لا يجادل أحد فى أن حجم التدين المصرى يفوق غيره من الدول الإسلامية والمسيحية إذ إن إيمان المصرى بالألوهية واستعداده للحياة الثانية معروف منذ بنى الأهرامات والمعابد وهو تأكيد للحجم المتزايد للحقيقة المطلقة الوحيدة فى حياتنا وهى الموت، ولقد أسرف المصريون تاريخيًا فى الطقوس والعبادات والشعائر ولم يكن ذلك بالضرورة تعبيرا عن سلوكيات قويمة أو أخلاقيات صحيحة، فلقد غلب الشكل على المضمون وأصبحت المظاهر الدينية أقوى بكثير من الخوض فى جوهر الدين والالتزام بتعاليمه الحقيقية، من هنا تبارى المسلمون والمسيحيون فى بناء المساجد والكنائس حتى أصبحت مسألة مطروحة على ساحة الحياة العامة فى مصر وغيرها من الدول، ولو رصدنا النفقات السنوية للمصريين فى الحج والعمرة لوجدناها عدة مليارات تتزايد كل عام، كما أننا نلاحظ أيضًا أن عدد الكنائس ومساحات الأديرة تتسع مع الزمن ولابأس من ذلك كله فمصر بلد يجسد حضارة الملتقى بين الثقافات والديانات، ولقد تعاقبت عليه تاريخيًا وتجاورت على أرضه جغرافيًا اليهودية والمسيحية والإسلام كما أن الله اختص أرضه بالحديث إليه سبحانه وتعالى عندما خاطب (موسى الكليم) ربه من طور سيناء ولذلك فإن الحديث عن التدين المصرى يعطى أهلها ميزة بقدر ما يدفع إلى الاعتقاد باهتمامهم بالشكل دون المضمون بالمظاهر دون السلوكيات وهو أمر تعانيه الشعوب الإسلامية فى القرنين الأخيرين، ولقد راودتنى دائمًا نظرية التوازن بين الدين والدنيا خصوصًا أن الإسلام وهو دين الأغلب الأعم من سكان المنطقة، دين يعترف بالحياة والاستمتاع المشروع بها ويحترم معادلة تتمثل فى المأثورة الشهيرة (اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدًا واعمل لآخرتك كأنك تموت غدًا) لذلك فإننى أطرح على الرأى العام اقتراحًا محددًا وهو أن يقترن بناء كل مسجد أو كنيسة ببناء مدرسة أو مستشفى تتناسب أحجامها مع ذلك المسجد وتلك الكنيسة إذ لا يعقل أن يتراجع التعليم وتتدهور الرعاية الصحية فى وقت يتسابق فيه الجميع لبناء المساجد والكنائس، ونسجل هنا أنه لا اعتراض لدينا على ذلك ولكن لابد أن يقترن بتحسين أحوال البشر وتعديل أوضاعهم فى هذه الظروف الصعبة والحياة المعقدة، ولعلى أطرح هنا بعض النقاط التى تفسر ما أقول:
أولًا: إن الترشيد الحقيقى للعقل المصرى إنما يأتى من خلال الممارسات الجادة للعلاقة بين أبناء الوطن لذلك فإننى أتصور أن المدارس والمستشفيات التى يقوم عليها ويرعاها بناة المساجد والكنائس يجب أن تكون مفتوحة للبشر دون تمييز أو استثناء، فالكل أمام التعليم والطب سواء، ولا بد أن أعترف أن هناك عددًا من المستوصفات الملحقة حاليًا بالمساجد والكنائس ولكن أبوابها مفتوحة للمصريين دون تفرقة بين مسلم ومسيحى، فكل أبناء الكنانة يمثلون وحدة متكاملة لوطن صلب وشعب عريق.
ثانيًا: إننى مازلت أتذكر أن صديقًا لى قد رحل عن عالمنا منذ سنوات، هو الدكتور (محمد أحمد نور الدين) الذى كان عميدًا لطب الأزهر قد تعاقدت معه إحدى الكنائس لعلاج الأطفال ممن يقعون فى دائرة نفوذها الروحي، وسعدت وقتها أنهم بحثوا عن الكفاءة ولم يفكروا فى الديانة، فكانت عيادته تعج بالأطفال الأقباط والمسلمين فى مشهد دائم يؤكد وحدة الأمة وتنامى الوعى بين أبنائها، وأنا أطالب حاليًا بضرورة فتح الأبواب والنوافذ للجميع فى كل المجالات بدءًا من الصحة والتعليم.
ثالثًا: إن الاهتمام بالمستشفيات والمدارس هو تطبيق لتعاليم السماء فى رعاية المحتاجين من أهل الأرض، وهى تأكيد أن الدين لله وحده وأن الحياة للبشر جميعًا ، كما أن المصريين والمصريات يدركون عن يقين أن الأديان لم تأت للتفرقة والإقصاء ولكنها جاءت للتنوير والتبشير والتوعية وغرس مكارم الأخلاق ويوم تفتح المساجد مدارسها ومستشفياتها لأبناء الحى أو القرية كما تفتح الكنائس المصحات العلاجية ودور التعليم بنفس المنطق فإننا نكون أمام مرحلة تتواكب مع (مبدأ المواطنة) التى نتشدق بها دائمًا دون تطبيق فعليّ لها خصوصًا فى مجتمع يعرف التجانس والانصهار منذ فجر التاريخ، ومازلت أتذكر عندما أوفد البابا المستنير (شنودة الثالث) أبناءه من الأطباء المتميزين فى لندن للمشاركة فى علاج (الإمام الشعراوي) وكيف أن العلاقة بين القطبين الدينيين قد تحسنت كثيرًا بعدها وقدر كل طرف قيمة الطرف الآخر ومكانته وتفهم أسلوبه فى التفكير ورؤيته للحياة العامة وشئون الوطن.
رابعًا: سوف تسهم هذه المبادرة فى تحسين العلاقة بين المسلمين والمسيحيين فى إطار الوحدة الوطنية كما تفتح الجسور الطبيعية بين الدين والدنيا بين دار الفناء ودار البقاء، إنها محاولة على الجانب الآخر لترشيد بناء المساجد والكنائس والتوقف طويلًا أمام الدور الإنسانى والأخلاقى لدور العبادة وإسهامها فى تحسين واقع الحياة والارتقاء بالمجتمعات.
خامسًا: يمكن تعميم التجربة فى تنافس وطنى شريف يؤدى إلى مواجهة حاسمة مع قضايا التعليم والصحة وتوجيه جزء من التبرعات الأهلية إلى هذين القطاعين.
إن ما أهدف إليه فى هذا المقال هو أن يتذكر المصريون ما أدركه (الإسكندر الأكبر) ومن بعده بعدة قرون (نابليون بونابرت) من تعلقهم الشديد بدينهم فهم الأحق بتطبيع العلاقة بين الدين والدنيا، وليتذكر الجميع ما ورد فى الأثر عن سيد البشر من أن الأكباد الجائعة أولى بالصدقة من البيت الحرام.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/699904.aspx