تمضي مسيرة العلم الحديث بخطوات واسعة, وتكتسب التكنولوجيا العصرية كل يوم ارضا
جديدة, ولكن يبقي السؤال الجوهري, هل كل النتائج التي ظهرت وكل الانجازات التي تحققت هي خير كامل للبشرية, أم أننا نستطيع المجازفة بالعوم قليلا ضد التيار؟ ونقول ان التقدم المعاصر ليس خيرا كله وأنه قد لايخلو من آثار سلبية أيضا, كما قد لا يبرأ من متاعب للإنسانية في مستقبلها, وزلت أذكر أن الدكتور مختارهلوده ــ وهو عالم خبير لم يأخذ ما يستحقة من مكانة ــ قد دعاني يوما في مطلع الثمانينيات لإلقاء محاضرة أمام الجمعية المصرية لبحوث العمليات والتي كان يترأسها, واخترت لها موضوعا فيه شئ من الشغب رأيت أن اجعله موضوعا لمناوشة فكرية
مع عدد من الباحثين من أعضاء الجمعية, وتحدثت في المحاضرة عن سلبيات العلم الحديثثم دارت المناقشة طويلة وجادة عندما طرحت ليلتها عددا من الافكار بدت غير مريحة لبعض الحاضرين ولكنها كانت في مجملها تحريضا فكريا لازما للإجابة علي السؤال الذي طرحته في البداية, وهو هل الثورة العلمية خير كلها؟ أم أنها اخترال لعمر البشرية, وقفزة متعجلة لإجهاض مسيرة الانسان؟ إذ يكفي أن نتذكر فقط أن السرعة المتلاحقة للاكتشافات العلمية والاختراعات التكنولوجية قد أصبحت تسبق عملية تطبيقها عمليا, فهناك كثير من الإختراعات لم تجد طريقها الي التنفيذ بشكل تجاري لأن اختراعات أخري في نفس المضمار تقدمت عليها بفارق زمني محدود, ويهمني أن أسجل بداية الدوافع التي تدعوني الي طرح هذه القضية الجدليةالتي قد يري البعض أنها قضية محسومة منذ البداية باعتبارا أن العلم الحديث قد نقل البشرية نقلة نوعية يبدو الجدال حولها سفسطة لامبرر لها, وهذا صحيح في ظاهره, ولكن النظرة المتأملة سوف تستدعي أمورا أخري قد لا يظهر للوهلة الأولي, ويكفي أن أقول أن أكثر المواصلات أمنا هي أكثرها بدائية, فحوادث الدواب لا تذكر بجانب السيارات! كما أن أكثر وسائل التأمين بدائية هي أكثر أمنا, فالمزلاج الحديدي أقوي من المفتاح الالكتروني, ومازلت شخصيا أتحمس للمصعد الخشبي الواسع ذي الطراز القديم وأتخوف أحيانا من المصعد الالكتروني الضيق ذي التصنيع الجديد, ولكن كل ذلك مردود عليه إذ أن الطرح صحيح بصورة عامة ولكن التطبيق ــ في ظل عالم الأعداد الهائلة ـــ أمر يبدو عسيرا,
ولانري أن هناك خيارا أمام البشرية إلا ولوج طريق واحد وطريق العلوم الجديدة والتكنولوجيا الحديثة, وقد يكون ملائما في هذا السياق أن أطرح الملاحظات الآتية:
1 ـــ إن التطور العلمي المعاصر قد أحدث فجوة بين الأجيال لم تقف عند حدود فاصلة بحكم المسافة بين طرفي المعرفة, ولكنها تجاوزت ذلك الي طبيعة القيم الموروثة ذاتها, واعترف هنا انني اطارد احيانا زملائي بحثا عنهم داخل مبني السفارة لكي أكتشف أنهم متمركزون حول أجهزة الكمبيوتر مستغرقين في عالم
الانترنت الذي فتح آفاقا واسعة للمعلومات والاتصالات, وأصبح يحتل حيزا ضخما يشد أجيالا بالكامل نحو ميادين مختلفة لم تكن مطروحة منذ عقود قليلة مضت.
