العميد هو ذلك العبقري فاقد البصر صاحب البصيرة طه حسين الذي أشاركه يوم المولد مع اختلاف السنين, والذي مضي علي رحيله ربع قرن كامل, فقد كانت وفاته في أعقاب نصر أكتوبر المجيد وكأن روحه أبت أن تبرح جسده إلا بعد أن تبرح الهزيمة جسد الوطن كما قال في رثائه وقتها الأديب الراحل توفيق الحكيم. وطه حسين ظاهرة إنسانية عاشت وتألقت علي أرض مصر وخلفت بعدها تراثا شامخا في الفكر والأدب والسياسة, إذ أنني أحسب أننا لانكاد نعرف نموذجا للعصامية الشخصية مثلما نعرف عن ذلك الفذ الذي قذف به صعيد مصر ــ وما أكثر ما قذف من عبقريات ــ ليملأ تاريخ الوطن بريقا وضياء, بل إن أطروحتيه للدكتوراه في الجامعة المصرية والجامعة الفرنسية عن كل من أبي العلاء المعري وابن خلدون بالترتيب هي تأكيد للرؤية النافذة لهذا المفكر الكبير الذي اختار دراسة نماذج من الخالدين في التراث العربي ممن تميزوا بالسبق علي الفكر الأوروبي الحديث, وكانت لهم الريادة في المزج بين أصول الأدب وفروع العلوم الاجتماعية المختلفة, بل إن هذا الاختيار يعكس سلامة تقديره, ونفاذ بصيرته وادراكه العميق للعلاقة الارتباطية بين الآداب والعلوم في فهم كامل لنظرية وحدة المعرفة, وسوف يظل نموذج طه حسين ــ برغم كل ما كتب عنه ــ موضع جدل ومثار نقاش, فلقد خاض الرجل معارك فكرية ضارية, وتعرض لحملات قاسية حين هيأت له نفسه أن بمقدوره أن يتجاوز الأزهر في قفزة واحدة ليخطو نحو الغرب بمراكزه الفكرية ومؤسساته العلمية, وقد يكون من المفيد هنا أن نرصد رحلة ذلك الانسان العظيم عبر استعراضنا لعدد من الملاحظات:
أولا: إن طه حسين الذي تميز في تاريخ الأدب العربي بموسيقي اللفظ, وعمق الفكرة, وتكرار الاشارة, هو نفسه طه حسين الذي تمرد علي التقاليد الثقافية البالية, واخترق حاجز الخوف من الجديد, واستطاع برصانة فكرية وحركية أن يتقدم بخطوات ثابتة نحو عالم مختلف عن ذلك الذي نشأ فيه وانتمي اليه, وهذا يعني أنه كان قادرا علي استيعاب روح التغيير, وأن الأزهري الضرير ابن قرية( الكيلو) من أعمال مركز مغاغة محافظة المنيا قد تملك ناصية اللغة الفرنسية ونهل من آداب الغرب وعلومه, ومزج في روعة ظاهرة بين نشأته الدينية وثقافته الأجنبية, وتميزت كتاباته بقوة النظر والقدرة علي تقليبها في أسلوب ساحر ومنطق أخاذ.
ثانيا: لقد تميز طه حسين بدرجة عالية من التوازن الشخصي سمحت له بأن يستقبل الأفكار الجديدة, وأن يلفظ الأصنام الفكرية, وأن لايقبل بالمسلمات إلا بعد تمحيص ودراسة, ومثل هذا العقل النقدي الذي حازه عميد الأدب العربي كفيل بأن يضعه في موقع خاص في تاريخ الفكر ومسيرة الثقافة في هذه المنطقة من العالم بل إن شخصية طه حسين هي تجسيد حي لثقافات الشرق الأوسط بكل ما بينها من اتفاقات أو تناقضات, إذ لم يكن لدي طه حسين حساسية عنصرية تحول بينه وبين الآخر أو تقطع طريقه نحو الغير.
