كتب الدكتور فؤاد زكريا يوما عن دهاء التاريخ في معرض مقارنته بين حملة نابليون علي مصر وحرب عبد الناصر في اليمن, وانقسم الناس يومها حول ما كتب بسبب الاختلاف الجوهري بين الحالتين, ولكن الشئ الذي ظل متفقا عليه هو أن المفكر المصري البارز قد اختار عنوانأ لا يخلو في مضمونه من عمق ولا يبرأ بذاته من دهاء, وواقع الأمر أن تاريخنا القومي قد تحول في كثير من المناسبات إلي ملهاة فردية, أو كوميديا عبثة تتقاذفها الآراء في ظل أهواء شخصية, أو تجارب ذاتية, أو دوافع مفتقد الموضوعية, بينما يحتاج التأريخ إلي كل النزاهة والتجرد والحياد, فقيمةالجبرتي ــ علي سبيل المثال ــ تأتي من انبهاره الشديد بما كان يجري حوله, خصوصا بعد وصول حملة نابليون, الأمر الذي فرض عليه تلقائيا درجة عالية من الالتزام بالحقيقة, فضلا عن أن مشاعره الوطنية قد جعلت دراما الأحداث حول مطلع القرن التاسع عشر تبدو لديه جزءا من جدية الحياة ذاتها, وشريحة من رؤية المستقبل واحتمالاته, كما أن عبد الرحمن الرافعي علي الجانب الآخر قد صبغ كثيرا مما كتب بلون انتمائه السياسي مع ما يجلبه ذلك من عداوات وما يؤدي إليه من تحالفات, وفي ظني أن المؤرخ الملتزم لا يجب أن يكون له انتماء سياسي معين مكتفيا بشعوره الوطني الخالص واحساسه القومي الصادق, أقول ذلك بمناسبة ما كتبه الدكتور عبد العظيم رمضان عن السياسي المصري الراحل أحمد ماهر ورد حفيده وسميه ــ سفيرنا في واشنطن ــ عليه, مع ماتردد بعد ذلك من تعليقات حول هذا الموضوع وقد أعادت لي هده المسألة من جديد ذلك الجدل الذي يثور حول أهمية احترم التاريخ لأنه أدهي بكثير مما نتصور, كما أن المردود السلبي للعبث به أكبر مما نتوقع, فالشعوب التي تفهم تاريخها الصحيح, وتضع رموزه في مواقعهم الحقيقية هي القادرة علي استشراف المستقبل, واستطلاع الطريق نحو غد أفضل, ومسئولية المؤرخ أن يتعامل مع الأحداث والشخوص في تجرد واضح وسمو رفيع, في اطار الظروف الموضوعية التي احاطت به, فهو يقف وراءالكاميرا ولا يسمح لنفسه أبدا بأن يكون أمامها.
ويثير الموضوع في مجمله عددا من الملاحظات عندي أوجزها في النقاط التالية:
أولا: إن مفهوم المعاصرة مازال يسلب من موضوعية الرواية التاريخية أهم عناصرها,ويهبط بها إلي مستوي الشعور الذاتي المباشر علي نحو يجعل نبرةالأنا طرفا فيه أحيانا, فالمؤرخ الذي عاش احداثا معينة وتفاعل معها بالسلب والايجاب يصعب عليه في كثير من الأحيان تنحية مشاعره الذاتية, وربما تجربته الشخصية لكي يرتفع إلي درجة من التجرد, بل ويهبط المؤرخ في كثير من الحالات ليصبح طرفا في الحدث, ومحاورا في المباراة, بدلا من أن يكون حكما عادلأ يري مسيرة الأحداث في اطار ظروفها دون أن يتأثر ياشخاصها, ولقد عانتالحقبة الناصرية وكذلك الفترة الساداتية كلتاهما من هذه المحنة, وسوف نلاحظ دائما ان الحماس لأحد العهدين يكون تلقائيا علي حساب الآخر, كما أن موقف المؤرخين والكتاب منهما قد جاء دائما نتيجة مباشرة للمعاناة الشخصية أو المكاسب المادية, حتي تشوهت الصورة, واختلطت الأوراق, واضطربت الرؤية أمام الأجيال الجديدة.
