اهتزت مصر مرتين في تاريخها الحديث حول اسم بطرس غالي, المرة الأولي في حادث مأساوي تعرض له بطرس غالي الجد, بينما كانت المرة الثانية في حادث سعيد تحقق علي يد بطرس غالي الحفيد, وهكذا يظل الاسم بطرس غالي عالقا في الذهن المصري, كامنا في الذاكرة الوطنية لارتباطه دائما بعائلة قبطية عريقة شارك ابناؤها في الشأن المصري العام منذ ميلاد مصر الحديثة وبداية حكم محمد علي وظلت شخوص منهم تلعب دورا بارزا علي مسرح الحياة السياسية المصرية علي امتداد القرنين الأخيرين حتي كانت عملية التنقيب الواسعة في تاريخ تلك العائلة المتميزة من جانب وكالات الانباء العالمية غداة اختيار الدكتور بطرس غالي الذي ولد في الرابع عشر من نوفمبر عام1922 ـ لكي يكون أول أمين عام للأمم المتحدة من افريقيا والشرق الأوسط والعالم العربي, وأذكر يومها أن التلفزيون الفرنسي قد سعي لاجراء حديث معي باعتباري واحدا من تلاميذ الأمين العام الجديد للأمم المتحدة وفوجئت يومها أن المراسل الفرنسي كان قد تجول لساعات طويلة في شوارع الفجالة بالقاهرة يسأل عامة الناس عن التاريخ العائلي لأسرة غالي, وموقف الشارع المصري من الشخصيات المعروفة فيها, كما أذكر أن إحدي الإذاعات الأوروبية ـ ولعلها البريطانية ـ قد أذاعت يومها أن بطرس بطرس غالي قد انتخب أمينا عاما للأمم المتحدة وأضافت أنه( افريقي غير أسود, وعربي غير مسلم, ومصري غير فقير) في محاولة خبيثة لتمييع الصفات التمثيلية الثلاث للأمين العام القادم من الشرق الأوسط ليتبوأ أرفع منصب دولي, ويهمني هنا عند التعرض لشخصية بطرس بطرس غالي بالدراسة ـ في غمار الحديث عن شركاء عيد الميلاد ـ أن أقف أمام ملاحظات عشر حول هذه الشخصية التي ثار الجدل حولها, ودخلت دائرة الضوء الساطع في ربع القرن الأخير, وهذه الملاحظات هي:
أولا: إن بطرس بطرس غالي يحمل علي كاهله تاريخا عائليا مزدوج التأثير, فهو لدي البعض سليل بيت مصري عريق, له اسهامه الضخم في التاريخ المصري الحديث, إنها العائلة التي قدمت أول رئيس وزراء قبطي, وهي أيضا التي قدمت واصف غالي وزير خارجية حكومات الوفد الأولي, فضلا عن رموز متعددة لها في مواقع بارزة للعمل العام طوال هذا القرن, بينما ينظر البعض الآخر الي بطرس بطرس غالي من منظار مختلف يري أن اغتيال جده علي يد ابراهيم الورداني طالب الصيدلة العائد من دراسته في سويسرا لم يكن حدثا طائفيا كما تم تفسيره وقتها, ولكنه كان حدثا سياسيا بالدرجة الأولي, فأصحاب هذا الرأي يرون أن اغتيال بطرس الجد لم يكن بسبب انتمائه الطائفي بقدر ما كان لدوافع سياسية أخري تتصل بمواقفه من مسألة السودان, ومد امتيار قناة السويس, ومحاكمة دنشواي, وواقع الأمر أن أصحاب هذا الرأي يتجاهلون عامدين أو غافلين مواقف مشرفة أخري لذلك الرجل فهو الذي هرع لزيارة الشيخ البشري شيخ الأزهر داعما ومؤيدا غداة عزل الخديوي للإمام الأكبر, كما أنه هو أيضا مؤسس جمعية التوفيق القبطية بكل اسهامها الاجتماعي الواسع ومكانتها كجمعية رائدة في تاريخ العمل الأهلي المصري, وأذكر أنني قد تلقيت منذ سنوات دعوة كريمة لزفاف الصديق الدكتور يوسف بطرس غالي وزير الاقتصاد, وكانت مرا سم الحفل في الكنيسة البطرسية الملحقة بكاتدرائية الأقباط الأرثوذكس وهي التي نقل إليها رفات بطرس باشا غالي في الثلاثينيات من هذا القرن بعد اتمام تشييد هذه الكنيسة التي تبدو تحفة معمارية صغيرة تغطي جدرانها أجود أنواع الرخام الايطالي, وظللت طوال الحفل أفكر, هل تحمل الكنيسة اسمها من القديس بطرس الرسول أم من السياسي المصري الراحل الذي تضم رفاته؟ أردت من هذه القصة أن أشير إلي عراقة بيت غالي الذي يقف الي جانب بيوتات قبطية أخري تشكل في مجموعها ما يمكن تسميته بالارستقراطية القبطية في مصر, والي هذا التاريخ العائلي ينتمي الدكتور بطرس غالي بكل ما يثيره ذلك من طموحات, وما يرمز إليه من اشارات.