ثالثا: إن معارك طه حسين الفكرية والأدبية منذ صدور كتابه الشهير الشعر الجاهلي والذي تغير عنوانه بعد معركة حامية استنفر فيها الحرس القديم في أروقة الأزهر ودار العلوم والجامعة المصرية لمواجهة ذلك الشيخ الضرير الذي يريد أن يكتسح في طريقه أفكارا ترسخت عبر القرون, ويناوئ آراء استقرت خلال السنين, كما أحدث كتابه الآخر مستقبل الثقافة دويا هائلا باعتباره دعوة من أزهري نحو التغريب, ومحاولة لربط مستقبل ثقافتنا بثقافات البحر المتوسط وهو أمر لم يكن من المألوف التصريح به في ذلك الوقت خصوصا من شيخ أزهري.
رابعا: إننا نحسب أن طه حسين الذي اقتحم السياسة من بوابة الفكر كان يضمر في ذاته أفكارا أوسع مما كتب, وآراء أرحب مما نشر, إذ أن شكوكا قوية تحيط بدوره في دفع كتاب الشيخ مصطفي عبدالرازق الاسلام وأصول الحكم الذي يناوئ مفهوم الخلافة في التاريخ الاسلامي, ولا نستبعد أن ذلك الكتاب كان صياغة لحوار فكري بين طه حسين وصاحبه وهما ينتميان لإقليم واحد هو المنيا برغم الفارق الطبقي بينهما, كما أنهما ينتميان معا للنشأة الأزهرية ثم الثقافة الفرنسية بعد ذلك, بل إن التاريخ الاجتماعي لصالونات مصر الثقافية في الثلاثينيات والأربعينيات يشير إلي أن زوجها العميد وهي فرنسية قوية الشخصية ذات تأثير علي زوجها كانت تشعر بارتياح للعلاقات الوثيقة مع بيت عبدالرازق والذي يعد بحق نموذجا رفيعا للارستقراطية المصرية في صعيد مصر حيث وظفت بعض العائلات العريقة ثروتها المادية لخدمة العلم والثقافة.
خامسا: إن شغب طه حسين الفكري قد جاوز ذلك بكثير إذ أننا نميل إلي تفهم بعض الادعاءات المتصلة بدوره في رئاسة تحرير مجلة الكاتب المصري حول منتصف الأربعينيات ما دار حولها من لغط يتصل بتمويل يهودي لها, كذلك فإن زيارته للجامعة العبرية لدي انشائها تبدو حتي الان رواية مثيرة للجدل ولكننا نجده مناسبة لكي نقول أن علاقة كثير من المصريين ــ وربما العرب أيضا ــ باليهود قبل اعلان الدولة الصهيونية لم يكن فيها تلك الحساسيات التي تولدت بعد ذلك عندما تبلورت ابعاد السياسة التوسعية العدوانية للكيان العبري بعد1948, ولنتذكر أن رجل دولة من طراز اسماعيل صدقي كان يجاهر بامكانية التعايش السلمي مع الدولة اليهودية كما أن طه حسين كان متأثرا في نظرته لليهود ــ علي ما يبدو ــ بالنظرة الاسلامية التي لا تعادي الديانة اليهودية وتستأنس أحيانا بتعاملات نبي الاسلام مع يهود خيبر في فجر الدعوة المحمدية وهو أمر يرتبط أيضا بالقبول العام للأقلية اليهودية في مصر قبل قيام اسرائيل.
