لكل عصر أحزانه, كما أن لكل أمة همومها, ولكنها تلتقي جميعا في مظهر واحد يعكس حالة الانسان, سيد المخلوقات, وصاحب الدور المنفرد علي الأرض, إذ أن الاحزان والهموم تختلط أيضا بمشاعر الرضا والسعادة بحيث تتشكل من مجموعها معزوفة الكون, وملحمة الوجود وطقوس الحياة, واذا تأملنا الماضي خلفنا, ونظرنا إلي المستقبل أمامنا, فإننا سوف نكتشف أن الحاضر يمثل مرحلة قلقة محملة بالآلام والآمال.. بالطموحات والأحلام.. من أجل غد مختلف وحياة أفضل, فتراث الانسانية يحمل علي كاهله وقر آلاف السنين, وتركة عشرات العصور, والانسان يسعي, والصراعات مستمرة, والمواجهات لاتتوقف, سنة حياة..وفلسفة كون, لا أحد يعرف بالتحديد كيف بدأ ومتي ينتهي, فلندعنا من هذا كله لنرصد في إيجاز أبرز ملامح الحزن العصري الذي نتحدث عنه:
أولا: إذا كنا نسلم بأن العقل البشري هو قائد التطور ومحرك الأحداث, إلا أن العاطفة الانسانية تبقي هي الاخري شريكا فاعلا في توجيه حركته وتحديد مسارات اندفاعه إلي الأمام, وقد يظن البعض أن العاطفة ترف لامبرر له, أو انها رفاهية لاتقع ضمن أولويات الفقراء والضعفاء والكادحين ولكن الواقع يؤكد غير ذلك إذ أن نسبة شراكة العاطفة في تحديد مستقبل الناس لاتبدو ضئيلة علي الاطلاق بل إن الانسان يقوم بتوظيف عقله من أجل الوصول إلي ارضاء عواطفه, وبهذه المناسبة فإنني أجازف بطرح مقولة قد تبدو غريبة في ظاهرها, ولكنها واقعية في جوهرها وأعني بها أن سياق تاريخ الانسان يؤكد أن المنطق السليم ليس هو الصحيح دائما, فما أكثر المقدمات الصارمة في إحكامها النظري ولكنها أدت إلي نتائج نهائية لاتتسق مع تلك المقدمات النظرية المحددة, فالانسان تركيبة معقدة للغاية, والعلاقات البشرية متشابكة تماما, ومتداخلة إلي حد كبير, كما أن العقل والقلب يشكلان معا ما نسميه بالوجدان داخل الجسد الواحد, ولذلك فإن الدراسات الانسانية والعلوم السلوكية انما تضرب في أعماق سحيقة لانسان العصر.
ثانيا: إننا لو أردنا أن نتمثل المشاهد الحزينة في القرن الأخير وحده فسوف نشعر بأسي حقيقي, فقد عرفت عقوده المتتالية الملايين من ضحايا الحروب وأغلبهم, بسبب تقنيات التقدم العلمي وتطور آلة السلاح ـ من المدنيين فلم تعد المواجهات العسكرية مقصورة علي ميادين القتال وحدها, ولكنها أصبحت تهدد العزل في أي مكان وتلك مأساة حقيقية نجم عنها جزء كبير من أحزان عصرنا حيث اختلطت الدموع بالدماء وسقط الأبرياء, ودمرت المعارك مظاهر الحياة ومنجزات المدنية الحديثة, ولاعجب فهو قرن حربين عالميتين, وقرن هيروشيما وناجازاكي وهو قرن العنصرية والتعصب والإرهاب برغم كل القفزات العلمية, وحركة الإعمار الهائلة, إنه ايضا قرن تشريد الشعوب وتحويلها إلي لاجئين كما حدث في فلسطين, وهو قرن الابادة العرقية كما حدث في البوسنة, وهو قرن التصحر والفقر والمجاعات كما نري في افريقيا, وهو ايضا قرن الهواجس والشكوك والأوهام في ظل نظريات عابثة وأفكار متهاوية.
