كثيرة هي الدراسات ومتعددة تلك المحاولات التي تتناول القرن العشرين ـ قبيل نهايته ـ بالبحث والتحليل وأحيانا بتأمل سلسلة أحداثه الكبري, لوضعه في مكانه الذي يستحقه من تاريخ الإنسان علي الأرض, كما تجري محاولات علي الجانب الآخر لرصد توقعات أحداث قرن قادم يطل علينا عبر الأفق القريب, مع القياس علي وقائع قرن يلملم أوراقه الأخيرة استعدادا للرحيل, ومابين القرنين تتأرجح الأفكار وتتوارد الخواطر, وتزدحم الرؤي, وذلك كله رغم أن واقع الأمر يشير إلي أن خطوط التماس بين القرون لا تمثل حدثا في حد ذاتها, ولكنها مجرد وقفات يراجع فيها الجنس البشري ماضيه, ويدرس حاضره, ويتهيأ لمستقبله, والذين يرددون مقولة تاريخية مؤداها أن القرون الخمسة الأخيرة قد قدمت للبشرية حصادا يفوق ماقدمته كل قرون عمر الإنسان علي الأرض, يضيفون أن القرن العشرين وحده قد قدم لها مايفوق ماقدمته القرون الخمسة التي سبقته.
فإذا كانت تلك القرون قد شهدت استكمال مقومات الدولة القومية بعد صراع طويل بين الكنيسة والدولة, وقدمت عصر النهضة بإنجازاته الرائعة, والثورة الصناعية بنتائجها الضخمة, والكشوف الجغرافية بآثارها الواسعة, والظاهرة الاستعمارية التي نزح بها الشمال ثروات الجنوب, والاختراعات العلمية التي اختزل بها الإنسان معاناته الطويلة, إذا كانت هذه هي ـ في إيجاز ـ إنجازات تلك القرون الخمسة فإنه يبقي للقرن العشرين أنه قرن التحولات الجذرية في مسيرة الإنسان علي الأرض.. تحددت معه ملامح الكون الواحد فشهد حربين عالميتين, وظهر فيه السلاح النووي الذي استخدم لأول وآخر مرة في الحرب الثانية, كما أنه هو القرن الذي شهد انحسار الظاهرة الاستعمارية عندما ظهرت عشرات الدول الجديدة, التي ترفع علما قوميا وتغني نشيدا وطنيا, بغض النظر عما يحدث لها بعد ذلك, وهو القرن الذي تشكلت فيه ملامح ثورة الاتصالات, وبرزت معه نتائج التقدم العلمي المذهل, فهبط الإنسان علي القمر, وسيطر الكمبيوتر علي معلومات العصر,وهو قرن التطبيق الماركسي في الدول الاشتراكية علي نحو استغرق من عمرها أكثر من سبعين عاما, دخلت فيه النظم الشيوعية طرفا في العلاقات الدولية مع أجواء الحرب الباردة لأكثر من أربعة عقود.. إنه باختصار القرن الذي بدأ بهزيمة روسيا أمام أمة شرقية هي اليابان, وانتهي بهيمنة أمة غربية علي مقدرات العالم وأعني بها الولايات المتحدة الأمريكية التي تعيد ترتيب أوضاعه, وترسم من جديد خريطته السياسية, وهو بالنسبة لنا كمصريين يمثل شأنا آخر, فإذا كان القرن التاسع عشر قد شهد ميلاد الدولة المصرية الحديثة وتثبيت أركانها بمحاولات متعاقبة بدأت بعلماء الحملة الفرنسية, ثم تبلورت بدور محمد علي, وتحددت ملامحها بكوكبة من الرواد مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك, حتي جاء الخديو إسماعيل, وأحمد عرابي, ومحمد عبده وغيرهم من رموز الحكم أو النهضة أو الاصلاح, فإن القرن العشرين كان لمصر هو قرن مصطفي كامل وسعد زغلول, ومصطفي النحاس, وعبدالناصر, والسادات, ومبارك, وفوق كل ذلك وقبله هو قرن نضج مكونات المجتمع المدني المصري ورسوخ مؤسساته الحديثة من البرلمان إلي الجامعة, ومن الأحزاب إلي النقابات, ومن فكر الإصلاح إلي حماس الثورة, كما أنه هو القرن الذي ألقي نصفه الثاني بمصر في أتون السياسة العربية بكل مالها وماعليها, ووضعها في المواجهة عبر حروب أربع عرفها الصراع العربي ـ الإسرائيلي, لذلك فإن حصاد هذا القرن بالنسبة لمصر لا يخلو من إرهاق ومرارة, وإن كان يطوي آخر صفحاته وهي في وضع أفضل بكثير من بعض سنواته التي مضت.