سادسا: إن صراعات طه حسين لا تقف عند حدود المعارك الأدبية والمناوشات الفكرية بل إن خلافاته السياسية لاتقل كثيرا عن ذلك, فرغم أن زعيم الوفد مصطفي النحاس قد رأي أن يجمل به مقعد وزير المعارف العمومية بعد انتخابات عام1950 عندما عاد حزب الأغلبية إلي السلطة بعد طول انتظار, إلا أننا لا نستطيع أن نعتبر العميد في تاريخه السياسي محسوبا علي حزب الوفد, فقد كانت ميوله أقرب إلي بعض أحزاب الأقلية شأن عدد من كبار المثقفين في عصره, بل إننا نعتبر أن اعجابه في مطلع حياته السياسية برجل من طراز عبدالخالق ثروت كان يفوق اعجابه بساسة الوفد ذاتهم علي الرغم من شعبيتهم الكاسحة ودورهم الوطني, ونستطيع القول أن الوفد هو الذي سعي لاستقطابه نظرا لقيمته الفكرية والأدبية فضلا عن تنامي تيار الطليعة الوفدية بزعامة عزيز فهمي ورفاقه بما كان يحمله من أفكار اشتراكية معتدلة تبدو قريبة من شعار طه حسين حيال حق التعليم في مصر حينذاك.
سابعا: إن قدرة الأديب العظيم ــ وهو فاقد البصر ــ علي تصوير بعض المشاهد الواقعية واللقطات الانسانية علي نحو يتفوق فيه علي المبصرين تضعه في مصاف كبار الروائيين العالميين, ويكفي أن نتذكر وصفه لترقيع حذاء الشيخ في تحفته الذاتية الأيام أو تحليله للمشاعر الانسانية العميقة في شجرة البؤس أو ثقافته الموسوعية في كتابه الشيخان, كما أننا نحني الرأس اجلالا وخشوعا أمام المشاهد الرائعة التي صورها قلمه لحياة الرسول ــ صلي الله عليه وسلم ــ في سنوات عمره الأولي وحجم الشجن الانساني النبيل في حيات النبي اليتيم كما رسمته رائعة طه حسين الخالدة علي هامش السيرة, ونحن بذلك نستطيع أن نزعم أن نوبل غابت عن مصر طويلا ولم تصل إلي الأدب العربي إلا متأخرا فكان من نصيب أديبنا الروائي نجيب محفوظ.
ثامنا: لقد وقف الرجل من ثورة يوليو موقفا مؤيدا, ومازالت أصداء مقاله الذي كتبه بعد شهور قليلة من قيامها والذي استهله بقوله( لم يكن الفقير راضيا عن فقه, ولم يكن المريض راضيا عن مرضه... إلخ) مازالت تمثل بصدق حالة السخط التي خرجت منها ثورة الجيش عام1952, كما أن مواقفه بعد ذلك من ثوار يوليو قد اتسمت بالمسايرة والمجاملة, ويكفي أن نتذكر خطبته أمام الرئيس عبدالناصر حينما منحه جائزة الدولة التقديرية في الأدب والتي كال فيها المديح للزعيم العربي الكبير, كذلك كان مقاله الشهير بعنوان( بطر) غداة الانفصال وسقوط دولة الوحدة بين مصر وسوريا, كما لم يكن غريبا أن يحصد الرجل أرفع الأوسمة من قادة العرب وملوكهم ونحن لاننسي حفاوة المغرب به وعاهلها الراحل الملك محمد الخامس عندما لبي دعوته لزيارة بلاده في تكريم غير مسبوق وسط جو من الاهتمام الرسمي والشعبي لم يحظ به أديب غيره.
تاسعا: إن طه حسين لم يبرأ من الاتهامات القاسية والدعوي الباطلة من دعاة الشهرة علي حساب الكبار أو محترفي التسلق بافتعال المعارك الوهمية, من أجل الدعاية والرغبة في الظهور, وقد كان يحلو لي منذ سنوات مداعبة وزير خارجية مصر الراحل د. محمد حسن الزيات ــ وذلك عندما كان رئيسا لجمعية الصداقة المصرية الهندية وكنت نائبه ــ بقولي له أنه حصل علي الدرجة الخامسة الحكومية في الأربعينيات بقرار استثنائي بعد مصاهرته للعميد والزواج بابنته الراحلة السيدة( أمينة طه حسين) كما جاء في الكتاب الأسود الذي أصدره مكرم عبيد بعد خلافه مع مصطفي النحاس, ويجب أن أقرر في هذه المناسبة أن د. الزيات كان مثقفا متميزا ودبلوماسيا ذكيا.
