتبه بذلك الفكر الجديد, ثم استمعت في نفس الفترة لمحاضرة ألقاها الدكتور مراد غالب ـ الذي كان سفيرا مرموقا لمصر في الاتحاد السوفيتي حينذاك ـ ولفت نظري بشدة ما قاله يومها في معهد الدراسات الدبلوماسية من أن القوي الدولية تتصرف وفقا لمصالح قد تتعارض تماما مع مصالح قوي إقليمية أخري, وأذكر أنها كانت المرة الأولي التي استمع فيها الي تعبير الحسابات العلوية الذي استخدمه المحاضر لإبراز طبيعة العلاقة بين القوتين العظميين في نهاية الستينيات, ثم وفد الي المعهد الدبلوماسي في نفس الفترة سفير لامع آخر هو أحمد توفيق خليل الذي كان مديرا لإدارة الهيئات الدولية بوزارة الخارجية المصرية, وكان عائدا لتوه من حضور أعمال الدورة الرابعة والعشرين للجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك, وجاءنا محاضرا يبشر بأفكار بدت غير مألوفة في وقتها, حيث كانت تدور في مجملها حول ملاحظات ترصد روحا جديدة ظهرت بين وفدي الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية بدءا من أعمال تلك الدورة الفاصلة حيث تكرر الحديث عن المسئولية المشتركة بين القوتين العظميين من أجل الحفاظ علي السلام العالمي, كما بدا واضحا للعيان أن هناك علامات فارقة تؤكد بوضوح أن الحرب الباردة سوف تتجه الي الانزواء, وأن فكرا جديدا يطل علي طبيعة العلاقات الدولية في ذلك الوقت, وحين استطردت في القراءة والمتابعة باحثا وراء ملامح ذلك العالم المختلف الذي بدأت مقدماته تبدو في الأفق القريب مع رصد كل مامن شأنه أن يرمز الي عهد جديد في اطار محاولة قلقة لاستشراف المستقبل, عندئذ بدت لي الأمور واضحة, وأنا أعد ذلك البحث الذي يبدو الآن مبكرا في توقيته, هاما في رؤيته, وأذكر أنني توقفت أيامها أمام ظاهرتين تستحقان التأمل, أولاهما لقاء جلاسبورو بين القادة السوفيت والأمريكيين بشأن تطورات الشرق الأوسط وتداعيات أحداثه منذ حرب يونيو1967 إلي وقت ذلك الاجتماع حيث ظهرت هناك نغمة هادئة تسيطر علي ذلك اللقاء بين القوتين العظميين, كما بدا واضحا أن هامش الخلاف بينهما ينحسر, كما أن مساحة الاتفاق تتزايد, حتي أنني أدركت يومها أن اللعب علي ورقة الحرب الباردة لن يستمر متاحا أمام قادة الشرق الأوسط, وأما الظاهرة الثانية فقد تأكدت عندما حولت رصد معدلات استخدام الفيتو من جانب كل الأطراف الدائمة العضوية في مجلس الأمن حيث لاحظت وقتها معدلا اطراديا للتناقص في استخدام ذلك الحق المجحف الذي استأثر به الحلفاء بعد الحرب العالمية الثانية ثمنا لانتصارهم, وأداة لتحقيق أهدافهم, وحين أعددت جدولا زمنيا لمرات استخدام الفيتو في النصف الثاني من الستينيات لاحظت بوضوح أن المعدل يتجه الي الانخفاض علي نحو يعطي مؤشرا واضحا للتقارب بين المعسكرين, مع خفوت ملموس لحدة الحرب الباردة, وكأنني أريد أن أقول اليوم ـ وبعد استقراء أحداث أكثر من ثلاثين عاما منذ إعداد تلك الدراسة ـ إن حرب1967 بكل تداعياتها السياسية والعسكرية وبكل نتائجه التاريخية والجغرافية والتي مازالت مطبوعة علي الأرض العربية, أقول أن تلك الحرب كانت جزءا لا يتجزأ من الارهاصات الأولي للتحول الذي طرأ علي مناخ العلاقات الدولية واستثمرت اسرائيل في براعة نتائجها قبل غيرها حين أدركت أن استخدام مرحلة الانتقال في هيكل العلاقات الدولية هو الذي يحقق أفضل الظروف لإحداث التغييرات الاقليمية المطلوبة, وقد كان لها ما أرادت, فلم يقف الاتحاد السوفيتي وقفته في1956, كما أن واشنطن جونسون كانت شديدة الاختلاف عن واشنطن ايزنهاور, ولقد ظل يتأكد لدينا يوما بعد يوم أن مؤامرة1967 كان هدفها ظهور شرق أوسط مختلف لا يقف عند مجرد إسقاط حكم عبدالناصر في القاهرة فقد كان الأمر يتجاوز ذلك الي ضرورة إجهاض مشروعه القومي تماما, وإنهاء الهوس التحرري بالكامل في تلك المنطقة, وهكذا تبدو لنا اليوم حرب1967 وكأنها كانت إحدي المقدمات المبكرة لما أطلق عليه أصحابه اسم النظام العالمي الجديد, ذلك النظام الذي يفرز أحيانا ظواهر سياسية عابرة تلعب أدوارا محددة ثم تختفي من المسرح السياسي العالمي مثلما حدث مع نيتانياهو الذي تسبب إخفاقه علي الساحة الاسرائيلية في موجة ارتياح دولية واقليمية منقطعة النظير بعد أن ظل ـ قرابة سنوات ثلاث ـ وافدا طارئا بدون تاريخ يؤهله, فانتهي أيضا بدون مستقبل ينتظره!.