لقد احتلت هذه الأفكار وغيرها مساحة من تفكيري علي امتداد الأيام الأخيرة, وكان محركها المباشر تلك المحاضرة القيمة التي ألقاها روبرت ماكنمارا وزير الدفاع الأمريكي السابق في إدارتي كينيدي وجونسون ثم رئيس البنك الدولي بعد ذلك لأكثر من عقد كامل, وهو بذلك قد جمع بين ممارسة السياسة الأمريكية في ذروة سنوات الحرب الباردة عندما حدثت أزمة الصواريخ الكوبية والمواجهة بين موسكو وواشنطن في خليج الخنازير عام1962, وبين التجربة الدولية بشقيها السياسي والاقتصادي علي أوسع نطاق وأعلي مستوي, وقد ألقي ماكنمارا محاضرته حول توقعاته إزاء مفهوم الحروب في القرن القادم وذلك بدعوة من منتدي كرايسكي بالعاصمة النمساوية في شهر إبريل1999, ويهمني هنا مناقشة بعض أطروحاته, علما بأننا نكرر مرة أخري أن الانتقال من قرن إلي آخر هو في المقام الأول مسألة حساب زمني ولايعني بالضرورة تحولا مفاجئا في نمط العلاقات أو نقلة نوعية في أسلوب الحياة إلا بإرادة الإنسان وحده, ورؤيته البعيدة, وانطلاقته المؤكدة, ولعل شيئا من ذلك يتحقق لمصر مع مطلع القرن القادم علي الأصعدة الدولية والإقليمية والمحلية.
.. ونعود الآن إلي ماكنمارا ومحاضرته القيمة, ونوجز مناقشة ما ورد فيها في النقاط التالية:
أولا: يسجل في مستهل محاضرته أن القرن العشرين هو أكثر القرون الملطخة بدماء الجنس البشري عبر التاريخ كله, حيث قتل في حروبه ونزاعاته مايقرب من160 مليون إنسان, مضيفا أن انتهاء الحرب الباردة لم يحقق السلام العالمي المنشود, إذ ظلت الحروب والنزاعات تحتل مركز الصدارة في قائمة الاهتمامات الوطنية والمشكلات القومية, ثم ينتقل ماكنمارا برؤيته المتشائمة إلي القرن الحادي والعشرين لكي يتوقع إمكانية حدوث حروب جديدة بين القوي الكبري في العالم مع احتمال استخدام أسلحة الدمار الشامل فيها, وسقوط عشرات الملايين من الضحايا الذين لابد منهم كوقود لأتون الحرب المستعرة, وفي رأينا أن نظرة ماكنمارا تبدو ذات طابع عسكري بحت, ولا تحتوي في إطارها رؤية شاملة لعوامل أخري يأتي في مقدمتها تنامي ظاهرة الرأي العام العالمي, وبروز خصائص العولمة التي لن تعفي طرفا, مهما تكن قوته, ومهما يبلغ جبروته, من لسعة نيران يكتوي بها في غمار أي حرب عالمية قادمة, كما أن مراحل النمو الاقتصادي والتقدم العلمي تجعل كل الأطراف تفكر عدة مرات قبل الوقوع في براثن التصور الذي ذهب إليه وزير الدفاع الأمريكي السابق, إذ لم يعد الحرص علي السلام هو أمر يتصل بحماية التراث الإنساني وحده, ولكنه أصبح ضرورة للحفاظ علي المكاسب اليومية التي تحققها التكنولوجيا الحديثة والثورة العلمية الباهرة.
