مازلت أظن أن الكتابة عن المستقبل يجب أن تكون شاغلنا الدائم, خصوصا ونحن ننتمي الي دولة تمثل الشرائح العمرية الصغيرة والشابة أكثر من ثلثي سكانها, وهو أمر له دلالته لو تأملنا الواقع في دول أخري حيث الشرائح العمرية المتقدمة تمثل نسبة عالية من السكان فيها, وتكفي نظرة الي شوارع بعض المدن الاوروبية ولتكن فيينا ـ حيث أعمل ـ لنراها خالية من الشباب والأطفال تقريبا, بحيث تبدو تلك المدن وكأنما أصبحت دورا كبيرة للمسنين الذين يتحركون في حيوية لا تخلو من أمل في المستقبل بعد أن تخطت أعمارهم الثمانين في أغلب الاحيان!, وليس في ذلك ما يدعو الي الدهشة في عالم اليوم حيث تأجلت الشيخوخة كثيرا بفعل التقدم الطبي وارتفاع مستويات المعيشة وتزايد الاهتمام بالصحة العامة, فنحن نري كل يوم نماذج لمن لم يفقدوا حيوية الشاب بينما هم يتأهلون لاستقبال مرحلة التقاعد والاحالة الي المعاش بل إنني قد أكتشفت مؤخرا أن جيلي يزحف نحو منتصف الخمسينيات من العمر بينما كنا منذ سنوات قليلة لانزال نشق طرقا في الحياة, ونستكشف ملامح للغد المأمول.. إن ذلك يعن بإيجاز أن حركة العمر خاطفة وايقاع العصر سريع والتأهب للمستقبل ـ بعيده وقريبة ـ قضية حالة لا تقبل الانتظار ولا تحتمل التأجيل.. وقد عاالجنا في مقال سابق خطوطا عريضة لمحاولة الابحار في مياه المستقبل, وخواطر عامة حول قادم مجهول, وإن كان ذلك المجهول لا يعد دائما تعبيرا مرادفا للمستقبل, فكل مجهول مستقبل, ولكن ليس كل مستقبل مجهولا, إذ أن لدينا قواعد للقياس علي الماضي, كما أن حركة التاريخ أثبتت دائما وجود دورات من الانتعاش والانكماش, مع قبول عام لمنطق تكرار الاحداث, وإعادة المواقف عبر مسيرة الانسان علي الأرض, فالجريمة واحدة والمعرفة دائمة, والخصائص مشتركة, والانسان هو الانسان في كل زمان ومكان, مهما اختلفت التفاصيل وتعددت الرتوش.
ونحن الان نحاول طرق أبواب المستقبل لذلك قد يكون من الافضل أن نتناول كل جانب من حياتنا المعاصرة علي حدة لنري كيف ستمضي بنا الايام نحو عصر جديد وعالم مختلف, ولنتخذ من الواقع المصري مادة محددة للبحث بحكم انتمائنا له وقدرتنا علي فهم معطياته حتي نتقدم بها نحو المستقبل الذي, لم يعد مجهولا كما كنا نتصور من قبل, ويحسن أن نقسم دراستنا علي نحو يسمح بتناول الجوانب المختلفة في حياتنا المعاصرة, سياسية واقتصادية.. ثقافية وعلمية.. اجتماعية ونفسية بصورة لا تخلو من موضوعية ولا تبرأ في الوقت ذاته من اللجوء الي الحدس أحيانا..
