لم يشهد محور من محاور السياسة الخارجية المصرية ما شهده المحور الإفريقى من صعود وهبوط عبر تاريخنا الحديث، فقد كانت تلك القارة غائبة عن استراتيجيات مصر السياسية وكأنها بحر الظلمات الحافل بالألغاز ولكن ظل الشريان الوحيد الذى يربط مصر بقارتها الأم هو النهر الخالد، وعندما امتدت فتوحات محمد على تتعقب مسار النيل إلى منابعه مع إرهاصات العلاقة المصرية الإفريقية كان السودان هو حلقة الوصل باعتباره فى ذلك الوقت البوابة الكبيرة للوجود العربى فى إفريقيا وظلت مسألة السودان مفتاحًا لفهم العلاقات المصرية الإفريقية خصوصًا فى العصر الملكى عندما كان تاج العرش يحمل اسم مصر والسودان معًا، وبقيام ثورة 23 يوليو عام 1952 بدأت نظرة جديدة لمصر تجاه القارة متجاوزة لأول مرة المدخل السودانى الذى تراجع بفعل اختفاء الشعارات الوحدوية فى الخرطوم تحت زخم الدعوة إلى الاستقلال الذى تحقق لذلك القطر الشقيق فى اليوم الأول من عام 1956، ولا شك أن التحول السودانى له أسبابه ودوافعه إذ إن ما جرى فى مصر من صراع على السلطة التى كان فيها أول رئيس للجمهورية وهو محمد نجيب طرفًا يتعاطف معه السودانيون سببًا فى قلق سودانى تغيرت معه المفاهيم وتبدلت الأفكار ورفع إسماعيل الأزهرى زعيم الحزب الاتحادى شعار الاستقلال بديلًا للوحدة مع مصر ولكن عبد الناصر تمكن بسياساته التحررية وانفتاحه على القارة الإفريقية ككل دون تحديد مسار جغرافى واحد للتواصل حيث قامت القاهرة بدور تنويرى يبدأ بالإعمار والبنيان ولا ينتهى بحشد الأفكار وتغيير صورة مصر التى صنعها الوجود البريطانى المصرى فى السودان إلى صورة عصرية لدولة قائدة ورائدة حتى أصبح اسم ناصر علامة على التحرر الوطنى والاستقلال الإفريقي، وشهدت الفيلا رقم 5 بشارع أحمد حشمت بالزمالك زعامات إفريقية شابة ترتادها طلبًا لدعم القاهرة لحركات الاستقلال فى بلادها وعرف ذلك المبنى قادة مثل (مانديلا) و(كاوندا) وغيرهما من القيادات التاريخية فى إفريقيا، ونشط العصر الناصرى على الجانب الآخر بشركة النصر للتصدير والاستيراد التى كان يقودها ضابط مصرى راحل هو محمد غانم والتى تركت أثرًا فى كل عاصمة إفريقية لا يزال شاهدًا على الجهد السياسى والغطاء التجارى لتلك الشركة، وبرز اسم محمد فائق الوزير المختص بالشئون الإفريقية علامة مضيئة فى سماء القارة، ومازلت أتذكر الطريقة التى تحدث بها (نيلسون مانديلا) أمامى شخصيًا عند لقائه الرئيس الأسبق مبارك فى عاصمة ناميبيا عشية استقلالها عن محمد فائق الذى ظل نجمًا لا يغرب عن سماء القارة، وعلى المستوى الثقافى ظهرت أسماء مصرية تسعى لإحياء الدور الإفريقى وتجديد أدواته ومازال اسم مفكر مصرى مثل حلمى شعراوى معروفًا ومطروقًا على المستوى المصرى كله حين نفتح الملف الإفريقى فى العقود الأخيرة، ولقد تواصل الأمر فى عصر السادات فيرجع الفضل إلى رجل عظيم فى تاريخنا هو د.بطرس بطرس غالى الذى جاب أنحاء القارة أكثر من مرة وترك بصمة قوية وصلت به إلى أكبر مقعد دولى فى تاريخ العالم المعاصر أمينًا عامًا للأمم المتحدة، ومع منتصف التسعينيات تراجع الدور المصرى فى إفريقيا رغم جهود وزراء الخارجية المصرية فى هذا المجال فإن هناك عوامل جعلت الحركة المصرية أضعف مما كانت عليه ونرصدها فيما يلي:
أولًا: غياب الشخصيات التاريخية عن الساحة من أمثال محمد فائق وبطرس غالى وانشغال الدبلوماسية المصرية فى هموم المشرق العربى بدءًا من تداعيات القضية الفلسطينية إلى أحداث العراق إلى حروب الخليج المتتالية ولكن الضربة القاصمة للدور المصرى فى إفريقيا حينذاك كانت هى محاولة اغتيال الرئيس الأسبق مبارك فى أديس أبابا والتى كان من نتائجها أن توقف الرئيس المصرى عن زياراته السنوية العاصمة الإثيوبية ومشاركته فى القمم الإفريقية حيث كانت تلك المناسبة تتيح له لقاء أكثر من خمسين رئيسا وفديا ما بين رئيس جمهورية ورئيس حكومة ووزير خارجية، ولقد شهدت شخصيًا النتائج الإيجابية لتلك المقابلات التى كانت تبدو وكأنها زيارة مصرية لكل عاصمة إفريقية، وعندما توقف الرئيس عن الذهاب فإن الدبلوماسية المصرية كانت حاضرة ولكن فاعليتها دون وجود الرئيس أقل بالضرورة منها فى حالة وجوده.
