مدين أنا في جزءٍ من تكويني الفكري والثقافي للحضارة الهندية التي قضيت في ظلالها أربع سنوات (79– 1983) في السفارة المصرية بنيودلهي، وقد تعلمت في تلك السنوات الأربع ما يزيد على ما تعلمته في لندن قبلها في ست سنوات، فالهند مدرسة كبرى بما فيها من ثقافات ولغات وديانات فضلًا عن التنوع في أعراق سكانها من "بنغال" و"بنجاب"، كما أن مئات الملايين من الهنود يعيشون في ظل أفكار يتميزون بها مختلفين أحياناً عن باقي العالم، فالهندوسية طقس ثقافي قبل أن تكون ديانة، وما زلت أتذكر أنني وقفت ذات يوم حارٍ أمام مطلع أحد الكباري في العاصمة الهندية لمدة تصل إلى ساعة وورائي رتل من السيارات المكتظة، لأن بقرة مقدسة كانت تنام عند المدخل ولم يكن أمامنا سوى الانتظار حتى تتحرك بإرادتها، فهي "الأم التي أرضعت الإله"، وفقاً للتاريخ الهندوسي، وقد رأيت أيضاً أنهم لا يأكلون لحمها رغم الحاجة الماسة إلى البروتين لشعب يصل تعداده إلى ما يزيد على مليار ومئتي ألف نسمة، فالهند بلد الغرائب والعجائب، وقد كتب الفيلسوف العربي "البيروني" حول هذه النقطة فقال ما معناه إن لديهم كل فضيلة مطلوبة، وأيضاً كل رذيلة مرفوضة، إنها بلد التناقضات، أو هي متحف للزمان والمكان، فالفقر المدقع يتعايش مع الثراء الفاحش، ويبدو أن الاعتقاد بتناسخ الأرواح يعطيهم مبرراً لقبول الهوة الواسعة بين الطبقات، فهناك المهراجا العظيم والمنبوذ الضائع وكلهم أبناء الأمة الهندية، وهناك الهندوس والمسلمون وهناك السيخ والمسيحيون، إلى جانب أقليات أخرى، ولكن تجربة التعايش المشترك تبقى هي التي تقود مسيرة تلك الأمة العظيمة، ولعلي أطرح هنا بعض الملاحظات:
أولاً: الهند هي أكبر ديمقراطيات العالم على الإطلاق، إذ يتوجه إلى صناديق الاقتراع عند كل انتخابات أو استفتاءات ما يزيد على سبعمئة مليون مواطن يعطون أصواتهم مستخدمين الحبر الملون الذي لا يزول لعدة أيام، وتستمر هذه العملية الضخمة لفترات تصل إلى ثلاثة شهور كل مرة ضماناً لسلامة العملية الانتخابية واحتراماً لصوت المواطن الهندي دون اعتبار لدينه أو عرقه أو لونه أو طبقته الاجتماعية، ويكفي أن نتذكر أن "أنديرا غاندي" قد خسرت الانتخابات في مقعدها بعد أن كانت رئيسة للوزراء ولم تسترد ذلك المقعد إلا بعد جهد حزبي وسياسي استعادت به (ابنة نهرو) شعبيتها الضائعة ومكانتها المتطلعة، فالهند بلا شك هي تجربة إنسانية فريدة يخرج منها المرء مختلفاً عما دخلها.
ثانياً: الهند شبه جزيرة متعددة المناخات مختلفة البيئات، كما أن ثرواتها الطبيعية تسمح لها بالتعدد الزراعي والتفوق الصناعي، ولذلك تحولت في السنوات الأخيرة إلى قوة هائلة ينص دستورها على أنها دولة ديمقراطية تضم كافة التنويعات السكانية بلا تفرقة أو تمييز، فهي دولة برلمانية بالمعنى الصحيح، إذ أن رئيس الجمهورية يملك ولا يحكم ودوره مراسيمي أكثر منه سياسياً أو تنفيذياً، ولكن رئيس الوزراء هو التعبير المباشر عن الحزب الفائز وهو الأقوى تأثيراً والأول سياسياً، ويعتمد البرلمان الهندي على نظام المجلسين "اللوك صابها" و"الراجا صابها"، ولقد حققت الهند توازناً سياسياً ودولياً على نحو أكسبها مكانة واحتراماً على المستوى الآسيوي وحركة عدم الانحياز لأنها إحدى الدول المؤسسة لها، بل أصبحت في كثير من أدبيات العلاقات الدولية قائدة العالم الثالث، ولقد تمكن الهنود في العقود الأخيرة من تطوير بلدهم والقيام بعملية تحديث شاملة للأفكار والأطروحات المسيطرة على الشخصية الهندية ثقافياً، فأصبحت الهند دولة عصرية بالمقاييس الحديثة، إلى حد كبير.