ثانيا: تحدث ماكنمارا في محاضرته عن قوي دولية جديدة يقدر لها أن تلعب دورا محوريا أكبر في القرن القادم, ويضع في مقدمتها الصين التي قد يصل عدد سكانها في منتصف القرن الحادي والعشرين إلي مايقرب من ستة مليارات نسمة, كما يضيف إليها احتمالا يتصل بقوة آسيوية أخري هي اليابان, بمنطق آخر لا يعتمد علي عدد السكان ولكن يركز علي التقدم الصناعي والتفوق التكنولوجي, ويزعم ماكنمارا في أطروحته أن الولايات المتحدة الأمريكية سوف تظل هي القوة الأكبر في العالم الجديد, لذلك يتعين عليها أن تتعايش بكل جدية مع عالم متعدد الأقطاب في تلك الحالة, وهو قول مردود عليه بأن التوقعات حول القوي الآسيوية في القرن الحادي والعشرين ليست أمرا جديدا, كما أن استمرار التفوق الأمريكي قد لايظل هو الآخر أمرا حتميا, فمابين الاحتمالين تبدو قوي أخري مرشحة للتأثير في عالم الغد مع الوضع في الاعتبار لظواهر جديدة برز تأثيرها مع نهاية هذا القرن وفي مقدمتها إحياء الظاهرة القومية, وانحسار مفهوم الدولة الايديولوجية, إلي جانب حقائق جديدة تنضوي تحت مسميات شائعة مثل الكفاح المسلح وحق تقرير المصير بل وآثار مفهوم الإسلام السياسي أيضا, وفوق ذلك كله وقبله نواجه ظاهرة الإرهاب الدولي الذي يقوم علي دعائم ثلاث هي: قناع عقائدي, وجريمة منظمة, ومصادر للتمويل لانستبعد المخدرات منها, وهكذا فإن أفكار ماكنمارا تبدو مجردة للغاية فهي تركز فقط علي عاملي التقدم الاقتصادي والتفوق العسكري, وهما عاملان رئيسيان في تكييف نسق العلاقات الدولية ولكنهما ليسا العاملين الوحيدين علي مسرح الأحداث في القرن القادم.
ثالثا: يعترف ماكنمارا أن بلاده لم تتقدم خطوات ملموسة نحو دعم مفهوم الأمن الجماعي الدولي
INTERNATIONAL COLLECTIVE SECURITY
وأن دولا كبري مثل روسيا والصين مازالت تنظر إلي الولايات المتحدة الأمريكية بكثير من الشك, بل إن بعضها يحاول تطوير أسلحته النووية والمضي في برامج أسلحة الدمار الشامل في ظل غابة كثيفة من الشكوك والأوهام, ويضيف في محاضرته أن أطراف العالم المتصارعة تحتاج إلي مصالحة تاريخية علي نمط تلك التي تمت بين ألمانيا وفرنسا عقب الحرب العالمية الثانية لإزالة ركام كبير من الشكوك المزمنة بين الدولتين, وهو قول نتفق فيه مع ماكنمارا ونضيف أن الهواجس لاتقبع في موسكو وبكين وحدهما, بل إن هناك قوي صاعدة في عالم اليوم تحمل نفس القدر من المخاوف والمحاذير, ولعلي أذكر منها دولا آسيوية أخري تتقدمها الهند, بل وأجازف بالقول أن بعض عواصم الاتحاد الأوروبي لديها نفس المخاوف وإن كانت لاتعلن عنها, وتراودها ذات الشكوك وإن كانت لاتصرح بها, في وقت تحاول فيه الولايات المتحدة الأمريكية استخدام قفاز جديد هو شراكة الأطلنطي مع حلفائها الأوروبيين بديلا لقفازها الآخر المتمثل في قرارات مجلس الأمن والتي أصبح ازدواج المعيار فيها أمرا ساطع الوضوح لكل الأطراف.
رابعا: يشير ماكنمارا في محاضرته إلي أكثر من أربعين ألف رأس نووي جاهزة للاستخدام حاليا وهي تكفي لتدمير العالم عدة مرات, ويعتبر وجودها مجازفة بشرية هائلة في ظل إمكانية استخدامها, ويدعو بإلحاح إلي أهمية العمل بكل حماس لإزالتها بالكامل من العالم, ويضرب مثالا بأزمة الصواريخ الكوبية في الستينيات والتي كان هو طرفا فاعلا فيها, ويري أنها نموذج لمفهوم المخاطرة النووية حيث تعرض العالم وقتها لإمكانية استخدام السلاح النووي, بل ويضيف ماكنمارا إلي ذلك بعدا آخر للمخاطر النووية يتمثل في إمكانية حدوث حرب بها عن طريق الخطأ, وهو أمر يجعل وجود السلاح النووي خطرا في حد ذاته حتي ولو انتقي استخدامه الإرادي بشكل مؤكد, ـ ونحن نتفق مع ماكنمارا في رؤيته, ونظن عن يقين ـ أن القرن الحادي والعشرين سوف يشهد مرحلة الاختبار الحقيقي لأسلحة التدمير الشامل, إذ يقع علي البشرية عبء القرار المؤجل بشأنها, لأنها في النهاية قضية البقاء أو الفناء للإنسانية كلها.
