نستأنف حديثنا حول مستقبل مصر, بأبعاده المختلفة, عن يقين بأن معالجة القضايا القومية والمسائل الوطنية يجب ان تتم في إطار يستوعب مساحة زمنية تصل الحاضر بالمستقبل, وتشكل الرؤية الواضحة أمام خطواتنا القادمة, ولقد استعرضت مقالات ثلاثة سابقة قراءتنا الموجزة في اوراق المستقبل, ثم سمحنا للقلم بالقيام برحلة الي المجهول, حتي اكتشفنا ان التحكم في المستقبل من المنبع يبدأ من التعليم, ولقد حان الوقت لنستكمل رباعية الحديث عن المستقبل بهذا المقال الذي نرصد فيه تطور بعض الظواهر الاجتماعية في الحياة المصرية, وسوف نناقش تحديدا أهمية الارتباط الوثيق بين الثورة العلمية المعاصرة, والتطور الوطني المنتظر, وكذلك نبحث في دور المرأة المصرية وتأثيره في التبشير بقيم جديدة والخروج من شرنقة الماضي بكل سلبياته, ثم نقوم بعملية ربط أمنية بين واقع حياتنا في الدلتا والوادي الضيق, واحتمالات المستقبل أمام إمكانية الانتشار السكاني علي رقعة أوسع من الخريطة المصرية التي لا يتجاوز استخدامنا لها أكثر من5% من مجموعها, أي أننا نريد أن ننتشر في مساحة زمنية نرصد المستقبل, كما ننتشر في مساحة مكانية تستوعب خريطة الوطن, وتركيزنا علي المسائل الجوهرية المشار إليها ـ قرب الانتهاء من دراستنا الاستكشافية لعالم المستقبل ـ إنما يصدر عن وعي بأهميتها كعوامل حاكمة في تحديد المسار, فالعلاقة بين الثورة العلمية والتطور في مصر ذات دلالة مهمة لأن المستقبل مرتبط بحيازة العلم والاستفادة من عوائد تطبيقه, فالهوة أصبحت واسعة بين نتائج العلم المعاصر والتكنولوجيا الحديثة في جانب, وبين الأساليب التقليدية الأخري في التعامل مع معطيات العصر في جانب آخر, في وقت تتوالي فيه الاختراعات بسرعة مذهلة حتي أن بعضها لا يجد أحيانا فرصته للتطبيق العملي بسبب ملاحقة اختراع آخر أكثر حداثة وأقل تكلفة.
أما دور المرأة المصرية وتأثيره في التحول الاجتماعي فهو دور لا يحتاج الي جدال كبير, فالمرأة هي قاطرة القيم, وحاملة التراث, وركيزة الأسرة, وصاحبة الأمومة, وراعية الطفولة, والتأثير في الشعوب من خلالها يمكن أن يتم بإيقاع أقوي وسرعة أشد, كما أن المرأة المصرية التي خرجت للتعليم والعمل علي امتداد قرن كامل تبدو فاعلة التأثير في الانتقال بالمجتمع المصري من مرحلة إلي أخري.
أما عملية الربط بين حياتنا في الوادي القديم واحتمالات الانتشار في وادي جديد فهي بارقة أمل وحيدة من اجل مستقبل واعد وحياة افضل.