ثانيا: لقد اعتمد العمل التأريخي في معظمه علي عملية السرد التلقائي في غيبة الوثيقة, حتي حفل تاريخنا بأصنام قائمة وأقنعة زائفة, ولم نتمكن حتي الآن من اعطاء كل حدث في تاريخنا الحديث دلالته الصحيحة, كما أننا ــ نتيجة لذلك ــ لم نعط لاعبي المسرح السياسي ما يستحقونه بغير تهويل أو تهوين, سوف نظل نتطلع إلي يوم قادم تسقط فيه تلك الأقنعة وتتهاوي معها الأصنام, ليبدو تاريخنا الوطني نقيا من الشوائب, عفيا من النواقص, خاليا من الافتراءت ويكفي أن نتذكر في هذه المناسبة أن واحدا من أطول شوارعلندن والذي يستقبل القادمين من مطارهيثرو إلي وسط المدينة هو طريق يحمل اسمكرومويل الذي ثار يوما علي النظام الملكي البريطاني, ودفع حياته بلاط لمحاولة تقويض العرش القابع في بلاسان جيمس والاطاحة بتاج لا يزال قائما حتي اليوم, فالتاريخ الداهية يحتوي الجميع سواء اولئك الذين نتفق معهم في الرأي أو ارلئك الذين نختلف عنهم في الهوي.
ثالثا: إنني أزعم مخلصا أن مراحل عديدة من تاريخنا الحديث سوف تظل في حاجة إلي اعادة نظر, كما أن أحداثا كثيرة مازالت تفتقد الموضوعية عند التحليل, واستطيع أن اذكر منها بغير تردد حادث4 فبراير عام1942 اثناء العصر الملكي في جانب, واحداث السنوات الأولي من قيام الثورة المصرية في جانب آخر, كما أن الرموز الضخمة في تاريخنا خلال القرنين الأخيرين من أمثال محمد علي, وعبد الناصر, والسادات مازالت تحتاج إلي مراجعة أمنية في وقت ظهرت فيه دراسات من نوع جديد تعيد النظر في شخصيات مثل الافغاني, وعرابي, وسعد زغلول, كما أنني أزعم أن هناك في الوقت ذاته رموزا أخري تستحق رد الاعتبار ربما أشير منها علي سبيل المثال إلي الخديوي إسماعيل, ومصطفي النحاس, وإسماعيل صدقي, كذلك فإن هناك اسماء لامعة تحتاج هي الأخري إلي اعادة تقييم اكتفي منها بنموذجين فقط ــ درءا للمخاطر ــ فأذكر اسم الدكتور محمود فوزي الذي يعتبره الكثيرون استاذ الدبلوماسية المصرية, ويوسف وهبي أحد أبرز رواد المسرح المصري الحديث.
ولمزيد من الوضوح فانه يكفي أن نتأمل درجة التشابه بين السياسة التوسعية لمحمد علي والانتشار القومي لعبد الناصر, لكي نكتشف أن القاسم المشترك بينهما كان هو توظيف الدور المصري فيما وراء الحدود بينما اعتمدت فلسفة السادات في سياسته الخارجية علي توجه مختلف يركزعلي مفهوم استعادة الأرض, والحفاظ علي الخريطة المصرية الأصلية, مع السعي للانتشار دوليا والانكماش اقليميا, إذا انتقلنا إلي المجموعة الثانية وقلبنا في ملف الأفغاني فسوف نجد أنه كان يمثل شخصية شبه اسطورية لا تخلو من غموض اختلفت حوله الآراء, وتباينت امامه وجهات النظر بدءا من سيرته الذاتية, مرورا بجنسيته الأصلية, وصولا إلي أهدافه النهائية, وأذكر أنني حاورت المفكر الراحل الدكتور لويس عوض متحفظا علي ما كتب هو عن الافغاني وتوصيفه لدوره بأنه كان يخدم أهداف السياسة الخارجية لبعض القوي الأوروبية, أما عرابي فقد تعرض هو الآخر لحملة تشويه ظالمة حتي أنه قوبل بالازدراء والتحقير بعد عودته من المنفي, واعتبره كثير من الوطنيين سببا في الاحتلال البريطاني لمصر, وإذا تعرضنا لاسم سعد زغلول زعيم الثورة الشعبية المصرية بعد الحرب العالمية الأولي فإن حياته السياسية قد بدأت بشكل يكاد يتناقض مع ما انتهت إليه ذلك عندما آلت إليه قيادة الثورة الشعبية, ولقد أسدي الدكتور عبد العظيم رمضان خدمة جلية لناريخ الحركة