الحياة السياسية والنشاط الاقتصادي
لاشك ان هذه اكثر الامور تعقيدا وأشدها حساسية لأن تطور النظام السياسي وأسلوب الحكم هما في النهاية محصلة لتطور عوامل أخري لا يمكن تجاهلها أو الانتقاص من وجودها, فالمشاركة السياسية والثقافية الديمقراطية كلاهما يرتبط بدرجة التعليم ومستوي الوعي لدي جماهير كل مرحلة ولكن اذا أخذنا بسياق الاحداث وأعملنا نموذج القياس وفقا للمعدل الطبيعي لتطور المؤسسات الدستورية في مصر فإننا نتوقع ـ أو بصورة أدق فإننا نأمل ـ أن تشهد استقرارا للتشريعات ورسوخا لقواعد العمل السياسي وأساليبه مع تطلع كبير الي ازدهار تقاليد فكرية تجعل من مجلس الوزراء سلطة تنفيذية ذات مسئولية جماعية كاملة تعتمد علي رؤية سياسية وقدرة فنية في الوقت ذاته بحيث يصبح المنصب الاول في الدولة بمثابة الحكم بين السلطات الثلاث والرمز الشامخ للسعي نحو حياة سياسية مستقرة, وديمقراطية يتحقق بها ذلك التوازن المطلوب بين الفرد والدولة, إذ أن غياب الوزير السياسي إنما نجم عن حياة حزبية ضعيفة الاثر محدودة الفعالية لذلك فإن الامل في أجيال جديدة نحسن تربيتها سياسيا بمنطق العصر وروح العالم الجديد الذي تتمثل أدواته في الاخذ بالأساليب العلمية والاعتماد علي التكنولوجيا الحديثة والالمام بلغة الخطاب المعاصر واتقان اللغات الاجنبية, ويجب ان ندرك ان عصر الكمبيوتر يعكس آثاره علي الحياة السياسية أيضا حيث أن نوعية المواطن تختلف, كما أن طرائق التفكير وأساليب العمل تختلف بالضرورة هي الاخري.. فدعنا نتطلع لغد قريب يتم فيه توظيف كفاءات المصريين والمصريات في مواقعها المناسبة علي أسس موضوعية ووفقا لقانون الاختيار الطبيعي بين البشر, وليس ذلك امرا غريبا علي بلد تحتشد فيه الكفاءات وتتميز فوق أرضه نوعية من البشر هي ثروة هذا الوطن وذخيرته في رحلة المستقبل القريب والبعيد, ولو نظرنا الي العالم حولنا ـ اقليميا ودوليا فسوف نكتشف ان تطور النظام السياسي يرتبط ارتباطا عضويا وكاملا بمؤشرات اخري تتصل بنوعية التعليم ومستويات الثقافة وطريقة توزيع الدخل القومي ودرجة الانصهار الاجتماعي, فإذا قمنا بزيارة قصيرة الي الماضي القريب لنتابع تطور النظام السياسي المصري الحديث في النصف قرن الاخير فسوف نجد أنه قد عرف تقلبات عديدة وشهد تطورات ملموسة كان معظمها ايجابيا ولكن بعضها كان علي الجانب الاخر سلبيا, ويكفي أن نتذكر أن الثروة المصرية عام1952 كانت بمثابة تغيير مفاجئ في النظام المصري وأسلوب الحكم القائم فيه وأحدثت فجوة مازلنا نعاني من آثارها حتي الان, فقد تمت تصفية الاقطاع وانهاء الاثر السياسي لوجوده بما تبعه من محصلة جديدة لمراكز قوي مختلفة وخصوصا في الريف المصري حيث اختفت عائلات, وذابت عصبيات, وبرزت قوي اجتماعية جديدة صعدت علي المسرح السياسي في ظل التنظيمات الاحادية المتعاقبة بدءا من هيئة التحرير مرورا بالاتحاد القومي وصولا الي الاتحاد الاشتراكي ولكن ظلت الخريطة الاجتماعية في القري والمدن الصغيرة شديدة الشبه بفترة ماقبل الثورة حتي أننا نرصد عائلات كثيرة في الصعيد