ثانيا: إن بطرس غالي قد اختار طريق العمل الوطني العام دون الانخراط في نشاط الطائفة القبطية, فكانت علاقته بالكنيسة المصرية علاقة احترام عن بعد, تأكيدا لظاهرة تاريخية مؤداها أن كل قبطي يسعي إلي دور في الحياة العامة يتعين عليه دائما أن يخرج من شرنقة النشاط الطائفي الي المسرح المصري العام الذي يحتوي المصريين جميعا بغض النظر عن دياناتهم, هكذا فعل مكرم عبيد باشا, وكذلك فعل الدكتور بطرس غالي, ولعل في حياة المفكر المصري المعاصر ميلاد حنا شيئا من ذلك, وإن كان حضوره السياسي بعد اعتقال1981 يبدو مختلفا عنه قبلها, فقد ألحت عليه في السنوات الأخيرة بعض هموم الأقباط بعد أن عايش في تجربة الاعتقال عددا من رموز الكنيسة القبطية المصرية, ولكنه ظل في كل الاحوال شخصية مرموقة تحظـي بتقدير اسلامي لا يقل عن الحماس القبطي لها, وتلك مسألة هامة, فإما أن يكون القبطي المرموق من الأراخنة وهم أعيان الكنيسة القبطية, أو أن يكون ابنا للوطن بكامله يتصدي للعمل العام بدون حواجز تمنعه, أو هموم تؤرقه, بحيث يصبح الشأن الطائفي لديه جزءا لا يتجزأ من الشأن العام خصوصا في بلد تضرب فيه الوحدة الوطنية بجذور تصل الي الأعماق السحيقة للتاريخ.
وقد آثر بطرس غالي لذلك أن يكرس جهوده علي المستويين الاكاديمي والصحفي الي أن اختاره الرئيس الراحل السادات عام1977 وزير دولة معني بشئون الاشتراكية الدولية, وأذكر أن أستاذي وصديقه الدكتور عبدالملك عوده قد فاتحني وقتها في أن أكون مديرا لمكتب الوزير الجديد لأنه يبحث عن أحد تلاميذه ليكون في ذلك الموقع, وكان كل ماتوفر للوزير الجديد حينذاك هو مكتب صغير في مبني مجلس الوزراء تلحق به حجرة أخري من المقرر أن يكون فيها مكتبان أحدهما لي والثاني للسكرتير الشخصي للوزير, ولم يتحقق ذلك إذ أن الرئيس السادات قام بزيارته الشهيرة الي القدس واصطحب معه الدكتور بطرس غالي الذي عاد بصفة جديدة شغلها لسنوات طويلة وهي وزير الدولة للشئون الخارجية, وعندما وصل د. غالي الي ديوان عام وزارة الخارجية طلب مني ومن زميلي الدكتور محمود مرتضي ـ سفير مصر في اليمن حاليا ـ العمل علي اصدار أول مجموعة من الكتب البيضاء لتوثيق تاريخ الدبلوماسية المصرية بعد ان كاد الوطن يفقد جزءآ من ذاكرته القومية بحكم الأحداث المتتالية التي شهدتها مصر في الستينيات والسبعينيات من هذا القرن, وقد نصحني الوزير الجديد وقتها بالبقاء في السلك الدبلوماسي ـ دون اهمال النشاط الأكاديمي ـ حيث كانت اجراءات تعييني مدرسا بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية قد قطعت شوطا كبيرا, كذلك كان هو الذي أوفدني للعمل أربع سنوات بسفارتنا في الهند حتي أعايش تجربة الأقليات واقعيا بعد أن درستها نظريا علي حد تعبيره.