الوطنية المصرية عندما قام بمجهود ضخم تمكن به من تقديم مذكرات سعد زغلول وتحقيقها رغم أن صاحبها كان معروفا برداءة الخط تماما, وتداخل الأفكار أحيانا, ولكن المؤرخ المصري المتميز استطاع أن يجعل منها وثيقة هامة في تاريخنا السياسي المعاصر, أما الخديوي إسماعيل فهو يستحق رد الاعتبار بكل المعايير, فهو بحقإسماعيل المفتري عليه حيث كتب التاريخ بكل سلبياته المالية, بينما خلا معظمها من انجازاته التحديثية, وأعماله الرائعة, التي عكست طموحاته في أن يجعل مصر قطعة من اوروبا القرن التاسع عشر, وحين نصل إلي مصطفي النحاس زعيم الوفد بعد سعد زغلول فإننا نعتقد أنه من أكثر زعمائنا الوطنيين صلابة وطهارة, بل إنني أحسب أنه يتفوق علي سلفه في كثير من المواقف, ولحسن الحظ فإن الرئيس مبارك ــ الذي دعا إلي مصالحة تاريخية بين رموز مصر الحديث ــ قد رد الاعتبار للزعيم الراحل صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس ووضعه في مكانه اللائق بين زعامات الأمة وقيادات الوطن, كما أن سياسيا داهية مثل إسماعيل صدقي الذي يبدو للثيرين مجرد أداة قوية يد في القصر الملكي, وتعبيرا عن إرادة الأقلية ضد التيار الشعبي العام لا يخلو هو الآخر من درجة عالية من التميز في حنكته السياسية ورؤيته الاقتصادية تجاه عدد من القضايا لعل أهمها منظوره الفريد لأسلوب مواجهة المد الصهيوني في فلسطين عند بدايته, فاذا انتقلنا الي المجموعة الثالثة التي نري أنها
تحتاج إلي إعادة تقييم فإننا نجازف بالتعبير عن وجهة نظر فريق يختلف مع تيار عام صنع
عددا من نجوم الحياة العامة في ظروف تاريخية معينة أسهم فيها ما يمكن تسميته بالحظ السعيد بينما تواري في نفس تلك الظروف آخرون كان يمكن ان يكونوا أكثر قيمة وأعلي قدرا, فالدكتور محمود فوزي الذي يعتبره الكثيرون اسطورة في تاريخ الخارجية المصرية لا يري فيه البعض أكثر من دبلوماسي تقليدي هاديء اعتمد علي ما يمكن تسميته بدبلوماسية الصمت في مواقف كثيرة كانت تحتاج منه الي ابداء النصيحة واسداء المشورة خصوصا وأن منصبه كوزير للخارجية يعطيه دورا سياسيا يتجاوز موقعه الوظيفي
علي قمة الجهاز الدبلوماسي, ولكنه آثر دائما البعد عن المواجهة, والاكتفاء, بتبرير ما يجر ي, ونحن في مصر نظن في كثير من الأحيان أن الصمت يخفي وراءه عبقرية, وأن التحفظ هو
انعكاس لقدرات خفية, وقد يكون الأمر مختلفا عن ذلك, أما رائد المسرح المصري الحديث يوسف وهبي, فإن من النقاد من يردد أنه قد وظف أصوله الطبقية, وقوته الشخصية, من أجل الوصول إلي مكانته, بل وأضافوا أنه كان
يعوض فقر الموهبه بارتفاع الصوت واللجوء الي المسرح الخطابي دون الاعتماد علي المؤثرات الفنية الحقيقية, وليس يعني ذلك أن أصحاب
تلك الآراء ـ ممن يعومون ضد التيار ـ يجردون مثل تلك الاسماء من كل قيمة فذلك يصبح افتراء من نوع آخر يصل بصاحبه الي درجة
الاستخفاف برأي سائد, بل قد يتحول أيضا إلي نوع من العبث بالتاريخ, فإذا كان أصحاب
هذه الأراء يرفضون التهويل من شأن تلك الشخصيات فإننا لا نسعي أيضا الي التهوين من قدرهم, إذ يري أصحاب هذا الاتجاه المحدود أن مثل هذين النموذجين قد حصلا ـ بمنطق الظروف وبحكم فراغ الساحة ـ علي أكثر مما يستحقان, وأؤكد هنا أنني لست متحمسا لكل ما يردده من يحملون معاول الهدم, ولكنني أدعو فقط الي ميزان جديد لتقييم الأحداث, والحكم العادل علي الشخصيات في تاريخنا المصري المعاصر.