والدلتا استأثر افراد منها بمقاعد في البرلمان منذ مجلس شوري القوانين في القرن الماضي حتي مجلس الشعب الحالي, بل انني أضيف الي ذلك أن الطبقة المتوسطة التي كان متوقعا لها دورا مرموقا بعد الثورة والتي مارست جزءا منه منذ منتصف الخمسينيات حتي منتصف السبعينيات قد توارت هي الاخري لتفسح المجال لنمط جديد من رجال الاعمال الذين يتطلعون الي دور سياسي يبدو أنه لن يتحقق في ظل نظام شديد الحرص علي التخلص من مراكز القوي وتصفية جيوب النفوذ, وليس صعبا أن نكتشف العلاقة الوثيقة بين التطور السياسي والتحول الاقتصادي فقد اقترن الاثنان بعلاقة طردية, فحيث كنا
نعيش نظام الحزب الواحد فإننا قد عرفنا في الوقت ذاته النظام الاقتصادي المغلق الذي يقوم علي مركزية القرار وتعطيل آليات السوق لمصلحة الطبقات الأكثر عددا والاشد فقرا, كما أننا قد لاحظنا أيضا أن الانتقال الي التعددية السياسية بدءا من تجربة المنابر وصولا الي مفهوم التعدد الحزبي, قد اقترن في نفس المرحلة بميلاد سياسة الانفتاح الاقتصادي والاتجاه نحو دور أكبر للقطاع الخاص مع ترك السياسة السعرية لآليات السوق الحةر والسعي الي تطابق قيمة الخدمات مع تكلفتها الحقيقية, والتخلص تدريجيا من سياسة الدعم التي توسعت فيها الدولة لسنوات طويلة بشكل أدي الي اثار سلبية وصلت بالدعم في كثير من الأحيان الي غير مستحقيه, وهذا التلازم بين السياسة والاقتصاد ليس طارئا علي النظم الحديثة أو ظاهرة جديدة في عالم اليوم, اذ ان استقراء تاريخ نظم الحكم في العالم كله تؤكد دائما أن الذين يملكون يتطلعون دائما ليصبحوا هم أيضا الذين يحكمون, وقد لا يكون ذلك ممكنا في ظل مصر المعاصرة بحكم الحذر الشديد من السقوط في مستنقع الضغوط الاقتصادية ومراكز التأثير المالية علي القرار السياسي داخليا وخارجيا, ونستطيع أن نتصور استمرار هذه النظرة القلقة لسنوات طويلة قادمة بحيث لا تتمكن سيطرة رأس المال الخاص من توظيف نظام الحكم بشكل منفرد كما أننا لا نتصور غياب تأثيرها كاملا الي حانب غيره من العوامل الأخري, خلاصة ما أريد أن أذهب اليه هو التأكيد علي أن مستقبل النظام السياسي في مصر مرتبط بالضرورة بمستقبل النشاط الاقتصاد فيها, كما أن الأخذ بمعايير موضوعية في الحياة العامة والمواقع المختلفة سوف يؤدي بالضرورة الي وطن مختلف نتطلع اليه جميعا.
ملاحظات مستقبلية.
ويهمني أن أسجل هنا ملاحظات ثلاث هي:
أولا: ان الحديث عن مستقبل الحياة الساسية والنشاط الاقتصادي في مصر مرهون في تطوره الطبيعي وتقدمه المنتظر بعدد من العوامل يقع في مقدمتها أهمية زوال ظاهرة التطرف السياسي والديني وما يرتبط بهما من ارهاب يستهدف أمن المواطن وسلامة الوطن, فالارهاب ظاهرة عالمية طارئة جاءت لكي تكون نقمة علي صحيح الاسلام وتشويها لصورته السمحاء بشكل أعطي لغيرنا مبررا لاستخدامها في صنع عدو وهمي يشعر بوجوده ولكنه لا يصل الي جذوره, ولسوف تظل الكنانة في مواجهة مع هذه الظاهرة السوداء حتي تضع لها نهاية حاسمة, ويبدو أن مصر قد أخذت طريقها الصحيح نحو هذه الغاية الوطنية الكبري.