ثالثا: إن الدكتور بطرس غالي خريج كلية الحقوق بجامعة القاهرة والذي استكمل دراسته للدكتوراه في باريس عاد لكي يكون واحدا من أصغر اساتذة الجامعة سنا بحيث تخرجت علي يديه أجيال وأجيال حتي أنه يصعب أن نجد خريجا لكليات التجارة والحقوق والاقتصاد والعلوم السياسية في نصف القرن الأخير دون أن يكون قد درس علي الدكتور بطرس غالي مباشرة, أو من خلال كتبه ودراسته علي الأقل, ومازلت أذكر حين كنت واحدا من تلاميذه في قاعة البحث لمادة التنظيم الدولي منذ أكثر من خمسة وثلاثين عاما أنني أعددت ـ باشرافه وبحماس منه ـ بحثا عن عبدالرحمن الكواكبي والتنظيم الدولي الاسلامي, مستمدا مادته من قراءة نقدية لكتاب الكواكبي أم القري وحين طرحت البحث للمناقشة امام زملائي أبدي بعضهم ملاحظة مؤداها أنني قد احتفيت باللغة علي نحو يقف بالدراسة علي الحدود بين السياسة والأدب, فانبري استاذنا مدافعا عن ذلك الأسلوب في الكتابة ضاربا أمثلة بعدد من الكتاب والمفكرين الفرنسيين الذين تميزت كتاباتهم أناقة الأسلوب بشرط ألا يكون ذلك علي حساب سلامة المضمون, وهنا تبدو القيمة الحقيقية للازدواج الثقافي للدكتور غالي وقدرته علي ايجاد الرأي المناسب من خلال الاطلاع علي ثقافتين كبيرتين.
رابعا: سوف تظل العلاقة بين بطرس غالي وعروبة مصر موضع اهتمام, فقد وقف الرجل منها موقفا يمكن وصفه بالحياد الايجابي, فهو لا يبدو شديد الحماس للمفاهيم القومية عموما, إذ يري أن ارتباط مصر الافريقي علي الجانب الآخر له أهميته وقيمته لأسباب واقعية ومباشرة, فضلا عن أن مسألة السودان باعتبارها تعبير عن العمق الجنوبي لمصر تمثل لدي بطرس غالي هاجسا تاريخيا يربطه باغتيال جده الراحل, وأحسب أنه هو نفسه الدكتور بطرس غالي قد أشار الي شيء من ذلك في مقدمة كتاب مشترك كتبه مع الأستاذ يوسف شلاله منذ أكثر من أربعين عاما, وواقع الأمر أن الدكتور غالي لا يعادي العروبة ولكنه ـ بطبيعة شخصيته ـ يميل إلي العلاقات الواضحة والمصالح المباشرة بين الدول, ولا تستهويه كثيرا المفاهيم القومية الغامضة, أو الأطروحات السياسية التي تستند علي كثير من الدوافع العاطفية, ولكن الرجل ـ وهذه شهادة حق ـ يملك دائما قدرا كبيرا من الموضوعية خصوصا حين يقف في قاعة المحاضرات فتبدو لديه أمانة الأستاذ الذي يعرض وجهات النظر المختلفة في توازن كامل, ومازلت أذكر محاضرته الرفيعة حين أصدر الفاتيكان وثيقته الشهيرة لتبرئة اليهود من دم السيد المسيح في مطلع الستينيات, وكيف قام بطرس غالي المصري بمرافعة علمية أمام طلابه تناول فيها أبعاد الصراع العربي الاسرائيلي وعناصر المشكلة الفلسطينية, وبدا انحيازه لأصحاب الحق واضحا برغم الاطار العلمي للمحاضرة والسياق القانوني للدراسة, وقد اتاحت لي ظروف عمل سابق منذ سنوات أن أشهد استقبال القائد الليبي معمر القذافي ـ وهو من سمي بأمين القومية العربية ـ للدكتور غالي, حيث كانت حفاوته به واضحة عند مصافحته ضمن وفد رسمي مرافق للرئيس مبارك اثناء زيارة للعاصمة الليبية قبيل اختيار الدكتور غالي أمينا عاما للأمم المتحدة, وهنا تقضي الأمانة أن أقرر أن الرئيس مبارك قد خاض معركة ضارية من أجل وصول ذلك المصري المتميز الي أرفع منصب دولي ووضع كل ثقله السياسي وراء حملته الانتخابية, فكانت مسألة ترشيح الدكتور بطرس غالي قاسما مشتركا في مباحثات الرئيس اثناء زياراته الخارجية خلال تلك الفترة كما كانت موضوعا لاتصالاته الهاتفية برؤساء الدول والحكومات علي امتداد اسابيع عديدة من عام1991.