ثالثا: إن صورة العجوز الفقير الذي يختتم حياته في ظل العوز والحاجة, والطفل المريض الذي يستقبل حياته بالمرض والمعاناة, والمرأة التي تفقد كرامتها وتمتهن انسانيتها, هذا هو ثالوث رمزي يجسد أحزان العصر, ويوضح آثار السحق الذي تعانيه طبقات وفئات وأجيال في عصرنا برغم كل مانتشدق به من قيم ومثل, ومانتغني به من بطولات وأمجاد, ومانفاخر به من اكتشافات واختراعات, فالسباق بين التقدم التكنولوجي من جانب وانسان العصر من جانب آخر يكاد يؤكد أن التكنولوجيا تتقدم, وأن المعركة تبدو محسومة لصالحها, بحيث تهيمن سطوة المال, وتسيطر مظاهر القوة في عالم لم يعد فيه مكان للمستضعفين في الأرض.
رابعا: ان سقوط التركيبة الدولية ـ التي سادت لعدة عقود في هذا العصر وقدمتنا إلي عالم مختلف ـ قد أدي إلي نتائج تبدو حتي الآن في غير صالح أبناء الجنوب, حتي أن شعوب ما كنا نطلق عليهالعالم الثالث هي التي تدفع حاليا القسط الأكبر من فاتورة حساب التغيير الذي حدث, ويكفي أن ندرك ان سقوط التركيبة الأوروبية القائمة بانهيار الاتحاد السوفيتي السابق وانفراط عقد الشيوعية الدولية قد جاءت في النهاية علي حساب عشرات الملايين من اللاجئين والمطرودين, وقد يكون من المناسب هنا أن نسجل أن ثمانين بالمائة من اللاجئين المطرودين من ديارهم حاليا هم من المسلمين بدءا من فلسطين مرورا بأفغانستان والصومال وصولا إلي البوسنة والشيشان وكوسوفا بل إنه ليس من قبيل المصادفة أن أربع دول عربية تقع تحت الحصار الدولي أو هي مهددة به, ان ذلك يعني باختصار ان ضريبة العصر تدفعها ديانات معينة أو قوميات بذاتها, فلقد قالوا لنا في أوروبا القرن التاسع عشر انه لا ضريبة بغير تمثيل
No Taxation Without Representation
ولكن الواقع المعاصر أصبح يعكس شيئا مختلفا تماما, فلاتوجد ديمقراطية في العلاقات الدولية الراهنة, وسيدة العالم تقود, وارادة الشعوب تتقلص, وتوزيع الأعباء الاقتصادية, والهموم الانسانية, بل والدماء البشرية لايتم بمعايير تتصل بالحق والانصاف حيث يجري البحث دائما عن عدو بديل, فإذا زال الخطر الاحمر بسقوط الأنظمة الشيوعية فإن البديل جاهز وهو الخطر الأخضر المتمثل في الحضارة الاسلامية, ومن عجب ان المسلمين أنفسهم يقدمون خدمة كبيرة في هذا الشأن بتشويه صورة دينهم وخلطها بكثير من مكاره العصر ويتعاملون مع تاريخهم الحضاري الرصين باستهانة واضحة وكأنهم كمن إذا ألف ترجم, وإذا ترجم ألف.
خامسا: يظل الارهاب أسوأ معطيات العصر, وأقبح افرازاته, فالعمل الارهابي يمثل رسالة عنف من مصدر مجهول إلي هدف عشوائي دون تحديد للمسئولية او اطار للمشروعية, والضحايا في كثير من الاحيان هم من النساء والاطفال, ومن لاصلة لهم بتلك الاعمال الاجرامية, وفي ظني ان الارهاب.