2 ــ إن الخيال العلمي يبدو مفتوحا أمام تصورات بغير حدود, وكثيرا ما استغرق في تفكير حالم أري فيه ان المستقبل سوف يحمل في طياته نموذجا للحياة الديمقراطية عن طريق
الكمبيوتر بحيث يصبح التصويت بالتراسل من خلال شبكةالانترنت, وقد لا نحتاج الي العملية الانتخابية باجراءاتهاالمعروفة, إذ يصح قياس الرأي العام في لحظة واحدة أمرا ممكنا وبطريقة يسيرة أيضا, كما أن خيالي يشطح أيضا الي منتصف القرن القادم حيث أري أن معدل الأعمار قد يتجاوز المائة عام, وقد تتركز أسباب الموت الطبيعي في مرض واحد يتصل باضطرابات الخلية الحيوية, وهو ما نطلق عليه مسميات متعددة لأنواع السرطان المختلفة, علي اعتبار أن تكنولوجيا الطب الحديث سوف تتكفل بحسم الأمور لصالح الأنسان فيما يتصل بباقي الأمراض الأخري, وأتجاوز ذلك التأمل الي جنوح لا يخلو من المخاوف عندما أفكر مليا في النتائج المحتملة للتجاوز الانساني في التعامل مع مسألة الاستنساخ البشري, وإن كنت لا أتوقع نجاحا حاسما في هذا الميدان إلا أنني أري فيه بداية العبث في قداسة الجنس البشري, ونتيجة سلبية أخري من نتائج العلم الحديث برغم كل الادعاءات البراقة التي تتحدث عن امكانية استحداث قطع غيار بشرية من خلال الاستنساخ لإنقاذ ملايين المرضي والمعاقين.
3 ــ إن الذي يقلقني من بعض نتائج الثورة العلمية هو احساسي العميق بأن البشرية عاشت ملايين السنين في جهالة وظلام وأنها قد تغلق ملفاتها المضيئة يوما وتعود الي جهالة من نوع جديد وظلام آخر بسبب الاستغراق المندفع وراء زخم التكنولوجيا المعاصرة ولعلي أطرح هنا سببا مباشرا لذلك موجزه أن التقدم العلمي قد بدأ يؤدي الي اختلال النسب الطبيعية في الكون وإلي اضطراب التوازن البيولوجي علي الأرض وفي البحار والفضاء الخارجي, ولعلنا نلاحظ اختفاء كيانات, وانقراض أخري, مع خلل واضح في معطيات الأحوال الجوية, ومخاوف شديدة من التغيرات المناخية بآثارها المحتملة علي الانسان والحيوان والزراعة والتربة والمياه من عناصر الوجود ورموز الحياة.
4 ـــ إنني أتصور أيضا أن مستقبل العلوم الحديثة والتقدم الصناعي الهائل والتكنولوجيا المذهلة سوف يؤثر بالسلب علي مستقبل الفنون والاداب, أو في أقل تقدير سوف تؤدي المسيرة الحالية الي تغيير في شخصية كثير من الفنون المعاصرة والآداب التقليدية مثل الشعر والرواية لأن الثورة العلمية تمثل عدوانا صارخا علي الخيال الانساني, وسوف نواجه أجيالا جديدة قادمة وقد حرمت من حق الخيال, لأن التقدم العلمي سوف يتكفل بتقديم الاجابات المباشرة علي كل تساؤلاتهم ويعطي التفسيرات المحددة لفضولهم, ولنقارن مثلا بين أجيال المذياع وأجيال التليفزيون لنجد أن الأولي تمتعت بخيال خصب سمح لها بعشرات التصورات حول المتحدث الواحد, بينما أجيال التليفزيون والفضائيات ترتطم بما يشاهدة أصحابها مباشرة دون وجود مسافة يعبرعليها خيال انسان العصر الي تصورات مفتوحة وتأملات شتي, وخصوصا وأن حق الخيال من أجمل الحقوق التي أعطاها الله للانسان فهو بداية الوصول الي الرؤية الشاملة والتصور السليم, وكل الافكار الكبري والفلسفات العظمي بدأت لدي اصحابها احلاما, واكتملت لديهم خيالا, ثم تحققت واقعا.