خامسا: لقد حافظ بطرس غالي علي خيط رفيع من العلاقة الحساسة مع السلطة في مصر أثناءأ عهد الرئيس عبدالناصر, وقد تعرضت لهذه النقطة في مقال لي بالاهرام غداة اختيار الدكتور غالي امينا عاما للأمم المتحدة, واخترت لمقالي يومها عنوانا حماسيا هو وسام علي صدر مصر ذلك ان اختيار الدكتور غالي كان مفاجأة سارة للمصريين والعرب والأفارقة علي حد سواء, فإذا عدنا الي العلاقة التي حكمت بطرس غالي بجهاز الدولة المصرية في الخمسينيات والستينيات فسوف نجد أن الرجل قد تمتع بحرية فكرية وشخصية كاملتين, فقد كان يسافر الي الخارج أكثر من مرة في العام الواحد وما أكثر الفترات التي انقطع فيها عن الحضور للجامعة بسبب مهام عملية أو دعوات شخصية لم تقف الدولة منها موقف المنع أو التعطيل في وقت كانت فيه تأشيرة الخروج من الجهات الأمنية شرطا لمغادرة البلاد, ومرد ذلك في ظني هو الذكاء الشخصي لبطرس غالي واتصالاته العديدة وقدرته علي توظيف جاذبية شخصيته وتاريخه العائلي في كسب احترام وثقة الآخرين, فبرغم كثير من الملاحظات التي كان يتعرض لها من زملائه في الجامعة أو خارجها, إلا انه استطاع دائما أن يركز علي الهدف الذي يسعي إليه, وألا يصرف جهوده في معارك جانبية, فلقد كانت له خصومة اكاديمية مع أستاذين كبيرين في قسم العلوم السياسية بجامعة القاهرة, أولهما هو العالم الراحل الدكتور حامد ربيع وهو بشهادة كل من عرفه أستاذ أساتذة العلوم السياسية, والثاني عالم رفيع القدر أيضا هو الدكتور عز الدين فوده فقيه القانون الدولي المعروف, ولكن براعة بطرس غالي كانت دائما هي الحفاظ علي الخيط الرفيع من المودة مع الجميع بغير استثناء, ولا شك أن علاقته بالأجهزة الأمنية في العصر الناصري لم تكن سيئة في أي وقت من الأوقات, فقد أدرك الرجل بذكائه حساسية موقفه واختار دائما أن يكون كالكتاب المفتوح الذي تسهل قراءته لكل من يريد, فضلا عن أن جاذبية ارستقراطيته في تلك السنوات التي تميز فيها سواد المصريين بحدودية الدخل. واعتدال المعيشة قد جعلت له بريقا خاصا, ولازلت أذكر كيف كنا نتندر ونحن طلاب في مطلع الستينيات أن أستاذنا بطرس غالي يرتدي كل يوم حلة يتناسب لونها مع لون السيارة التي يقودهاـ: وهنا لابد من الاشارة الي نقطة هامة وهي أن بطرس غالي ـ من خلال صلته بالاهرام ـ قد تمتع بمظلة الحماية والثقة التي كفلها الأستاذ هيكل لعدد كبير من مفكري الأهرام وكتابه, حتي تمكن الدكتور بطرس غالي من اصدار مطبوعتين هامتين في تاريخ الثقافة الاقتصادية والسياسية في مصر وأعني بهما الاهرام الاقتصادي والسياسة الدولية.