خطر داهم يستهدف الكيان الانساني كله ومظاهر التقدم ورموز الحياة بغير استثناء, ويأتي من فئات لايمكن تسميتها بغير خوارج العصر في كل زمان ومكان, ولايقف الأمر عند هذا الحد إذ أن الحروب الموضوعية والمواجهات المحلية أصبحت نموذجا جديدا للصدام علي أرض الآخرين, وبدماء الغير, حيث تتم كل أنواع المضاربة علي حساب الانسان العادي بدءا من تجارة السلاح الي تهريب المخدرات, الي الترويج للأفكار المنحرفة, وكلها تقع تحت عنوان واحد وهو أن الأقوي يريد, وأن علي الضعيف أن يدفع الثمن, انها صورة أليمة لما نشاهده حولنا من اغتصاب للحقوق, واختبار لتكنولوجيا السلاح, وتدمير لنفسية الشعوب, وطمس لهوية الأمم.
إنني لا أريد من هذه النقاط ان أقدم صورة قاتمة للحاضر, أو طرحا متشائما للمستقبل, ولكني أريد أن أقول إنه برغم كل الانجازات الانسانية الباهرة, والتقدم العلمي الضخم الذي أنهي اسطورة الجزر المنعزلة, وأدخل العالم عصر القرية الواحدة, إلا أن معاناة البشر تتزايد, وعواطفهم تتقلص, لصالح التفوق المادي علي الأرض, وفي كل يوم تتساقط القيم, وتنزوي المثل, وتشحب اضواء الحق, ويجد انسان العصر نفسه في محنة حقيقية محاطا بعشرات الشعارات الزائفة, والأكاذيب الملفقة, والاطروحات غير المسئولة, ولن يكون الخلاص سهلا إلا باستعادة التوازن المفقود بين التقدم العلمي والتطور التكنولوجي في جانب والبناء القيمي والاطار الخلقي في الجانب الآخر, وهذه ليست دعاوي مثالية ولكنها معادلات متوازنة يصبح الخلل فيها شرا مستطيرا ومأساة بغير حدود, وإذا كانت مصر وأمتها العربية جزءا من عالم العصر, تعاني من تناقضاته, وتعيش احزانه, وتشاركه تطلعاته, فإننا ندعو الي ضرورة التهيؤ للمستقبل, والخروج من شرنقة الماضي بأساطيره وأكاذيبه, بهزائمه ونكساته, بهمومه واحباطاته, فالانسان في النهاية يملك ارادة التغيير ويستطيع أن يكون سيد الموقف في كل حين, ويكفي ان نتأمل النقاط التالية لندرك ان خسارة معركة في الحياة لاتعني خسارة الحرب كلها, كما ان التخلف ليس صفة أبدية لصيقة.
وأن التقدم ليس حكرا مستمرا للبعض دون سواهم, ويمكن أن نجمل افكارنا في هذا الشأن علي النحو التالي:
1ـ إن تحديث العقل العربي يبدو مقدمة طبيعية لامكانية استرجاع التوازن بين الأوضاع الدولية والحالة الاقليمية, فالصراع العربي الاسرائيلي قد امتص الجزء الأكبر من امكانات الأمة ومقدرات شعوبها, وهو يبدو صراعا تاريخيا طويل المدي لم تحسمه المواجهات العسكرية أو الحروب المتتالية ولكن سوف يحسمه في النهاية التفوق العقلي والتميز البشري بكل توابع ذلك من استعادة للوعي وصحوة في الضمير ويقظة للوجدان, فنحن مطالبون أكثر من أي وقت مضي بالأخذ بأساليب الحياة الحديثة, ومناهج التفكير الصحيح, ووضع الأولويات السليمة والالتزام بها, بينما الصراعات الداخلية والنزعات الشعوبية والمخاوف القطرية لن تؤدي في النهاية إلا الي مزيد من التشرذم والانكسار والهوان.
2ـ إن تفاوت الثروة الطبيعية والبشرية بين الدول العربية قد صنع فجوة من الغيرة المكتومة, والقلق المستمر, وربما الشك المتبادل أيضا, وهي أمور تقف بالضرورة وراء جزء كبير من معاناتنا وأحزاننا, وكثيرا مانتخيل وطنا عربيا بغير ثرواته المفاجئة, ونفترض ان سخاء الطبيعة لم يحدث, لنكتشف في النهاية ان ماجادت به علينا قد تحول في واقع الأمر الي سلاح ذي حدين ظاهره كسب واضح وجوهره خسارة مستمرة واستسلام كامل للواقع, بينما يجب ألا نكون عالة علي العصر أو اضافة سلبية لانجازاته, بل يجب ان نكون قادرين علي استيعاب التحولات, والموازنة بين الثوابت والمتغيرات, فالهوية يجب ألا تضيع, ولكن فرص التقدم ينبغي أيضا ألا تفلت من بين أيدينا.