مصر من العلم الي التكنولوجيا
نتحدث دائما عن الحشد الكبير الذ تزخر به مصر من اصحاب المؤهلات العلمية والدرجات الجامعية, ولكن هل يكفي ذلك لتحقيق افضل استخدام للعلم الحديث والتكنولوجيا المعاصرة؟ لا يبدو ان ذلك صحيح, فتوظيف نتائج الثورة العلمية والاستخدامات التكنولوجية انما يتحققان من خلال توجهات غير تقليدية تعطي البحث العلمي مكانته المنتظرة في المستقبل, وهو امر لا يمكن فصله عن اهمية تطوير العملية التعليمية ذاتها والتي تعرضنا لها من قبل, وقد راجت نظرية بين عدد من الدول النامية ـ وشجعت علي رسخها في الأذهان دول متقدمة ـ مؤداها ان علي الفقراء في الجنوب ان يتوقفوا عن التطلع للبحث العلمي, وربما الاستخدام التكنولوجي ايضا لأن غيرهم يقوم بهذه المهمة عنهم وكأن العلم الحديث فرض كفاية وليس فرض عين! وتلك مقولة خطيرة, القصد منها استمرار الوضع الراهن الذي تظل فيه دول الجنوب عالة علي الحضارة الغربية والتكنولوجيا المعاصرة مع الأخذ في الاعتبار ان قضية تصدير المعرفة الفنية تخضع لاعتبارات كثيرة يقع في مقدمتها ان قضية تصنيع العلم وانتاج التكنولوجيا محكومة هي
KNOW HOW الأخري بعوامل لا تخفي علي أحد, حتي أن انتقال المعرفة الكيفية الـ
من الدول الصناعية الكبري الي غيرها ليس انتقالا كاملا بل انني اظن احيانا ان السيارات الجديدة المصنعة لأسواق العالم المتخلف ليست بدرجة الإتقان والجودة مثل نظيرتها المصنعة لأسواق بلادها المتقدمة, كما أن صناعة الدواء الأجنبي في الدول المتخلفة والأقل نموا لا تخضع لنفس مواصفاته إذا تم انتاجه في بلاده الأصلية بما يعني ان تأثيره علي المريض يختلف في الحالتين رغم أن المسمي واحد والترخيص الرسمي من شركته الأجنبية ممنوح, كما أن هناك احساسا دائما بأن الوضع الراهن هو الأمثل لمصدري المعرفة الفنية بحيث يصبح المتقدمون وحدهم هم صناع التكنولوجيا, وغزاة الأسواق, وأصحاب القرار في اقتصاديات العصر, وهو وضع يجب الفكاك منه, ومصر مرشحة لذلك قبل غيرها لأنها مؤهلة أكثر من سواها بأن تصبح نمرا افريقيا قويا في عالم اليوم, وهي لا تبدو بعيدة عن هذا الهدف خصوصا وان اقتصادها قد تجاوز كثيرا من مشاكله, وعبر نحو مرحلة افضل بكثير مما كان عليه منذ سنوات, برغم كل العوائق الطارئة والسلبيات المعروفة, انني ادعو الأجيال الجديدة ـ وأظن انها تتجه الي شئ من ذلك ـ ادعوها الي الأخذ بأسباب العلم الحديث ونتائج الثورة التكنولوجية والتسلح بأدوات عصرية, وكما يتردد دائما فإن الأمية لم تعد هي انعدام القدرة علي القراءة والكتابة وإنما أصبحت في مفهومها الحديث هي العجز عن استخدام الكمبيوتر والدخول الي عالمه االجديد, ولحسن الحظ فإننا نلاحظ ان الشباب المصري في السنوات الأخيرة قد تجاوب بشكل واضح مع الظاهرة العالمية المعاصرة والتي جعلت من الاستخدامات التكنولوجية عادة يومية في ظل جاذبية شبكة المعلومات التي وفرتها التكنولوجيا الحديثة لكل من يريد; لهذه الأسباب في مجملها فإن رؤية شاملة لقضية البحث العلمي في مصر تبدو مدخلا وحيدا لقرن قادم وعصر جديد.
المرأة وتطوير المجتمع
اذا كنا نسلم بأن الأموم الآمنة هي صانعة الطفولة السعيدة, فإنها تكون ذلك صاحبة قرار حاكم في مسألة تشكيل المستقبل, والشاعر الذي قال: الأم مدرسة اذا اعددتها اعددت شعبا طيب الأعراق كان علي صواب كامل, فالمرأة متغير مستقل ترتبط به مجموعة كبيرة من المتغيرات التابعة, بل إن القضايا الحالية والمشكلات الراهنة في المجتمع المصري مثل الأمية, والبطالة, ونقص الخدمات الصحية, وتدني نوعية الحياة لدي الطبقات الفقيرة, والحاجة الي التعليم العصري والتكنولوجيا الحديثة وجنوح بعض الشباب نحو التطرف وسقوط البعض الآخر ضحية للإدمان, تبدو كلها أمورا ذات صلة وثيقة بالمرأة المصرية خصوصا تلك التي تغلبت علي عائق الأمية, ونالت قسطا معقولا من التعليم, بل إنني أضيف إلي ذلك أيضا دور المرأة المصرية في عملية التربية وقدرتها علي صياغة الحياة الجديدة, ويكفي ان اقول هنا ان دور المرأة المصرية يمكن أن يكون اكثر فاعلية في مواجهة مشكلات أبنائهن وبناتهن, بدءا من التطرف مرورا بالإدمان وصولا الي حالة اللامبالاة التي اصابت نسبة لا بأس بها من اجيالنا الجديدة, فالمرأة هي ركيزة الأسرة ومسئولة التربية الأولي, ونحن نتحدث هنا عن المرأة التي نالت حق التعليم والعمل وليست المرأة المغلوبة علي أمرها, المقهورة في بيتها, المهمشة في وطنها, وهنا يجب ان نسجل ان جهودا كبيرة قد بذلت في السنوات الأخيرة لوضع المرأة المصرية علي الطريق الصحيح في محاولة جادة لتمكينها من ان تلعب دورها الحقيقي كمحور أساسي في المجتمع, وأداة رئيسية في التغيير, باعتبارها وعاء التراث الاجتماعي, وحافظة القيم عبر الأجيال, وقنطرة التواصل من التقاليد البالية الي الأفكار الجديدة, ولعلي أري مستقبل المرأة المصرية مبشرا بكثير من الإيجابيات بعد ان غزت معظم الميادين ونجحت في كافة المجالات, واصبح امامها التحدي العصري الكبير في توظيف تأثيرها علي صياغة مستقبل الأجيال الجديدة في بلادنا.
