استغرقنا الماضي.. وأهلكتنا المرجعيات.. نصحو علي ذكريات التاريخ المجيد.. وننام فوق امجاد التراث التليد.. نلوك أحداث الأمس.. ونغفو عن صحوة الغد.. كان ذلك دائما هو حال امتنا, حتي أطلق عليها غيرها اسم الأمة الماضاوية باعتبار ان شعوبها مجرد ظاهرة صوتية.. فهل حان الوقت لكي نفكر بشكل مختلف, ونعمل بروح جديدة؟.. أظن أنه لا مفر من ذلك في مواجهة عالم يموج بالتيارات العاتية, وتتحكم فيه عقول جبارة, استطاعت تعظيم قدرات دول علي حساب أخري, وتفعيل أدوار نظم خصما من غيرها, لقد وصلت إمكاناتهم إلي حد القدرة علي صنع( المصادفة التاريخية) ذاتها, والتدخل في المسار الطبيعي للأحداث, وكلها أمورتشير بأصابع الاتهام إلي قوي مستترة درجت بعض الكتابات علي تسميتها بالحكومات الخفية, وهي التي تمارس تأثيرا محسوسا في تغيير المواقف, وإعادة ترتيب الأوضاع, وفقا لأعلي درجات تكنولوجيا العصر وأدواته الجديدة.. ولست أحاول بذلك أن أضع قيدا علي طموحاتنا, أو أقلص من مساحة الحركة المتاحة أمامنا, ولكنني اود فقط ان اسجل اننا نعيش عالما مختلفا يبدو كل من فيه واعيا ويقظا بل ومتربصا.. ونحن في مصر مطالبون ـ بحكم الأدوار التاريخية والزعامة القومية والريادة الإقليمية ـ بأن نشد المنطقة الي الأمام برغم كل المصاعب والمتاعب والحساسيات, ولن يتحقق ذلك بغير رؤية شاملة للمستقبل, نرصد من خلالها عوامل القوة ونقاط الضعف, فاستشراف ما هو قادم مرتبط دائما بما هو قائم, لذلك فإن البداية الصحيحة تكون بطرح بعض الأفكار المحددة والتي يمكن أن نتعرض لعدد منها في النقاط التالية:
أولا: إن الحساب الصادق لإمكانات الذات دون مبالغة بالزيادة أو تهوين بالنقص هو أمر ضروري لتحديد نقطة الانطلاق, وأحسب أن من أبرز عيوبنا عند تقييم حاضرنا هو تأثرنا الزائد بالماضي فإما أن نضيف إلي ذلك الحاضر ما لم يعد فيه من أمجاد قديمة أو ننتقص من قيمته تأثرا بأوضاع جديدة, وكلا الأمرين يعكس حالة من عدم التوازن التي تصعد بنا أكثر مما نستحق, أو تهبط معنا إلي حيث لا يجب الهبوط, دعنا لنقول بغير مواربة أننا أمة تملك مقومات هائلة ولكنها في الوقت ذاته معطلة بفعل عوامل كثيرة لا نحتاج إلي الخوض فيها أو شرح أسبابها.
ثانيا: ليس خافيا أن كاهل أمتنا ينوء بأحمال ثقيلة لتراث ضخم من التقاليد الفكرية, مع رصيد كبير من القيم الاجتماعية, بحيث يشكلان معا أسطورة تاريخية سكنت عقولنا منذ عصور سحيقة, وأسهمت فيها قرون الظلام السابقة علي ميلاد مصر الحديثة بكل ما حملته للمنطقة من عوامل التغيير وأسباب التقدم, وقد تكون هذه اللقطة بالذات هي ركيزة أساسية عند التفكير في المستقبل الذي لا يمكن أن نتصور ملامحه بدون عملية ترشيد واعية لهذه التقاليد الفكرية وتلك القيم الاجتماعية, فنحن لا نستطيع التحدث عن الغد بلغة الأمس, إذ أن التطور هو جوهر تجدد الحياة وفلسفة حركة الكون.
