عملت بالقرب منه ثماني سنوات أحدثت تغييرا كبيرا في طريقة تفكيري واسلوب حياتي, وكان أهم ماتعلمت منه هو القدرة علي أن أكون موضوعيا قدر ماأستطيع, فالرئيس مبارك يفصل بدرجة تدعوا الي الانبهار بين ماهو عام وما هو شخصي, ولايسمح بالخلط بينهما مهما تكن الدوافع والمشاعر والظروف.
وهذه سمة تستحق التأمل لأنها تبدو معدومة الوجود أو علي الأقل محدودة الأثر في حياتنا المصرية.
حيث التداخل الكامل بين العوامل الشخصية والعناصر الموضوعية عند التصدي لأي مشكلة أو التعرض لأي قضية, إذ أن تنحية المشاعر تبدو أمرا صعبا في تاريخنا وواقعنا ونأمل ألا يظل الأمر كذلك في مستقبلنا أيضا لأننا نسعي لتحقيق احترام القاعدة قبل الشخص, ونريد أسلوبا في العمل لا يعتمد علي الفرد, ويوم يختفي تأثير' الشخصانية' علي القرار الداخلي والخارجي فسوف نكون بحق دولة عصرية, ويتحقق ذلك يوم أن يتوقف المصريون عن تلوين الحقائق, وتطويع المواقف, وتحويل المسألة الشخصية الي قضية عامة أو العكس بتوظيف الاهتمام العام لخدمة غرض شخصي, ولقد تعلمت من الرجل الذي نحتفي اليوم بعيد ميلاده أن' الشخصانية' يجب أن تنحسر من حياتنا الفكرية والثقافية وتختفي من ممارستنا اليومية. ويحكي تلاميذه من قادة وضباط القوات الجوية عن اسلوب عمله علي امتداد سنوات طويلة وكيف كان يفصل بشكل حاد بين مشاعره الشخصية وقراراته الموضوعية, فقد غضب يوما علي أحد تلاميذه عندما ارتكب خطأ في عمله وأحاله للتحقيق حيث وقع عليه جزاء زاجر, وظن الجميع أن تلك الواقعة هي نهاية مستقبل ذلك الطيار الشاب, ولكن كانت المفاجأة عندما ظهرت نتيجة الاختيار لاحدي البعثات العسكرية الي الخارج, فإذا اسم الطيار المعاقب موجود ضمن قائمة المسافرين لأن كفاءته تتناسب مع مستوي تلك الدورة التدريبية بغض النظر عن العقوبة التي كان قد نفذها,وبفصل كامل بين غضب قائده عليه وبين حقه الطبيعي في البعثة العلمية, حتي إن الضابط الشاب بكي من المفاجأة ولابد أنه تعلم يومها درسا في الموضوعية أفاده وأفاد غيره في حياتهم الوظيفية وخدمتهم العسكرية.. وكانت تدهشني كثيرا قدرة الرئيس علي الفصل بين ماهو شخصي وماهو عام, حتي وطنت نفسي علي حقيقة مؤداها أنني أعمل مع شخصين مختلفين وإن كان الرئيس واحدا, ففي غير ساعات العمل تجد انسانا ودودا للغاية, قادرا علي مداعبة تلاميذه ومعاونيه في حدود الالتزام بين رئيس دولة ومن حوله مشيعا جوا رائعا من البهجة لدي كل من حوله, فإذا جاءت ساعات العمل فالأمر يختلف تماما..صرامة واضحة, جدية كاملة,استغراق شديد في التفكير, فترات طويلة من الجهد الشاق, انضباط تام يسيطر علي الجميع, مع رهبة شديدة منه, وانتباه يقظ خشية الوقوع في خطأ.. ولا أثر اطلاقا للشخص الذي كنا نتشرف بالسمر معه أمس, أو ننعم بالحديث المرسل في حضرته منذ ساعات.. ولقد سيطرت علي الدهشة من هذه الظاهرة في الشهور الأولي لعملي سكرتيرا للرئيس, وعبرت له عن ذلك في احدي المناسبات فقال لي لو أنك خدمت طويلا في القوات المسلحة لتعلمت كثيرا فن التعامل مع من هم دونك ومن هم أعلي منك بحيث لا تقع اسيرا للمزج بين العمل وسواه, ولا تسمح لمشاعرك الشخصية بالسيطرة علي قراراتك الوظيفية, وأضاف أن القائد في القوات المسلحة قد يسامر ضباطه الصغار وجنوده في جلسة إنسانية في المساء, ولكن عندما يبدأ طابور الصباح فكل فرد يعرف موقعه الحقيقي, ومساحة الحركة المتاحة له بالضبط, دون تجاوز مهما تكن الأسباب, وقد يوقع القائد علي أحد ضباطه جزاءا موجعا رغم أنه قريب الي قلبه أو محبب الي نفسه, إنها شريعة الحياة التي تحتم اعطاء كل ذي حق حقه إذا أردنا العدل والحق والخير في الوطن الذي ننتمي جميعااليه بغض النظر عن المناصب والمواقع والذي نعمل من أجل رفعة شأنه واعلاء كلمته..