المصريون من الوادي الضيق الي الانتشار الواسع
تجددت الآمال, وانتعشت الأحلام, حين بدأت الخطوات الجدية في العامين الأخيرين للخروج من الرقعة المحدودة التي فرضها علينا تاريخ الجغرافيا المصرية حين فرضت علي الشخصية المصرية عبر قرون طويلة التكالب علي رقعة زراعية صغيرة, والتزاحم في مناطق عمرانية محدودة مع امتدادات عشوائية كانت بالغة التأثير في شكل المجتمع ومشكلاته وحاضره, وقد حان الوقت لكي تحكمنا رؤية غير تقليدية تجاه المستقبل بحيث يتم توظيف نظرة مختلفة لاستخدامات موارد مصر وامكاناتها, كما ان الوقت قد حان لكي تصبح الصحراء مسرحا جديدا للحياة, ومصدرا للزرق, ولا تبدو المسألة سهلة او ميسورة في ظل التكاليف المادية الباهظة لهذا الاختراق المطلوب, فضلا عن الجمود التقليدي في خريطة التوزيع السكاني للمصريين, فالنزوح الكبير من القري الي المدن قد ادي الي عملية تركز تبدو في عكس الاتجاه المطلوب, فقد كان المأمول دائما هو انتشار المصريين بمعدلات كبيرة في مجتمعات جديدة تنتشر في الصحراء المصرية وفقا لخطط مدروسة, فإذا كانت الحضارة القديمة قد ارتبطت بالوادي والدلتا, فإن الحياة الحديثة اصبحت تستوجب وجود واد مواز يستقطب الملايين ويجذب اعدادا هائلة من الأجيال المصرية القادمة, ويحتاج الأمر فضلا عن الإمكانات المادية الي تحول آخر في القيم الاجتماعية, وفهم جديد لمسألة الهجرة الداخلية والوعي بأن مصر هي كل بوصة علي ارضها داخل حدودها, بدءا من الصحراء القاحلة, وصولا الي المدن الآهلة, وليست مصر هي فقط العاصمة والمدن الكبري حتي يكون السعي اليها بهذه الضراوة وذلك التركيز, واود ان اسجل هنا ان هذا النوع من التفكير المتصل بالاصرار علي غزو الصحراء ليس جديدا علينا, فقد تكرر في عهود مختلفة, ولكنه افتقد في كثير منها عنصري الجدية والاستمرار, وهما عنصران اساسيان لنجاح اي عمل كبير تتحول به الأحلام الي واقع, وتصبح معه الأرقام حقائق ملموسة, ويمكن ان نفكر في هذه المناسبة في صيغة جديدة للوحدة الاجتماعية الصغيرة بحيث لا تقوم علي المفهوم التقليدي للقرية, ولكن تبدأ بمفهوم آخر يقترب من معني المستعمرة بكل امكاناتها المتكاملة, ومرافقها المستقلة, مع تكرار متماثل يغطي مساحات كبيرة لاستصلاح الأرض, وفتح قنوات جديدة للحياة خصوصا في بلد لديه الصحراء الواسعة والمياه الوفيرة, ولكنه يحتاج فقط الي تكنولوجيا المزج بين عنصري الحياة ـ الأرض والمياه ـ وهو امر باهظ التكاليف, غالي الثمن, ولكن هناك شعوبا سبقتنا في تجارب مماثلة, بل ان هناك دولا في اوروبا ذاتها اقامت كيانها علي رقعة كبيرة من مياه البحر التي حولتها الي يابسة, وعاشت فوقها عبر القرون وهناك من يقولون دائما ان الله خلق العالم ولكن الهولنديين صنعوا بلدهم, والمسألة دائما تحتاج الي تفكير جديد, وعقلية مختلفة, وارادة قوية, ورغبة صادقة, واحسب ان اجيالنا القادمة تحمل كثيرا من هذه الخصائص.