5 ــ لا يبدو هذا التوجه ــ الذي يتحدث علي استحياء عن بعض سلبيات العلم الحديث والتكنولوجيا المعاصره ــ لدي أصحابه قلقا علي مستقبل الانسان وسلامة مسيرته, وهوالذي قطع أشواطا طويلة تحمل فيها آلاما تفوق الوصف, ومعاناة بغير حدود, وسكب معها بحارا من الدم والعرق والدمع, ثم قدم العلم الحديث كل الوسائل والامكانات لتخفيف الآلام وامتصاص المعاناة, ولكن ذلك كله لم يحجب الاثار السلبية التي وفدت معه وارتبطت بقفزاته الواسعة.. إن اجدادنا لم يعرفوا التلوث البيئ, ولم يواجهوا عشرات الأمراض الجديدة,
ولم يعيشوا عصور الخوف من أسلحة الدمار الشامل, في وقت لم تعد فيه ميادين القتال محددة بمواقع معروفة, ولكنها اصبحت احتمالا مفتوحا في أي مكان إذ يعاني المدنيون الابرياء مثلما يعاني العسكريون المحاربون.
.. بعد هذه الملاحظات المرتبطة بالمخاوف الناجمة عن التقدم العلمي الكاسح, يحسن أن نضرب أمثلة لآثار سلبية من نوع آخر تبدو انعكاسا للهوس الطاغي بالاكتشافات الجديدة التي أفرزتها التكنولوجيا الحديثة, وسوف اكتفي بأمثلة ثلاثة تقدم نموذجا بارزا لنتائج التقدم العلمي والتكنولوجيا المعاصرة وهي: ــ
أولا: إن مقارنة سريعة بين السياستين الخارجيتين لكل من الولايات المتحدة والمملكة المتحدة في الشرق الأوسط علي سبيل المثال سوف تكشف الفارق في التفاصيل وإن اتفقت العموميات, فالولايات المتحدة الامريكية تتخذ قراراتها السياسية من خلال حسابات علوية لا تعني فيها كثيرا بالعامل البشري بل وتتجاهل تأثير الراكم التاريخي ــ الذي تفتقده هي أصلا
ولذلك تكون قراراتها السياسية صماء أحيانا, كما تبدو مواقفها الدولية جامدة أحيانا أخري والسبب ببساطة هو اعتمادها علي منطق المصالح المجردة في المدي القصير دون الاعتبار بالآثار المترتبة علي ذلك في المدي الطويل, أما البريطانيون فهم يدركون خبايا الأنظمة الشرق أوسطية, وخفايا سياساتها الاقليمية من منطلق آخر بدأ بمنهج يسمي الاقتراب من الظاهرة, مارسته الدبلوماسية البريطانية في المنطقة منذ عدة قرون, فهي دبلوماسية التعامل المباشر مع سكان الاقليم بلغاتهم ولهجاتهم, بعاداتهم وتقاليدهم, إنها الدبلوماسية البارعة التي غرست لورنس العرب علي مقربة شديدة من فيصل الأول ابن الشريف حسين, ثم وضعت الجنرال جلوب علي قمة الفيلق العربي في شرق الأردن, كما جعلت دائما استخباراتها النشيطة مقدمة ضرورية لاستكشاف الجانب الإنساني قبل كل قرار سياسي حاسم, وهكذا نجد أن الأسلوب التقليدي المحافظ في عملية صنع القرار السياسي قد تفوق ــ في كثير من المناسبات
علي الأسلوب العلمي المستحدث.