سادسا: لقد كان الاكتشاف الحقيقي لقدرات بطرس غالي السياسية مقترنا بعصر الرئيس السادات, فهو الذي دفع به الي المسرح السياسي واختاره لمقعد يقترب كثيرا من منصب وزير الخارجية وهو المنصب الذي أحسب أنه ظل يداعب خيال الدكتور بطرس غالي منذ صدر شبابه ربما اقتفاء لأثر عمه العظيم واصف غالي الذي استطاع بحكمته أن يساهم في وأد الفتنة الطائفية في مطلع هذا القرن, ورأي أن يضع يده في يد قاتلي أبيه بدلا من أن يضعها في يدي قاتلي وطنه) علي حد تعبيره ذات يوم, وهنا يجب أن نقرر أن بطرس غالي يمتلك كل الأدوات التي تضعه في أي منصب اكاديمي رفيع أو موقع دبلوماسي مرموق, فلديه الخلفية النظرية, والالمام الرفيع باللغات الأجنبية, والشخصية الجذابة القادرة علي المزج بين الجدية الكاملة التي لا تخلو من تكشيرة تقليدية جنبا الي جنب مع القدرة علي السخرية الرائعة التي يمتلكها ابن البلد المصري الذي ولد في واحد من شوارع الفجالة بالقاهرة ويكفي أن نتصفح كتابه الأخير( الطريق الي القدس) لنكتشف ذلك بوضوح, ولقد كانت علاقة الدكتور بطرس غالي بالرئيس السادات علاقة لا تخلو من طرافة وود واضحين فقد كان يحلو للرئيس الراحل أن يناديه باسمه منطوقا بالعربية أحيانا أو مترجما لبديلة اللاتيني أحيانا أخري.
سابعا: لقد تمتع بطرس غالي في عصر الرئيس مبارك بأكبر قدر من الثقة والمسئولية, فلقد كان لحماس الدكتور بطرس غالي لعمله وتفانيه فيه ـ خصوصا علي الصعيد الافريقي ـ أثره الكبير لدي الرئيس مبارك الذي يعتبر دائما أن أوراق الاعتماد الحقيقية لأي شخص لديه هي قدراته العملية واجتهاده الشخصي, ولا يضع لأية اعتبارات غير موضوعية أساسا في اختياره أو دعمه لأي مصري أو مصرية, وهكذا عاش بطرس غالي عصره الذهبي في ثمانينيات هذا القرن مسئولا فاعلا في مؤتمرات القمة الافريقية, أو قمة عدم الانحياز أو حتي لقاءات القمة علي الصعيد العربي, فالرجل يلقي قبولا عاما في كل الساحات ومازلت أتذكر أن المملكة العربية السعودية قد تحمست لاختياره أمينا عاما للأمم المتحدة من منطلق مصريته وعروبته, وكان ذلك هو شأن كل الدول العربية والاسلامية عند اختياره, بل ان استقبال الرئيس الايراني السابق رافسنجاني له وهو أمين عام للأمم المتحدة كان مفعما بالود, حافلا بكل شواهد المجاملة الشخصية, تقديرا لمصريته وعروبته, فضلا عن تاريخه الشخصي, ولا يمكن أن ننسي الدعم الدائم الذي أسبغه الرئيس مبارك ـ رئيس كل المصريين والذي تخلو كل عناصر فكره تماما من أية نزعة طائفية ـ علي الدكتور غالي اعترافا بقيمته وتقديرا لدوره حتي منحه قلادة رفيعة في احتفال رسمي بالقصر الجمهوري قبيل تسلمه مهام منصبه الدولي الكبير.