أما التساؤل الثاني ـ وفي قفزة تاريخية وجغرافية عن السؤال الأول ـ فانه يدور حول مستقبل السودان في وقت يجري فيه الحديث عن عودة عدد من قادته السابقين إلي عاصمته في ظل أجواء قد توحي بالانفراج والمصالحة, ولا أعرف لماذا تلح علي خاطري دائما كلما فكرت في الشأن السوداني عبارة ذكرها القائد الليبي معمر القذافي منذ أكثر من عشر سنوات تعليقا علي الأزمة السودانية الدائمة حيث قال( إنني أدهش لماذا يختلف الأخوة السودانيون, انهم جميعا نسخة مكررة) ولقد عكست هذه العبارة بإيجاز شيئا حقيقيا من أزمة السودان الحديث سواء في دورات حكمه الديمقراطي أو العسكري, فالملاحظ دائما أن السودان الحديث مازال أسير عقد تاريخية لا يتجاوزها, ومحاور نفسية يدور حولها, وقد يبدو محزنا أن ذلك البلد الذي يملك امكانات هائلة للتوسع الزراعي والتقدم الاقتصادي مازال مستنزفا بحركة انفصالية في جنوبه, ونزاعات مستمرة علي حدوده, مع أنه يحمل علي أرضه شعبا من أكثر شعوب الأمة العربية والقارة الافريقية تسييسا, وأشدها اهتماما بالحياة العامة, وتذوقا للثقافة وطموحا الي المعرفة, مع رسوخ عميق لروح الديمقراطية في أبسط صورها كما تتجلي دائما في شخصية السوداني العادي, وأسلوب تعامله مع غيره, ونحن المصريين أقرب شعوب الأرض الي جنوب الوادي, ألسنا شركاء النهر والتاريخ والتراث؟ فضلا عن تداخل سكاني يصعب التمييز فيه أحيانا بين ماهو مصري وماهو سوداني؟.. ولكن ركاما ضخما من الحساسيات يسيطر في القرنين الأخيرين علي العلاقات بين البلدين فضلا عن سياسات موسمية تحكم العلاقات بينهما علي نحو يذكرنا بالأمطار الموسمية التي تهطل عند منابع النيل في الهضبة الحبشية المجاورة! وكأنما تحالفت الجغرافيا مع التاريخ لتضع في طريق العلاقات بين البلدين التوءم كثيرا من المتاعب والمصاعب والشجون, ويتصور البعض وهما أن الخلاف بين القاهرة والخرطوم هو نزاع حدودي, وهي محاولة ساذجة لتسطيح الأمور وتهميش الحقائق, إذ إن واقع الأمر يقول بغير ذلك, وإذا لم يجلس المصريون والسودانيون علي مائدة واحدة يضعون فوقها كل الأفكار والحقائق والمخاوف في شجاعة ووضوح من أجل مستقبل أفضل لا يتوقف علي تغيرات في الحكام, أو اختلاف في التوجهات, ولا يمضي وفقا للرؤي الموسمية.. إذا لم يحدث ذلك فسوف يبقي ذلك الركام الموروث جاثما علي صدري الدولتين, واذا كان من نقد ذاتي في هذا المقام لسياسات القاهرة في النصف الثاني من هذا القرن تجاه الخرطوم, فإنني أعتبر أن نظرة مصر الثورة للسودان وإن كانت شريفة في دعم استقلاله الذي تم مع بداية1956, ولكنها كانت ـ في الوقت ذاته ـ متجاهلة لخصوصية العلاقة بين البلدين, إذ سقط السودان من قمة أولويات السياسة المصرية منذ منتصف الخمسينيات لصالح التوجهات المشرقية لسياسة مصر العربية, لذلك فإنني مازلت أحسب أن العلاقات المصرية السودانية هي نموذج آخر لمسار الفرص الضائعة في تاريخنا الحديث.