رابعا: إن مناخ الحرية شرط أساسي لنجاح المؤرخ في مهمته, وتحقيق رسالته, فالتاريخ لا يكتب تحت وطأة نظرية سياسية بعينها, أو بتوجيه من نظام حكم بذاته, بل لابد أن يشعر المؤرخ بأنه لا سلطان عليه إلا سلطان الوثيقة, وضمير المهنة التي اختارها طريقا لحياته, كما أن التعددية الثقافية مهمة للمؤرخ, والتزاوج الفكري أمر ضروري له فلابد أن يضرب بسهم في العلوم الاجتماعية الأخري, إذ أن المؤرخ النابه هو الذي يلم بجميع الاهتمامات في المجالات الرئيسية لمراحل التاريخ المختلفة بدءا من الأدب والفن, مرورا بالقانون والاقتصاد,
وصولا إلي الحياة اليومية للمجتمع القائم, ولقد شرفتني الجمعية التاريخية المصرية باختياري عضوا معينا في مجلس إدارتها, وذلك قبل عام واحد من انتقالي للعمل سفيرا لبلادي خارج مصر, وهو مجلس يضم كوكبة من كبار المؤرخين المصريين الذين ينتخبهم أعضاء الجمعية العمومية في ذلك الكيان العلمي الرفيع الذي يعتبر واحدا من أهم الانجازات الأكاديمية للعصر الملكي في بلادنا, وكنت أجد أنني الوحيد في مجلس الإدارةالذي ينتمي لمدرسة العلوم السياسية وسط مجموعة متميزة من أبرز أساتذة التاريخ بتخصصاته المختلفة في الجامعات المصرية المتعددة, وأعترف
أنني قد شعرت باحترام كبير لهم وانبهار بجهودهم الصامتة,رغم حاجة الجمعية إلي تشجيع رسمي ودعم مادي خصوصا بالنسبة لمكتبتها التاريخية التي تعد بحق ثروة قومية, وقد لفت نظري في تشكيل مجلس إدارة الجمعية أنهم يلجأون عند انتخاب كل مجلس الي تطعيمه بشخصية يرون الحاجة لوجودها نظرا لانتمائها لتخصص يقترب من عملهم الجليل, وهذا تأكيد للمنظور الذي نشير اليه عن ضرورة امتزاج مصادر المعرفة المختلفة لدي المؤرخ الثقة الذي يكون عمدة الرواية التاريخية الصادقة, ولعل نموذج المؤرخ المصري المعاصر د. يونان لبيب رزق في نقل الرواية التاريخية من مصادرها الصحفية اليومية, يمثل إسهاما رفيعا في تقديم الصورة الحقيقية للماضي ووضع الأحداث في إطارها الصحيح.
خامسا: يظل الضمير الوطني لكل من يتصدي للدراسات التاريخية أمرا جوهريا لا يمكن الانتقاص من قدره, ويتجلي ذلك في درجة نزاهته الفكرية, ومستوي أمانته العلمية دون أن يمنعاه من أن تكون له توجهاته الوطنية ولكن بدون انتماءات حزبية, فالمؤرخون المعاصرون مطالبون حاليا برصد عبقرية الشعب المصري تجاه قضيتي الحرب والسلام في الصراع العربي الإسرائيلي, وكيف استطاع هذا الشعب العظيم أن يوازي في ذكاء تاريخي بين الثوابت والمتغيرات, حتي تجلت مصداقيته في احترام اتفاقية السلام مع إسرائيل التي تبلغ هذه الأيام عامها العشرين دون انتهاك حدودي إرادي واحد من جانبنا, بينما ظل التطبيع بطيئا ومحدودا لأن مشاعر الشعوب محكومةبشيء آخر يتصل بمنطق العدل وضرورات, ومفهوم الحق ومقتضياته, وشمول السلام وضماناته,كما أن تقييما نزيها للمواجهات المصرية مع اسرائيل سواء بالقوات المسلحة أوبالوسائل الدبلوماسية تبدو هي الأخري مهمة قومية عاجلة أمام مؤرخينا الكبار
في محاولة جادة لتوثيق تاريخنا الحديث وحرمان الطرف الآخر من الانفراد وحده عالميا بحق الرواية التاريخية عن كل ما يتصل بالشرق الاوسط.
هذه هي محاولة للتفكير في شأن الكتابة التاريخية المعاصرة, نسعي منها إلي الحفاظ علي الذاكرة الوطنية, والأعتماد علي المعايير الموضوعية, في مناسبة الحديث عن السياسي الراحل احمد ماهر الذي نري أن الصديق العزيز الدكتور عبد العظيم رمضان قد حرمه بعض حقه بدون سوء قصد, ولكن ربما بدافع اعتقاده أن الخوارج علي الوفد والمتمردين علي زعيمه مصطفي النحاس لا يستحقون الإشادة والتكريم وتلك وجهة نظر خاصة تحتاج الي نظرة شاملة,
ورؤية متجددة, فالشخص العام هو في النهاية نتاج العصر الذي عاش فيه, وابن الظروف التي أحاطت به, وإفراز التطورات التي جرت حوله.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1999/3/23/WRIT1.HTM