ثامنا: انني لا أجد حرجا في أن اقرر هنا أن هناك أقلية ضئيلة ـ من خارج مصر في معظمها ـ قد وجهت سهام النقد الباطل لبطرس غالي, وقال بعضهم اننا كنا نفضل أن يكون أمين عام الأمم المتحدة مسلم الديانة بغض النظر عن جنسيته أو قوميته, حتي ارتفعت اصوات تتحمس وقتها للأمير صدر الدين خان بغير رؤية عادلة, أو نظرة موضوعية, كما ارتفعت أصوات أخري بعد ذلك بسنوات تحمل بطرس غالي أمين عام الأمم المتحدة وقائد قوات حفظ السلام الدولي ـ بحكم منصبه ـ مسئولية تدهور الأوضاع في البوسنة بل ووصل الغمز الي الاشارة الي أن أرثوذكسية الصرب قد التقت مع أرثوذكسية الدبلوماسي القبطي في تعاطف مستتر علي حساب مسلمي البوسنة, وهو قول دافع عنه الدكتور بطرس غالي بموضوعية كاملة في مناسبات مختلفة خصوصا أنه قد تعود علي هذا النوع من الاتهامات عبر تاريخه الطويل, برغم اسهامه المستمر في توثيق عرا الوحدة الوطنية المصرية ومازلت أتذكر المقدمة التي كتبها عام1981 لكتاب صدر عن دار الاهرام بعنوان( الشعب الواحد والوطن الواحد) شاركت فيه مع الاستاذين المستشار طارق البشري والدكتور وليم سليمان قلاده, وبهذه المناسبة فإننا لا ننسي ذلك المشهد الرائع حين زار شيخ الأزهر الراحل الدكتور بطرس غالي في مستشفاه في باريس اثناء محنة مرض قاسية تعرض لها بعد رحلة افريقية شاقة في منتصف الثمانينيات فكانت تلك الزيارة تعبيرا عن التقدير لابن بار لمصر, وتجسيدا لمفهوم الوحدة الوطنية الكاملة.
تاسعا: إن شخصية الخوجة ظلت مسيطرة علي اداء بطرس غالي ومنطق تفكيره طوال حياته الوظيفية حتي أنني أحسب أن جزءا من النقد الذي وجهته اليه الادارة الامريكية يرتبط أساسا بقوة شخصيته ورغبته في إحكام السيطرة علي جهاز الأمم المتحدة الذي يترأسه وربما رغبته أيضا في أن يلعب دورا سياسيا مرموقا يتجاوز الصلاحيات التقليدية لوظيفة الأمين العام للأمم المتحدة, كما أن توقف الكيمياء الشخصية بينه وبين وزيرة الخارجية الأمريكية مادلين اولبرايت قد جعل التعاون مع الادارة الامريكية صعبا إن لم يكن مستحيلا, كذلك فإن ظلالا من الشك قد بدأت تحيط به بعد نشر تقرير الأمم المتحدة عن مذبحة قانا بسبب انتمائه العربي والضيق بممارساته المختلفة في تلك الفترة.
عاشرا: إننا يجب أن نقرر أن بطرس غالي نموذج فريد لشخصية مرموقة من العالم الثالث, وإذا كانت نهاية عمله في الأمم المتحدة قد جاءت شاحبة وغير سعيدة إلا أنها قد عكست الخلل الحقيقي في ميزان القوي الدولية, إذ يكفي أن نتذكر أنه قد تولي منصب أمين عام الأمم المتحدة بأحد عشر صوتا مؤيدا له في مجلس الأمن, بينما انتهت خدمته بأربعة عشر صوتا مؤيدا له من أعضاء مجلس الأمن ايضا ولكن الفارق بين الحالين هو أن الصوت الخامس عشر المعارض الوحيد هذه المرة هو صوت الولايات المتحدة الأمريكية صاحبة القرار الأول في عالم اليوم, ويكفي أن بريطانيا الحليف التقليدي لواشنطن قد خرجت علي النص وأيدت استمرار بقاء الأمين العام, ومازلت أذكر اتصالا هاتفيا مع الدكتور بطرس غالي قبيل انتهاء فترته اقترحت عليه فيه أن يترك المنصب باختياره ليكشف ابعاد الموقف الأمريكي, ولكنه بعناد الصعيدي المصري رأي أن يستكمل المسيرة حتي النهاية ربما لكي تكتمل كل الأوراق كاملة أمام محكمة التاريخ.
هذه ملامح شخصية مصرية متعددة الجوانب, متنوعة القدرات, مستمرة العطاء, يبدو فيها شيء من شموخ مصر وسماحة تاريخها, وعمق تراثها, فهي مصر التي كانت ولا تزال وسوف تظل أم الدنيا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1998/12/8/WRIT1.HTM