أما التساؤل الثالث فإنه يبدو مرتبطا برواية لم تتم فصولها, وأعني بها أحداث البلقان وتداعياتها الخطيرة ومدي تأثيرها علي الوضع في العراق باعتبار أن الولايات المتحدة الامريكية هي اللاعب الرئيسي في الحالتين مع فارق وحيد هو نوع المظلة المستخدمة, فهي مجلس الأمن في الحالة العراقية, وهي حلف الاطلنطي في الحالة الصربية, وقد تصور البعض وهما أن العمليات العسكرية في البلقان سوف تكون خصما من نظيرتها في مناطق الحظر الجوي فوق سماء العراق ولكن التطورات كشفت عن غير ذلك من الناحيتين العسكرية والسياسية معا, فعلي الصعيد العسكري لم تتوقف الهجمات الأمريكية علي العراق, وعلي الصعيد السياسي خسر العراق كثيرا بما جري في يوجوسلافيا, فلقد قدمت واشنطن نموذجا عمليا لدور جديد تبدو فيه المواجهة هذه المرة مع دولة غير اسلامية في محاولة لحماية مسلمي كوسوفا, إنها رسالة جديدة تؤكد بها واشنطن أن الدول الاسلامية ليست وحدها هي المستهدفة بل إن حماية المسلمين قد تكون هي الأخري هدفا امريكيا حتي ولو كان ذلك ظاهريا علي الأقل, وهذه نتيجة خطيرة بالنسبة للعراق, فقد كان جزء كبير من التعاطف معه نابعا من الإحساس بأن بلدا عربيا اسلاميا يجري تحطيمه تحت سمع وبصر الجميع, أما الآن فالصورة تبدو مختلفة حيث سحبت العمليات العسكرية ضد الصرب جزءا كبيرا من الرصيد السياسي والاعلامي الذي كان يعتمد عليه العراق وربما نالت أيضا من درجة الحماس الاسلامي والعربي له, فقد ظهرت نغمة جديدة يعزف عليها الكثيرون وهي أن الولايات المتحدة الامريكية ـ قائدة العالم المعاصر ـ تتولي تأديب العصاة بغض النظر عن دياناتهم أو قومياتهم, كما تعالت أصوات تتحدث عن عدالة واشنطن, وتوازن الدور الامريكي المحكوم بمصالحه وحلفائه دون الأخذ في الأعتبار بأي عوامل أخري تتصل بالأعراق أو العقائد, بل بدأ البعض يشكك في سلامة القول بوجود أسلوب الكيل بميكالين علي اساس أن المعيار يبدو الأن واحدا في النهاية وهو مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية واتباعها في انحاء العالم الذي تتفرد بالهيمنة عليه, وهي حاليا لا تفرق عند إعادة ترتيب الأوضاع الدولية بين ما تقوم به في غرب آسيا أو ما تقوم به في شرق أوروبا, فهي ترفض النظم غير المطيعة أينما وجدت, وفي ظني ان السياسة الامريكية قد خرجت من مأزق تاريخي كان العالم الإسلامي والعربي يضعانها فيه, واستطاعت بالضربات العسكرية في البلقان والضجة الاعلامية المصاحبة لها والصخب السياسي حولها أن تحيل كثيرا من القوي الشعبية الطيبة في دول مختلفة لصالح دورها, واكتسبت رصيدا جديدا لدي كل المستعدين لتفهم دوافعها في ظل وجود تبريرات جاهزة في كل الظروف.
هذه تساؤلات, ومعها تفسيرات, ولكن يبقي الباب مفتوحا علي الدوام لاجتهادات أو حوارات حول وقائع مضت, أو أحداث تجري, في محاولة للفهم الصحيح من أجل تكوين الرؤية السليمة في عصر غابت فيه كلمة الحق, واختفي منه صوت العدل, وسادت معه شريعة القوة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/6/1/WRIT1.HTM