وعندما انتهت خدمتي في مؤسسة الرئاسة حين رأي الرئيس أن هناك ما يعد خروجا علي الانضباط الذي يلزم به من يعملون معه, وشعر بتجاوز مني لا يرضيه, لم يعصف بي بحكم تقاليد السلطة المصرية, ولم تتحول نظرته نحوي الي سواد, بل تغلبت'موضوعيته المزمنه'لتفصل بين الخطأ الذي يستحق العقاب, وبين امكانات الشخص التي لا تستحق الاهدار, ولن أنسي اتصال الدكتور سمير سرحان رئيس الهيئة العامة للكتاب بي في أول معرض سنوي للكتاب بعد تركي لموقعي في الرئاسة, ليقول لي أن السكرتارية الخاصة قد أبلغته بأن الرئيس يريد أن يعامل سكرتيره السابق للمعلومات كالمعتاد سنويا, وأن يكون له لقاؤه الفكري دون أدني تغيير, بل زاد الرئيس علي ذلك فضلا أن كلف السيد فاروق حسني وزير الثقافة الاتصال بي في النمسا لدعوتي ـ بعد إذن وزير الخارجية ـ للحضور من فيينا لالقاء محاضرة في معرض القاهرة الدولي للكتاب في سنة أخري, وهكذا يضرب مبارك الأمثال للمصرين ـ في جميع المواقع ومن كل الدرجات ـ ليتعلموا التجرد وتحكيم الضمير والقدرة علي الفصل بين انفعال الموقف وسلامة القرار, كان هذا هو الدرس الأول الذي تعلمته من عملي بالقرب من رئيس كل المصريين حسني مبارك, وكان الدرس الذي تلاه هو البعد عن العبارات الجوفاء, وتجنب الشعارات الرنانة والتخلي عن الحديث الفخم دون أن يكون له مضمون حقيقي, وهو صاحب النصيحة الدائمة بضرورة تحاشي الخطأ حتي لا يكون المرء مضطرا للتراجع.. وهي مقولة صائبة تجعل من يؤمن بها مدعوا للتفكير الطويل قبل اتخاذ القرار المهم, لا سيما إذا كان الشخص هو رئيس دولة, وقراراته ذات تأثير في مستقبل الملايين من شعبه خصوصا الأجيال الجديدة التي تمثل أبرز شواغل مبارك اليومية, وتحتل الحيز الأكبر من اهتماماته الدائمة..وما أكثر المطبات التي كان يمكن أن تقع فيها قيادة مصر لولا حكمته, وما أكثر المعارك التي كان يمكن أن نستدرج اليها لولا حصافته, وما أكثر الشراك التي كان يمكن أن نسقط فيها لولا طبيعة شخصيته, فهو انسان يصعب استدراجه, ويستحيل دفعه الي قرار في غير أوانه, ويصعب أن ينزلق الي موقف لايريده.. ولولا أن ذلك الرجل يملك حسا إنسانيا صادقا وصبرا غريزيا طويلا, لتورطت مصر أثناء الثمانينيات في مغامرة عسكرية ضد ليبيا بترحيب امريكي, ولاستمر وجودها في الخليج بعد تحرير الكويت تحت مظلة القوات الحليفة, ولكن مبارك الحصيف سحب القوات المصرية بصورة مفاجئة بمجرد استكمال تحرير التراب الكويتي حتي يقطع الطريق علي أية محاولة للزج بجندي مصري واحد خارج إطار الهدف القومي الذي ذهب من أجله, ولولا أنه مبارك لكان محتملا أن يندفع أي زعيم غيره لمحاربة السودان ـ بدون وعي كامل ـ غداة محاولة الاغتيال الأثمة في يونيو1995, وهل ننسي حكمته وبعد نظرته عندما أجهض شخصيا محاولة توريط مصر مؤخرا في خلاف لا مبرر له مع دولة قطر؟, واستطاع بصبره ونفاذ بصيرته أن يضبط النفس وأن يتجاوز إطار الخلاف المصطنع الذي كان هدف من يقفون وراءه فتح جبهة مواجهة بين مصر ودول الخليج ذات الارتباط القومي الوثيق بمصر منذ تولي مبارك مقاليد الحكم.
أما الدرس الثالث الذي تعلمته من العمل بالقرب من مبارك فهو الحرص الشديد علي المال العام, ولن أنسي جلسته ـ أثناء فترات راحته القليلة ـ علي شاطئ قناة السويس وهو يتطلع في سعادة الي البواخر الضخمة التي تمر فيها, والناقلات العملاقة تمخر عباب مائها, ويطلب الرئيس بين الحين والحين الاتصال بإدارة هيئة القناة للسؤال عن الرسوم التي دفعتها كل باخرة ضخمة أو ناقلة عملاقة.. وكأن العائد له شخصيا وليس لخزانة الوطن الذي نذر كل حياته لخدمته مخلصا, منذ كان طيارا صغيرا حتي أصبح قائدا كبيرا, ثم رئيسا للدولة بعد سلسلة رفيعة من المناصب لم يسع هو اليها, ولكنها هي التي سعت دائما اليه..
إنه الزعيم الذي لم يتطاول علي سلف له, وأجري مصالحة تاريخية بين كل القوي السياسية الشرعية وكل الزعامات التاريخية الوطنية, فتحية وتهنئة له وباقة زهر اليه, في هذه المناسبة العزيزة,وهو سيبقي دائما موضوعي القرار, نزيه الرأي, صادق الكلمة, لا يحب العنتريات, ولايحكمه الهوي, فمصر بالنسبة له ـ كانت دائما وسوف تظل أبدا ـ هي القدر والمصير والحياة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/5/3/MOLH35.HTM