3ـ إننا أمة تملك مقومات اخري ذات ثقل خاص, فنحن نملك تاريخا عريضا يمثل نقطة التقاء بين الحضارات, كما أن أرضنا هي مهد الديانات, وتراثنا الثقافي من الوزن الثقيل, كما أن تركة العصور السابقة ليست سلبية كلها, بل ان فيها من شواهد التفوق ومظاهر العصرية وعوامل الاندفاع أكثر مما فيها من مظاهر التخلف وأسباب الخنوع, نعم إن تاريخنا كله يشير الي التفاف الأمة حول اشخاص وضعف حماسها للمواقف الموضوعية أو الافكار المجردة, ولكن هذه سمة تشاركنا فيها شعوب كثيرة وتقاسمنا اياها أمم اخري, وطريق الألف ميل يبدأ بخطوة واحدة كما يقولون.
4ـ إن الملف النووي في الشرق الأوسط يستثير الاهتمام, ويدعو الي القلق لأنه يؤكد أولا سوء نية دفين لدي غيرنا ويشير ثانيا الي مخاطر متوقعة, ويعكس ثالثا افتقاد الشعور بالأمان ويشير رابعا الي ضعف احتمالات التعايش المشترك بل ويؤكد ان كل شيء مؤقت وليست له صفة الدوام والاستمرار, لذلك كان ضروريا أن تقود مصر في السنوات الأخيرة معركة سياسية دولية تسعي لوضع حد لهذه الصورة المقلقة, وتسعي بمبادرة شجاعة وحكيمة من رئيسها لنزع اسلحة الدمار الشامل من الشرق الأوسط كله وسوف يظل الملف النووي مفتوحا مادام الكيل بمكيالين مستمرا وازدواج المعايير قائما.
5ـ إن حسم مسألة التداخل بين الدين والسياسة في هذه المنطقة من العالم يبدو جوهر قضية التقدم بل ويتحول الي عنصر حاكم في هذا الشأن فلا أحد ينكر أن الدين مكون أساسي لوجدان البشر ولكنه مكون ايجابي يدفع الي الامام, ولقد اصاب ملك الأردن يوما حين قال دعنا نتقدم الي الاسلام لا ان نعود اليه, فصحيح الدعوة لا يتعارض مع روح العصر, كما أن الجهاد في ظني ليس سلاحا آليا يحصد الأبرياء أو سلاحا أبيض يذبح النساء والأطفال, ولكن الجهاد كما اراده الله لعباده هو سعي في الأرض من أجل الأفضل, وأخذ بأسباب القوة, واتجاه نحو التقدم والتفوق, وتعظيم للإمكانات وتخلص من الخطايا والسلبيات.
هذه في ايجاز خواطر تلح علي الانسان في كل مكان, وتدعوه الي التأمل فيما يجري حوله, واكتشاف داخله, باعتباره سيد حاضره, وصانع مستقبله, ولابد أن يكون له النصر في سباقه المحموم مع أدوات التكنولوجيا الحديثة وأسباب التقدم العلمي الكاسح, فالانسان يسيطر علي مايصنعه, ويخضع ما انتجه عقله لصالحه, وإلا أصبح العلم الحديث كالمارد الذي انطلق من القمقم, ولم يستطع الانسان الذي استحضر ذلك العفريت أن يضعه في موقعه أو يستفيد من انجازاته.. إنه في النهاية وجدان الانسانية علي مشارف قرن جديد ينبغي ان يسود فيه العقل وإلا تتقلص معه العاطفة.. إنها معادلة صعبة وتركيبة معقدة.. ألم أقل لكم انها مأساة الانسان وأحزان العصر!
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/Archive/1998/8/18/WRIT1.HTM