عاشرا: إن فضل طه حسين علي التعليم والثقافة سوف يظل علامة مضيئة في تاريخنا الحديث, فهو الأزهري الثائر, وهو الأديب المفكر, وهو الوزير الشجاع, ولعلنا نتذكر مع الحديث عنه صلته التاريخية بمجانية التعليم التي غابت في زحام التحولات, وأصبحت اعلانا بلا مضمون في ظل مافيا الدروس الخصوصية التي أسهمت في تدهور العملية التعليمية برغم كل الجهود الصادقة والنوايا المخلصة.
هذه بايجاز ملاحظات نسوقها ونحن نتحدث عن عميد الأدب العربي في شهر مولده وذكري مضي ربع قرن علي رحيله, وقد يبدو فيها شئ من التعاطف مع شريك في عيد الميلاد الواحد, ولكن ليس يخالجني شك أبدا في أن طه حسين يستحق دائما ــ وبكل موضوعية ــ أعلي درجات التكريم وأرفع أوسمة العرفان, إنه الفلاح الصلب ابن قرية الصعيد المصري الذي تقدم منه يوما ليصافحه واحد من خصومه الفكريين الذين تطاولوا علي مقامه الرفيع قبل ذلك بسنوات طلبا للشهرة السريعة فقال له العميد مرحبا بالغلام مذكرا بتعليق له ردا علي ما كتبه ذلك الشخص مهاجما أحد كتبه إذ تمثل العميد يومها قول الشاعر وهل يضر البحر أمسي زاخرا, وأن ألقي فيه غلام بحجر...
ولقد ظللت دائما اتساءل هل يعرف طه حسين شكل الحروب العربية واللاتينية وقد فقد بصره في سنوات عمره الأولي؟, ومن أين جاءته نبرة الصوت العميق الذي يتردد في الأسماع كلما جاءت مقدمة فيلم دعاء الكروان؟, وكيف تعامل مع سكرتيريه وهم يقرأون له ويكتبون عنه؟ وأي قوة ذاتية تلك التي جعلت الناس ينسون عاهته الأليمة في خضم المكانة التي بلغها طه حسين باشا؟ وهل كانت علاقته بزوجته الأجنبية هي الدافع البارز في كثير من تحولاته النفسية والفكرية خصوصا وأنها كانت ــ كما يبدو من كتابها أيام معه ــ شخصية مسيطرة ذات تأثير؟ هذه وغيرها من عشرات التساؤلات ظلت تلح علي خاطري عبر السنين منذ أن بدأت رحلة الاعجاب المبكر بالعبقري الكفيف عندما كنت أرتاد مكتبة البلدية في مدينة دمنهور وأنا أدرس في مدارسها في الخمسينيات من هذا القرن, وكنت أظن أيامها أن مفاتيح الثقافة هي فقط طه حسين وعباس العقاد وتوفيق الحكيم...
ولكنها تساؤلات لاتكون الاجابة عليها في النهاية إلا بمزيد من التقدير للعميد والاعجاب برحلته الفريدة في الحياة, فقد كان طه حسين السياسي هو الوجه الآخر لطه حسين الأديب, والذي تميز دائما بمنهج خاص في البحث, ورؤية عميقة في التحليل, وتلك سمات المفكر متعدد الجوانب وفير المواهب..
ولا أملك في النهاية إلا أن أقول.. ليتك تطل علينا اليوم ياعميد الأدب الراحل بشعارك العظيم التعليم كالماء والهواء لكي تكتشف أن الماء قد أصبح شحيحا, وأن الهواء قد أضحي ملوثا.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1998/11/24/WRIT1.HTM