ثانيا: ان الاستطراد في الحديث عن مستقبل السياسة والاقتصاد في مصر يستتبع بالضرورة تطورا أساسيا في النوعية البشرية المصرية ونعني بها الانسان من حيث مؤهلاته الحقيقية للحياة العصرية السليمة, وحيازته لادوات التعامل مع معطيات الدنيا حولنا وهو أمر يقتضي عناية واهتماما بالغين بقضية التعليم وهو ما سوف نعالجه مستقبلا.
ثالثا: ان الحياة المصرية السياسية والاقتصادية سوف ترتبط دائما بدرجة التفاعل بين الحكومة والشعب باعتبارهما عنصرين أساسيين من عناصر الدولة بما يلحق بذلك من دور أساسي للمؤسسات الدستورية وأركان النظام السياسي والتي تقع في مقدمتها مؤسسات أخري ذات تأثير فاعل في الحياة العامة في مصر وأهمها المؤسسة العسكرية ثم هيئة الشرطة والسلك القضائي وغيرها من المؤسسات ذات الطبيعة السيادية الي جانب دور الهيئات غير الحكومية من نقابات وجمعيات تشكل في مجموعها اطار المجتمع المدني المصري الحديث, خصوصا ونحن ندرك جميعا حجم التحولات الضخمة التي شهدتها مصر في العقود الخمسة الماضية وما طرأ علي الحياة العامة فيها من تغييرات معظمها ايجابي وبعضها سلبي, بل إنني أزعم أن كما هائلا من مشكلاتنا الراهنة هو نتاج لتحولات مفاجئة في ظل غياب الوعي الكامل بحركة التاريخ واهمال مفهوم الرؤية الشاملة, ويكفي أن نتأمل بعض الآثار السلبية لثورة1952- برغم المباديء الرائعة والاهداف الوطنية التي رفعتها- لنكتشف أن من بين الاسباب التي أدت الي ذلك نظرة الازدراء التي تعودها بعض حكام مصر تجاه سابقيهم منذ العصر الفوعوني وذلك يعني وفقا لذلك المنطقه خلق احساس ظالم بأن تاريخ مصر الحقيقي يبدأ فقط مع البداية الميمونة لكل حاكم جديد, وهل كانت نـظرة ثوار يوليو تجاه حكم أسرة محمد علي- بكل ماله وما عليه- إلا نموذجا لطغيان سطوة الحاضر علي كل ايجابيات الماضي بكل ما حمله ذلك من تأثير سلبي علي فكر الاجيال من خلال الرواية غير العادلة لتاريخ مصر الحديث, والتي تمت بشكل انتقائي وتحكمي يرفع البعض ويخفض البعض الآخر بل ويحذف تماما كل من يريد التخلص منه, ويلغي من سجلات التاريخ الوطني من يشاء, حتي كانت النتيجة تدهورا في القيم الاخلاقية, وغيبة للضمير الوطني, وازدواجا للشخصية المصرية, فالأمم التي تشوه تاريخها لا تتمكن من تصور مستقبلها, فالذاكرة والرؤية هما مركز الالتقاء بين الامس والغد من أجل يوم أفضل.
ان الغوص في أعماق المستقبل لا يحتاج فقط الي رؤية شاملة وموضوعية كاملة, ولكنه يحتاج أيضا الي قدر من حرية التفكير, واتساع الحلم, ومرونة التحليل مع توفير مساحة كبيرة للحركة السليمة في اطار القانون الذي يجب ان يحترمه الجميع, فالايام القادمة تلد كل جديد, ولكن تبقي في النهاية روح مصر التي صمدت آلاف السنين, وظلت قادرة علي عطاء لا ينقطع, وبناء لا يتوقف, وروح تتجدد, وهل يكابر أحد أبدا في حقيقة أن مصر هي رائدة التنوير في المنطقة كلها خلال القرنين الماضيين, وسوف يظل قدرها أن تحمل الشعلة وتمضي علي نفس الطريق دائما.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1998/9/15/WRIT1.HTM