ثالثا: لعل التقليب في أوراق المستقبل يستدعي بالضرورة جوانبه المختلفة.. الفكرية والثقافية, السياسية والدولية, الانسانية والاجتماعية, الاقتصادية والإعلامية, وكلها محاور للرؤية المتكاملة, لأن النظرة الجزئية كانت ولا تزال واحدة من أسوأ عيوبنا: فنحن نتناول القضايا غالبا من منظور شخصي, أو زاوية واحدة غافلين عن عشرات الأمور المتصلة بالموضوع, إما عن عمد أو عن غفوة تبلغ حد الغيبوبة في كثير من المواقف.
رابعا: سوف يظل التعليم هو قضية القضايا, ومفتاح العصر القادم, ومصباح علاء الدين إلي المستقبل, لأنه هو الذي يصوغ عقل الأمة, ويصقل وجدانها بل ويصنع ضميرها الفكري والوطني, والتأثير بالتعليم هو تأثير عند المنبع مثل حجز الضرائب عند المصدر, ولكن التعليم في بلادنا مشكلة كبيرة بسبب تأثيرات متعددة تتصل بجوانب العملية التعليمية المعقدة بعناصرها من معلم إلي طالب مرورا بالمدرسة أو المعهد او الجامعة, وكلها تحتاج الي نظرة مختلفة, تستوعب تطورات الحياة الحديثة وآفاق المعارف الجديدة, وتعتمد علي إكساب الأجيال الجديدة ملكة التعلم الذاتي دون التعليم بالتلقين, كما أن المطلوب في النهاية هو صنع طريقة للتفكير ومنهج للعقل وأسلوب لمواجهة المشكلات, مع تنمية القدرات الذاتية والتدريب علي مهارات العصر التي وفدت مع الثورة العلمية والإنجازات التكنولوجية, علي أن يتحقق كل ذلك في ظل تربية سياسية واعية تعطي أبناء المستقبل اهتماما تلقائيا بالحياة العامة السليمة, وإحساسا ذاتيا بضرورة المشاركة الوطنية البناءة.
خامسا: تبقي عملية التوازن بين الفرد والجماعة والتي هي جوهر النظم السياسية والفلسفة الاجتماعية والأنشطة الاقتصادية, ولعل استقراء أحداث القرن العشرين ـ الذي نودعه قريبا ـ هي خير شاهد علي ذلك, فالتفاوت بين النظم الشمولية والنظم الفردية, والتباين بين الفلسفات المختلفة لتنظيم المجتمعات, هي دليل علي ضرورة إيجاد صياغة عصرية للعلاقة بين الفرد والدولة وأهمية استدعاء التوازن المفقود بينهما, إذ أن الشطط علي الجانبين يؤدي الي خلل حتمي في شخصية النظام السياسي, فسحق الفرد باسم الدولة كان دائما هو خطيئة الدول الشيوعية, بينما كان طغيان دور الفرد علي الجماعة هو نقيصة الفكر الرأسمالي في ظل الآليات المطلقة لحركة السوق, وإعمال قانون العرض والطلب في ظل مفهوم الدولة الحارسة.