ثانيا: إنني أظن, وأرجو أن أكون مخطئا, أن جيلالكمبيوتر والانترنت, سوف يفتقد كثيرا من جوانب الحياة الانسانية الثرية بالعطاء, الغنية بالحوار, كما سوف يكون محروما من الفضول والدهشة اللذين يصاحبان التعطش للمعرفة بكل الوانها, فالجيل الذي تعلم من الكتاب مازال يبدو أكثرعمقا ورسوخا من
جيل الكمبيوتر وتوابعه, حيث تبدو الحياة لدي الأخير جافة لأن الطرف الآخر في الحوار الدائر معه هو في النهاية آلة صماء ليس فيها حنو الكتاب أو دفء القراءة, كما يجب أن نعترف أن التقدم العلمي المذهل في ميدان المعلومات والاتصالات قد جاء في معظمة خصما من حساب المشاعر الانسانية, والعلاقات الاجتماعية
ثالثا: يري تيار من علماء مناهج البحث وطرائق التعليم أن الاساليب الجديدة في التربية الفكرية مع سنوات النشأة الدراسية الأولي تبدو مسئولة الي حد كبير عن كسل الذاكرة وضعف الخيال وفقر الفلسفة, فقد اصبح الاعتماد علي الآلة كبيرا والاهتمام بالتحصيل الذاتي ضئيلا, وظهر شعورلدي الأجيال الجديدة
بأن مخازن المعرفة في جهاز الكمبيوتر تكفي عن عناء البحث, وتختصر جهد الطالب الذي تحول دوره العلمي مؤخرا الي مجرد عملية ادارة للمتاح أمامه من معلومات والعمل علي توظيفها دون السعي للحصول عليها او الاضافة لها.. ورحم الله أياما حفظنا فيها جدول الضرب بأسلوب تلقائي.. إن الفارق بين الحالتين قد أصبح يشبه الي حد كبير الفارق بين براعة الطبيب المصري برغم قصور تكنولوجيا الطب لديه أحيانا واعتماده الأساسي علي فراسته العلمية وخبرته المباشرة
وتجاربه المتكررة, وبين نظيره في دول أكثر تقدما يحسم القرارات الطبية بأجهزة معقدة,
وإمكانات متقدمة, تعفيه من تراكم الخبرة أو أهمية التجربة..
.. إنني أريد أن أقول بوضوح أن مآثر العلم الحديث أمر يستحيل انكاره; وفضل يصعب جحوده, ولكن ذلك لا يعني أن الصورة وردية كلها إذ أن هناك آثارا جانبية للزحف الكاسح لمسيرة التكنولوجيا المعاصرة, كما إننا نضيف الي ذلك
أن كل سلبيات عصرنا التي نشير إليها دون اغفال لا تحجب بدورها. حقيقة مؤداها أن لكل إنجاز نواقصه, ولكل نجاح سلبياته, كما ان سقوط طائرة لم يمنع البشر من استخدام الطيران, كذلك فـإن حوادث السيارات المتكررة لم تقلل من قيمة ذلك الاختراع الهام..
ولنعد الي الوراء في قراءة جديدة لعصر الثورة الصناعية منذ الموجة الأولي للانتقال من المجتمعات الاقطاعية الزراعية الي المجتمعات الرأسمالية الصناعية, ولنتذكر الآن الآثار السلبية الضخمة لتلك الفترة, بداية من حركة النزوح نحو التجمعات السكانية الكبيرة, مرورا بالتلوث البيئي في عصر الفحم, وصولا الي تكدس العمال وبؤس الطبقة العاملة حينذاك علي النحو الذي أدي الي ميلاد الفكر الماركسي في الاقتصاد السياسي, وظهور روائع تشارلزديكنز في الآدب الانجليزي..
.. وهكذا يستحيل دائما أن يكون هناك اختراع بلا سلبيات, أو انجازدون ثمن, أو نجاح بغير منغصات, إنها في النهاية فلسفة كون, وطبيعة اشياء, وحركة تاريخ..
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/5/18/WRIT1.HTM