ثالثاً: لم تقنع الهند بأن تكون دولة كبرى بين دول العالم الثالث، ولكن النموذج الصيني الذي يؤرقها من حين إلى آخر قد فرض عليها سباقاً محموماً على مضمار التقدم، وهو أمر لم يكن وارداً من قبل، فنجحت حكومات الهند بدءاً من "نهرو" و"شاستري" و"أنديرا غاندي"، وغيرهم من زعماء الهند الحديثة، في تحقيق نقلة نوعية تواجه بها الهند غول الفقر الذي يمثل قنبلة موقوتة بسبب الزيادة السكانية الهائلة واستمرار بقايا الأفكار القديمة لدى قطاعات من الشعب الهندي. ولقد أصبحت الهند، كما هو معلوم، دولة نووية لأنه كان من المستحيل عليها أن تجاور الصين وباكستان وغيرهما وهي ترتدي جلباب العصور الوسطى، بل كان من الضروري أن تواجه الأمور بشكل مختلف يتسق مع الدراسات الاستراتيجية وحسابات توازن القوى في جنوب آسيا، وقد تمكنت الهند من أن تكون دولة فضاء بالمعنى الحديث المرتبط بإنتاج الصواريخ بعيدة المدى التي تجعل الهنود في حالة رضاء عن مستوى بلادهم وتفوقها العسكري والاقتصادي.
رابعاً: الهند دولة زعيمة في إقليم جنوب آسيا، ولكن هناك رواسب تاريخية ما زالت تخلق حساسيات مستمرة لعلاقاتها مع دولة مثل الصين، ولكن الهند وعت درس التاريخ جيداً وأدركت أن أفضل الطرق لمنع الحرب هو الاستعداد الدائم لها، كما أن الهند بدأت تعاني أيضاً في السنوات الأخيرة من التطرف الإسلامي الذي تمارسه بعض العناصر المنتمية لقوى أخرى في المنطقة تعادي الدولة الهندية، وقد انفتحت الهند في السنوات الأخيرة على قوى دولية كانت تتخذ منها موقفاً متحفظاً، وأعني بذلك العلاقات الهندية الإسرائيلية وتطورها في ميدان تكنولوجيا التسليح، والهنود يؤمنون بالواقعية السياسية ويتعاملون مع الأمور المختلفة من منطق المصلحة وحدها، لذلك كان طبيعياً أن يتمكنوا من تحقيق انفتاح دولي كبير على الغرب وإسرائيل بعد أن كانوا حلفاء للاتحاد السوفيتي السابق لسنوات طويلة، وقد يرجع الفضل إلى "راجيف غاندي" في ذلك التحول الذي طرأ على علاقاتهم بالولايات المتحدة الأميركية، منذ أن أوفدت واشنطن واحداً من أبرز خبراء التنمية الاقتصادية لكي يكون سفيراً لبلاده في العاصمة الهندية.
خامساً: يتميز العقل الهندي، كما أسلفنا، بدرجة عالية من "البراغماتية" التي تجعله قادراً على الانتقال بسهولة ويسر من اتجاه إلى آخر وتوظيف كافة خصائص الدولة الهندية الكبرى لخدمة أهداف سياستها الخارجية، سواء كان ذلك على المستويين الإقليمي والدولي، أو على مستوى تأثير زعاماتها أثناء توليهم قيادة بلادهم حيث كانوا حريصين دائماً على ترك بصمة تتميز بها الشخصية الهندية ثقافياً وفكرياً، ولعلنا نتذكر الآن اسمي "المهاتما غاندي" و"جواهر لال نهرو"، ودورهما التاريخي في ربط مجموعة الدول الأفريقية بالدولة الهندية.
هذه قراءة عامة في مقومات الدولة الهندية الكبرى وتأثيرها على المسرح السياسي الدولي وقدرتها على المضي في تأكيد وجودها الثقافي والحضاري ثم السياسي والاستراتيجي، مدعومة بإعجاب من دول التحرر الوطني ونظم تصفية الاستعمار، حيث رأى زعماء شباب من أمثال "عبد الناصر" و"نكروما" و"نيريري" و"سنجور" ما يغريهم في أن ينقلوا من حكمة السياسة الهندية في ستينيات القرن الماضي. إنها الهند حجر الزاوية في القارة الآسيوية ومركز الثقل في مجموعة السبعة وسبعين قبل انضمام الصين إليها، بل وبعد ذلك أيضاً!
جريدة إندبندنت عربية
https://www.independentarabia.com/node/15886/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%A7%D9%84%D9%87%D9%86%D8%AF-%D9%88%D9%85%D8%B3%D8%AA%D9%82%D8%A8%D9%84-%D8%A2%D8%B3%D9%8A%D8%A7