.. تلك هي عناصر يمكن الاستعانة بها عند التصدي لدراسات المستقبل وفهم أبعاده, ولقد لاحظ كل الذين عكفوا علي البحث في أوضاع مصر المعاصرة, وفهم طبيعة مشكلاتها, والسعي لحلولها, ان هناك ثلاثة اسباب عامة تكمن وراء ما تعرضت له الكنانة من متاعب في نصف قرن الأخير وهذه الأسباب هي:
(1) انعدام عنصر الاستمرار والمتابعة لما يجري وما جري, فنحن نحسن البدء في كل اتجاه ولكن قلما نستمر فيه بذات الحماس الذي بدأنا به, بحيث تصبح خطواتنا تعبيرا عن فورات مؤقتة ترتبط بظروف معينة لا تلبث ان تتواري فتختفي معها روح البداية لتزوي الفكرة رويدا رويدا وتتجه الي زوال, بل اننا علي المستوي اليومي لا نعرف مفهوم الصيانة للمرافق او المنشآت, ولا نعني باستمرارية الاهتمام بما أنجزناه, ولعلي اذكر هنا اننا قد بدأنا انشاء المفاعل الذري وأبحاث الفضاء وعمليات تطوير الصواريخ قبل كل دول المنطقة, بل انني اذكر ايضا ان مصر كانت شريكا للهند في منتصف الستينيات بمشروع لصناعة الطائرات تعبيرا عن تكنولوجيا العالم النامي في إطار حركة عدم الانحياز, وكان من المقرر ان تقوم الهند بتصنيع جسم الطائرة بينما تقوم مصر بتصنيع الجزء الأكثر أهمية وهو موتور الطائرة فأين نحن الآن من ذلك الطموح الكبير؟
(2) افتقار جهودنا أحيانا الي الجدية الكافية, إذ ينبغي أن نعترف بأن كثيرا من أقوالنا لم تتناسب مع أفعالنا وأن الشعارات قد حجبت عنا الرؤية الصحيحة لما يجب أن يكون, كما أن الرغبة في إرضاء الجماهير ظاهريا قد صرفت الكثير من إمكاناتنا لخدمة أهداف قصيرة دون الوعي بقيمة الجهود المهدرة والأوقات الضائعة, ولحسن الحظ أن مصر قد بدأت تبرأ في العقد الأخير من هذا الداء إلي حد كبير خصوصا علي الصعيد الاقتصادي, فرئيس البلاد لا يستصوب أسلوب العمل الدعائي من أجل الاست, هلاك المحلي, كما أنه ليس مغرما بتقديم صورة وردية عن الأوضاع القائمة طلبا لشعبية زائفة, أو مضيا وراء ديماجوجية الحكم التي آن الأوان لاختفائها.
(3) غياب الرؤية الشاملة للقضايا, وندرة التناول الكلي للمسائل والاكتفاء بالنظرة الجزئية للأمور, بينما الدنيا المتقدمة في عالمنا تقول شيئا آخر, فلابد من وجود رؤية تسمح بالتصور الكامل للمستقبل وفقا لخيال طموح وواقعي في ذات الوقت, كما أن اتباع نظام معين وأسلوب محدد في مواجهة كافة المشكلات هو أمر يؤكد في النهاية سلامة المجتمع وازدهار الدولة, واذا تأملنا النهج الذي نسلكه لمعالجة واحدة من مشكلاتنا فسوف نكتشف اننا ندور حول المشكلة ولا نقتحم جوهرها, كما أننا نكتفي في الغالب بعلاج جزئي يزيل عن كاهلنا عبء المشكلة وقتيا مع ترحيل آثارها لفرصة قادمة!...
هذه في تصوري بعض الأطروحات العامة لمجمل أحوالنا امام بوابة المستقبل وهي تحتاج الي رصد تفصيلي ارجو ان يتاح لنا قريبا, بل انني لا اتجاوز حدودي كثيرا لو قلت انني اتصور اننا بحاجة الي اساتذة علم الاجتماع, والأطباء النفسيين وخبراء العلوم السلوكية بنفس قدر حاجتنا الي علماء الاقتصاد ومفكري السياسة, اذ لابد ان يزول عن كاهل مصر عبء التاريخ الطويل والتراث الثقيل من القيم والتقاليد والأفكار, سواء كان ذلك علي مستوي الفرد أو الأسرة أو المجتمع كله.. فالنمط المصري بل والعربي يحتاج الآن اكثر من اي وقت مضي الي مراجعة امينة للذات, وصدق زائد مع النفس, ومكاشفة كاملة مع الغير.. اذ لابد من تبني قيم العصر, والقيام بعملية موازنة شريفة بين الثوابت والمتغيرات, واجراء نوع من الفرز بين ما لا تفريط فيه وبين ما لا يجب التمسك به, وعبقرية الشعوب تتجلي في ذلك اكثر من سواه, ولقد وصف الماضي الشامخ اجدادنا بالعبقرية, ولن يصم المستقبل الواعد اجيالنا بالغفوة, اذا ما كانت الجدية والاستمرارية والرؤية الشاملة هي ادواتنا الجديدة ونحن علي اعتاب قرن قادم, قرن لا مكان فيه الا لمن يستخدم ادواته الفكرية, ويلتمس اساليبه العلمية, ويسعي جاهدا ليتخذ موقعه الصحيح فوق خريطة عالم مختلف شكلا ومضمونا, ونحن نملك رصيدا بشريا ضخما بمفهوم الكم ويمكن تحويله الي رصيد مؤثر بمنطق الكيف اذ ما ادركنا ان العقل هو السيد, وأن العلم هو السلاح, وأن العمل هو الطريق نحو غد أفضل..
