إن الذى قال إن (مصر بلد شهادات) كان محقًا، فالمصريون يقيسون درجات التقدم ومعايير التفوق من خلال تلك (الكليشهات) التى يزينون بها شهاداتهم وأوراقهم ووثائقهم، والأمر عندى يحتاج إلى مراجعة ويقتضى إعادة النظر، فما أكثر من وصلوا إلى القمة دون شهادات علمية!، وما أكثر من لم يبرحوا السفح رغم حصولهم على أعلى الشهادات التى أصبحت جزءًا من الوجاهة الاجتماعية ولا تعبر أبدًا عن جوهر الشخص وإمكاناته وقدراته، وليس الأمر على إطلاقه، فالتعميم خاطئ، والأمر يحتاج إلى مراجعة أمينة تضع كل شىء فى نصابه، ولعلى أطرح هنا المحاور الآتية
أولًا: إن غرام المصريين بالشهادات الجامعية ودرجات الدراسات العليا ليس تعبيرًا عن الرغبة فى الاستزادة من العلم، ولكنها تعبير فقط عن رغبة فى الظهور بأوراق يرصّعون بها بطاقاتهم الشخصية، ويقدمون من خلالها أنفسهم كرموز للعلم والمعرفة، وهم من ذلك براء، إذ إن «عباس العقاد» عندما انكب على القراءة المضنية لعشرات السنين لم يفعل ذلك من أجل درجة يحوزها أو مكانة يتطلع إليها، ولكنها الرغبة فى المعرفة، فالمعرفة هى بحق تاج على رؤوس البشر لا يدرك قيمته إلا العلماء، ولقد أفرز النظام التعليمى فى مصر سلمًا هرميًا للشهادات خرج بها عن إطارها الحقيقى، لتصبح منظومة اجتماعية أكثر منها قيمة أكاديمية، وإذا كانت المعرفة هى أبرز عناصر القوة فى العقود الأخيرة، فإنها تحتاج دائمًا إلى من يستند إليها لتعزيز موقفه وتبرير تصرفاته، فلا يختلف اثنان حول أهمية المعرفة فى حد ذاتها حتى ولو لم يحصل صاحبها على ما يفيد ذلك، فهى الأصل وما عداها نتائج لها.
ثانيًا: إن جدولة الذهن وترتيب الأولويات هما المعيار الدقيق للفوارق بين البشر، والذى يميز إنسانًا عن الآخر هو ما يعلمه (قل هل يستوى الذين يعلمون والذين لا يعلمون)، ولذلك فإن التعليم لم يعد له ذات المضمون الذى كان عليه منذ عصر «دانلوب» مثلًا، فأصبحت قدرة الطالب على تحديد مستقبله والتخطيط لمسيرة حياته من الأمور الممكنة، حتى ولو لم تحقق الشهادات له ما كان يبتغيه، والأمر يقتضى من صانع القرار الذى يحدد السياسة التعليمية أن تكون هناك مراحل دراسية مختلفة لكل مستويات القدرة على التحصيل ونوعيات الذكاء واستيعاب المناهج الدراسية الموائمة لكل مستوى.. ولقد طالبت كثيرًا بضرورة الاهتمام بالتدريب عن طريق الكليات الوسيطة المسماة «البوليتكنيك» - حسب المسمى البريطانى - لأنها تعطى شهادة تسمح لصاحبها بأن يزاول عملًا بغض النظر عن نوعية الشهادة، لأن التدريب قد أعفاه من كثير من تبعات الجانب المظهرى فى الشهادة، فهناك فارق كبير بينه وبين التكالب على الشهادات باعتبارها جواز مرور اجتماعيًا من أجل الزواج لكى تصبح مبررًا لاحترام صاحبها لما يحوزه من علم وما يتمتع به من معرفة.
ثالثًا: إن الأجواء المعاصرة للتعليم فى بلادنا توحى، بل تؤكد، أن التكالب على الشهادات قد أدى إلى قدر كبير من التزييف والتزوير، بل إننا نزعم أن هناك نسبة لا بأس بها من الشهادات العليا تفتقر حاليًا إلى المصداقية وتعوزها النزاهة العلمية، بل تفتقر أيضًا إلى الارتباط بالواقع، ولو نظرنا حولنا سوف نجد أن المؤسسات التعليمية المختلفة قد بدأت تتنافس فى منح شهاداتها لمن يتطلعون إليها، دون الأخذ فى الاعتبار أن مضمون الشهادة وجوهرها هو الذى سوف يحدد السعر الوظيفى لمن يسأل عنه.
رابعًا: يلعب الإعلام دورًا فاعلًا فى التحصيل الدراسى، وهو الذى يزين قدراته وإمكاناته ونوعية التعليم ويرسم مدارات محددة للعلوم والمعارف فى كل وقت، لذلك فإن دور الإعلام فى صنع الوعى، بحيث يسمح لصاحبه بدراسة معينة، وهو أمر متفق عليه وفكر مقبول فى هذه الحالات.
خامسًا: تشير المؤشرات الحديثة إلى تكالب الطلاب من الأجيال الجديدة على علوم «الكمبيوتر» ودراساته حتى يتحقق بها سلاح يحمله مهما كانت نوعية التخصص والتوجه العلمى الذى يتجه إليه، ولذلك فإن تكنولوجيا المعلومات تلعب حاليًا دورًا كبيرًا فى إعطاء الشهادة لمن يريدها وبقدر يسير من الجهد ودون ضغوط أو جهود غير عادية.
إن الذين يبحثون عن الشهادات العلمية إنما يعطون لأنفسهم ميزات اجتماعية أكثر مما يحصل عليها الإنسان بالاستغراق الأكاديمى والاتجاه إلى البحث العلمى، لذلك لم يعد غريبًا أن ندعو إلى التوقف عن السعى وراء الشهادات والتركيز على المعرفة والعلم، باعتبارهما قاطرة الحياة فى كل المجتمعات سعيًا نحو مستقبل أفضل ونمط مقبول لحياة العصر
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1379819