ثانيًا: كان سقوط سياسة (الأبر تايد) وانهيار النظام العنصرى فى جنوب إفريقيا وعودة الدولة الإفريقية الكبيرة إلى أحضان القارة الأم منافسًا قويًا للدور المصرى بحكم حجمها الاقتصادى وتقدمها التكنولوجى رغم أن دورها السياسى فى القارة لا يقارن بالدور المصرى رائد التحرير وصانع التعمير، فعودة جنوب إفريقيا إلى دورها الطبيعى سلب من مصر تلقائيًا مساحة للحركة وملأت فراغًا تركه تراجع الدور المصرى إفريقيًا، وأنا أتذكر مثالًا واحدًا وهو استعادة دولة جنوب إفريقيا مقعدها الدائم فى مجلس المحافظين للوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد واجهت شخصيًا ذلك الموقف غداة وصولى إلى العاصمة النمساوية سفيرًا ومندوبًا مقيمًا لدى الوكالة فى نهاية عام 1995 وأصبح علينا أن ندخل الانتخابات بعد أن كنا نتمتع بالعضوية الدائمة طيلة غياب النظام العنصرى فى جنوب القارة، وقس على ذلك منافسة دائمة عند طرح مشروع إفريقى لحصول القارة على مقعد أو مقعدين دائمين فى مجلس الأمن وفى داخل منظمة الوحدة الإفريقية أيضًا التى أصبحت الاتحاد الإفريقى بعد ذلك دخلت جنوب إفريقيا منافسًا قويًا للحصول على مؤسسات الاتحاد ومناصبه بينما كانت مصر بعيدة عن معظم ما يدور بحكم شواغلها الداخلية وغياب شخصيتها التاريخية. ثالثًا: لعبت عوامل أخرى دورًا سلبيًا لتحجيم الدور المصرى بالقارة فبينما كان ظاهرها هو التعامل مع مصر كانت تحرك فى الخفاء بعض القوى وتحشد بأموالها دورًا مختلفًا لا يتقاطع مع دور القاهرة وأعنى بذلك (ليبيا القذافي) بكل ما له وما عليه إذ إن امتداداته الإفريقية كانت فى جزء كبير منها على حساب الدور المصرى السابق، كما أن الخلاف الجزائرى المغربى كان خصمًا من الدور العربى فى القارة الإفريقية وتأثرت منه مصر سلبيا ودخلت أحيانًا فى منافسات غير واعية مع الدولة الشقيقة الجزائر رغم أن كليهما قلعة للنضال العربى والإفريقى أو هكذا يجب أن تكونا.
هذه نظرة على قارتنا الأم التى نعود إلى أحضانها بقوة ويطرق أبوابها رئيس اتحادها ابن مصر الرئيس عبد الفتاح السيسى حيث تطل الكنانة بوجهها الجديد وروحها الحقيقية على القارة التى تنتمى إليها وترتبط بها وتفخر بالانتساب إلى تاريخها النضالى الطويل ضد الاستعمار والعنصرية والفساد.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/702994.aspx