لقد أصبحت الدراسات المستقبلية ظاهرة عصرية يتجه إليها الباحثون في عديد من التخصصات ولكنها تظل في النهاية اجتهادا تعوه السلامة العلمية بسبب السقوط غالبا في واحد من نقيضين هما التهويل او التهوين اذ ان التنبؤ لا يستند في معظمها الي قياس دقيق علي الماضي خصوصا أن الطفرة التكنولوجية قد صنعت نوعا من الغربة المعاصرة نتيجة الخروج عن سياق أحداث القرون الماضية, فما شهدته البشرية في القرن العشرين يكاد يكون خروجا علي نمطية الفكر البشري وحركة الإنسان منذ نشأته, ولا يعني ذلك بالطبع التوقف عن ولوج طريق المستقبل وارتياد سبله, ولكنني أحذر فقط من ملاحظة باتت واضحة مؤداها أن كثيرا من الأبحاث الاستشرافية تعكس روح أصحابها أفرادا أو مؤسسات أو حتي دولا ولكنها لا تعتمد ـ في كثير منها ـ علي منهج علمي ثابت في التفكير كما أن قدرتها علي القياس بالماضي لا تبدو دقيقة بسبب الجنوح الي التشاؤم المفرط احيانا او التفاؤل الشديد احيانا اخري, بقي ان اقول ان النغمة السائدة والتي لا تزال تتحدث عن بداية قرن جديد قد اصبحت غير ذات موضوع بعد ان اصبح الفارق بين القرنين لا يتجاوز عددا من الشهور, وتعين علينا وفقا لذلك ان نجعل نهاية الربع الأول من القرن الحادي والعشرين حدا ادني للمساحة الزمنية لدراسة كل ما يتصل بالمستقبليات, ولابد ان اعترف هنا بأن الغوص في مياه الغد امر محفوف بالمحاذير لأن الحديث عن المستقبل قد يحمل في طياته احيانا انتقادا للحاضر, كما أن التنبؤ بسلوكيات الجماعات البشرية مازال امرا غير مضمون النتائج, فضلا عن أن ارتياد طريق جديد يحتاج الي خيال واسع ورؤية شاملة ونظرة بعيدة, وهي أمور قد لا تلتقي كلها لدي مفكر واحد مهما علا قدره أو اتسعت آفاقه, اذ انه ليس خافيا ذلك الإيقاع السريع لحركة العصر التي قد تسبق كل قدرة علي التنبؤ او إمكانية للقياس, ولكن ذلك كله يجب ألا يقعدنا عن فتح ملفات المستقبل حتي وإن كانت الدراسة تفتقر احيانا الي الدقة الكافية والإحكام النظري المطلوب, لذلك سوف نجتهد قدر ما نستطيع في ان نجعل حديثنا عن المستقبل محكوما بإطار واضح ومنهج محدد لأن استكشاف المجهول يحتاج الي ادوات في البحث تختلف بالضرورة عن ادوات دراسة المعلوم, وسوف تظل القراءة في اوراق المستقبل مسئولية اجيالنا الحاضرة من اجل ابنائنا واحفادنا من اجيالنا القادمة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1998/9/1/WRIT1.HTM