هذه لمحات من رؤية لمستقبل حياتنا رأيت ان اتعرض لها برغبة في مشاركة اقلام كثيرة تسعي لاستشراف طريق المستقبل, وصياغة ابعاده الجديدة, ويجب ان نسجل هنا ملاحظتين جديرتين بالاهتمام اولاهما ان الشعب المصري قادر علي كل انجاز كبير في ظل عملية تعبئة واعية, وفي اطار تنمية شاملة, ولكنه يحتاج دائما الي الاقتناع الكامل بجدوي ما يفعله واظن ان الوقت قد حان لشئ من ذلك, وثانيتهما ان المصريين قد اكتسبوا مقومات جديدة اسقطت كثيرا من الحواجز بينهم وبين روح العصر, فلقد تهاوت اصنام فكرية, وصار جدل واسع حول عدد من المسلمات, ولم تعد هناك معطيات تاريخية تفرض نفسها علي المستقبل, فالمصري قادر دائما علي الموازنة بين الثابت والمتغير في دقة عبقرية مشهودة, وكل ما يحتاجه هو مزيد من الإحساس بالانتماء خصوصا لدي الأجيال الجديدة مع وعي عام بحركة التاريخ والثقة الكاملة في المستقبل.
ولاشك ان كل ذلك سوف يظل محكوما بتطور العقل المصري, فالنجاح حالة عقلية, كما ان الفشل اخفاق نفسي, والهزيمة تبدأ من العقل والانتصار يبدأ منه ايضا, ومصر التي عايشت كل المصاعب, وتعايشت مع كل المحن, قادرة علي اجتياز كل العقبات, ومواجهة كل التحديات, من اجل تواصل دورها الحضاري, واستمرار عطائها التاريخي, ورفاهية شعبها العريق.
تعقيب
أثار مقالي السابق بعنوان التحكم في المستقبل من المنبع عن السياسة التعليمية في مصر ردود فعل مختلفة, وفتح بابا للحوار المطلوب حول هذه المسألة البالغة الأهمية في تحديد ملامح المستقبل المصري, وارتفع الحوار بتعليقات مدروسة من شخصيات لها وزنها في مجال التربية وميدان التعليم, اذكر منها ـ علي سبيل المثال ـ تعقيب العالم الجليل حامد عمار وتعليق المربي الكبير ابو صالح الألفي, وقد سعدت لالتقائي معهما في معظم النقاط واستفدت من اختلافهما معي في بعض النقاط, وهذه مناسبة أؤكد فيها من جديد ـ كما ذكرت في مقالي السابق ـ ان مجانية التعليم كانت انجازا وطنيا باهرا ولكنه تآكل بفعل تطورات اجتماعية واقتصادية لا تخفي علي احد, وكل ما اطالب به هو ان نسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية, وان نقول صراحة ان مافيا الدروس الخصوصية تشارك حاليا في الدفاع عما يسمي بمجانية التعليم بعد ان ابتلعت تلك المافيا اضعاف اضعاف ما كان يجب ان تحصل عليه الدولة كتكلفة حقيقية للارتقاء بالعملية التعليمية, ويحدث كل ذلك في ظل شيزوفرينيا ترفع شعار مجانية التعليم بينما لم يعد هناك وجود فعلي لها, وانا انتمي شخصيا الي جيل امضي سنوات تعليمه في عصر مجا نية التعليم التي سوف اظل اراها حقا للطالب المتفوق دون غيره خصوصا اذا تطرق الحديث الي التعليم الجامعي بالذات, وفي النهاية فإن المسألة تمثل قضية قومية ذات ابعاد اجتماعية ترتبط مباشرة بالمستقبل, والحوار فيها أمر حيوي بشرط ان يكون موضوعيا لا يخرج به صاحبه عن سياق المناقشة لينحدر الي هاوية اللفظ الهابط والتجريح المتعمد مثلما جاء في إحدي الصحف الحزبية تعليقا علي مقالنا المشار إليه.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1998/10/27/WRIT1.HTM