خامسا: يأتي ماكنمارا إلي أكثر أفكاره أهمية في محاضرته عندما ينادي بضرورة تطبيق مبدأ الأمن الجماعي للدول, أي ربط أمن مجموعات منها ببعضها, مع التركيز علي السعي الدءوب لإزالة المخاوف والشكوك بين الولايات المتحدة الأمريكية والقوي الأخري في العالم مثلما تم بينها في جانب وبين كل من بريطانيا وفرنسا واليابان ـ خلال هذا القرن ـ من جانب آخر, وهو يؤكد في سياق محاضرته أن مبدأ الأمن الجماعي سوف يستلزم بالضرورة إنشاء آليات إقليمية لتسوية النزاعات في المناطق المختلفة دون تدخل القوي الكبري, وهنا يناقش ماكنمارا في شجاعة وأمانة, أهمية إعادة تقوية أجهزة الأمم المتحدة وفي مقدمتها مجلس الأمن, مع مراجعة حق الفيتو الذي تتمتع به حاليا الدول دائمة العضوية فقط, مؤكدا أنه من غير الطبيعي أن تعطل دولة واحدة إرادة المجتمع الدولي بأسره, ويضرب مثالا بما أدي إليه مبدأ الاجماع
UNANIMITY
من إخفاق منظمة الوحدة الإفريقية ـ علي سبيل المثال ـ عندما تتجه لمحاولة حل النزاعات الاقليمية الافريقية حيث يمكن أن توقف دولة واحدة إرسال قوات إلي إحدي مناطق النزاع في القارة المنكوبة بمشكلاتها العرقية والاقتصادية والثقافية, ثم يأتي ماكنمارا إلي أكثر النقاط إثارة في محاضرته بتوجيه النقد لسياسة بلاده الحالية, ويطالب بتعديل تلك السياسة فورا, ويضرب أمثلة محددة لتأكيد مايذهب إليه متسائلا كيف تتأخر الدولة الأقوي في عالم اليوم عن سداد مساهماتها للأمم المتحدة وهي الجهاز الأول المسئول عن السلم والأمن الدوليين؟ وينتقد ماكنمارا اتجاه واشنطن لاستخدام قوتها العسكرية والاقتصادية بشكل منفرد أحيانا
UNILATERAL
مؤكدا أن الولايات المتحدة لم تتقدم حتي الآن خطوات ملموسة لدعم مفهوم الأمن الجماعي الدولي, ولم تقلل من هواجس الصين أو شكوك روسيا أو مخاوف غيرهما تجاه مستقبل السياسة الأمريكية علي ضوء حاضرها, وهو أمر يؤكد مصداقية ذلك الرجل الكبير الذي جاوز الثمانين بسنوات عدة, ولم يفقد أمانة النظرة تجاه المستقبل والتي اكتسبها بخبرته الطويلة, وأدركها برؤيته العادلة, وهو الذي عايش الأحداث الجسام بدءا من ورطة الصواريخ الكوبية, مرورا بأحراش الحرب الفيتنامية, وصولا إلي مقعد رئاسة أكبر مؤسسة إئتمانية معاصرة.
ونضيف من جانبنا ونحن نقف في طابور مودعي ألفية كاملة, شهودا علي عصر فريد, أن القرن العشرين سوف يظل, برغم كل طموحاته وإنجازاته, متهما لدي الضمير الإنساني بأنه القرن الذي تبلورت فيه ظاهرة إزدواجية المعايير, وترسخت عبر عقوده سياسة الكيل بمكيالين, وهو القرن الذي عرف شعارات براقة, ظاهرها حق وعدل وباطنها باطل وظلم, ويكفي أن نتذكر أن القرن الذي نحاول اليوم محاكمته إنسانيا ـ إنطلاقا من محاضرة ماكنمارا ـ هو قرن الاعلان العالمي لحقوق الانسان بكل ماجاء به من معان نبيلة وأفكار سامية وقيم رفيعة.. ولكن أين كل ذلك من مئات التجاوزات الصارخة لإطاره القانوني أو معياره السياسي؟ إن سياق أحداث القرن في مجملها يعطي انطباعا بالزيف, ويؤكد إحساسا بالخوف, ويطرح تساؤلا حول سلامة المسار الانساني علي مشارف الألفية الثالثة, وسوف تظل التعبيرات المستحدثة من نظام عالمي جديد الي كونية ثم عولمة بمثابة لافتات ضخمة لتغطية أوضاع عارية, وكأنما يأبي القرن أن يرحل دون أن تزفه دماء اللاجئين في كوسوفا, ودموع المعذبين في العراق, ومعاناة الأطفال في إفريقيا, وأنات الضحايا في قارات الدنيا كلها.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/5/4/WRIT1.HTM