يحتل أدب السير مكانًا مرموقًا فى تاريخ الآداب عمومًا ويجد إقبالًا كبيرًا من القراء، ذلك لأنه يعطى إحساسًا للقارئ بأنه يتابع رواية حقيقية وليست قصة خيالية، كما أنه قد يتفهم بعض المعانى فهمًا خاصًا نتيجة معرفته بالكاتب، ولكن الذى شاع فى السنوات الأخيرة هو كتابات السيرة الذاتية التى يسجل فيها أصحابها بدرجات متفاوتة من الشجاعة والصدق خبايا فى حياتهم الشخصية وتجاربهم الذاتية، ومنهم من يتجرد فتصل كتاباته إلى اعترافات (جان جاك روسو) أو ذكريات (غاندي) أو الصدق الواضح والفاضح فى مذكرات الراحل المصرى العظيم (لويس عوض)، والمسألة هنا نسبية تتوقف على قدرة الشخص فى كتابة ما يريد أن يقرأه الناس عنه ولكن إخلاص الكاتب للأجيال الجديدة يجعله أحيانًا موافقًا أن يضع نفسه فى قفص الاتهام طواعية لأنه يكتب بتجرد وموضوعية وصدق وأمانة، ولقد شهدت الحياة العامة المصرية طوفانًا من المذكرات الشخصية فى السنوات الأخيرة فكتب من قبل إسماعيل صدقى وسلامة موسى وغيرهم من الساسة والحكام والمفكرين بدءًا من الملوك وصغار المسئولين، كما كتب سيرته الذاتية ملك الأردن الراحل الحسين بن طلال وكتب عاهل المغرب الراحل الحسن الثانى وغيرهما فى كل المجالات، وتبقى رائعة (طه حسين) عميد الأدب العربى (الأيام) أيقونة متفردة لا يمل المرء من قراءتها لعدة مرات على امتداد عمره، ولقد أصدر عدد من الدبلوماسيين المصريين مذكراتهم أيضًا، فكتب إسماعيل فهمى وعصمت عبد المجيد وعبد الرءوف الريدى ونبيل العربى ثم أصدر عام 2018 عمرو موسى مذكراته أو الجزء الأول منها تحت عنوان (كتابيه) وتبعه أديب مرموق بكتاب متميز وأعنى به محمد سلماوي، ورصد فاروق حسنى أخيرا تجربته ملخصة فى كتاب جديد بعد أن أفرز كتابًا سابقًا لتجربته مع اليونسكو، وتصلنى كتب كثيرة من أصدقاء ومعارف أو حتى مَن لا أعرف شخصيًا يدون أصحابها عصارة العمر قبل أن تشتد وطأة خريف الحياة عليهم، ولقد كتب الدكتور الجنزورى تجربته فى إيجاز وموضوعية مثلما فعل آخرون من رؤساء الحكومات والوزراء فى العقود الأخيرة، وانبرى الكتاب وكبار الصحفيين فى تسجيل انطباعات العمر والزوايا الخفية والذاكرة الحية، وكتب عادل حمودة كتابًا يربط فيه بين الحياة وحرية الرأي، وقد تلقيت أخيرا كتابًا لأستاذ جامعى بكلية الفنون التطبيقية وأعنى به الدكتور حماد عبد الله وهو أستاذ فى الهندسة يرصد بصدق شديد تجربة حياته ومسيرة عمره، فلم يكتب عن الثراء والبيوت الفاخرة والسيارات الفارهة ولكنه كتب عن الحارة الضيقة والجد الطيب، وأعلم من لا يعرف أنه دخل المدرسة الثانوية الصناعية قبل أن يلتحق بكلية الفنون التطبيقية التى تخرج فيها وعمل أستاذًا بها ثم أصبح عميدًا لها وارتبط بصداقات شخصية قوية برجال من أمثال وجيه أباظة ومحمد فريد خميس وعادل حمودة، ولقد كان لى معه شخصيًا ذات مرة نصيب من انفعال طارئ ولكن لأننى أعلم شخصيته وطيبة قلبه وضعت الأمر فى حجمه الطبيعى مثلما أفعل دائمًا مع الأصدقاء وحتى غير الأصدقاء، لقد أعجبنى كتاب حماد عبد الله كثيرًا خصوصًا أن فيما يرويه تجربة إنسانية مباشرة تابعها الكثيرون ممن يعرفونه، وكان من المفترض أن أحضر حفل توقيع كتابه وأكون من المناقشين له ولكن شاءت ارتباطات وظيفية طارئة أن تحرمنى من ذلك، فتهنئة لكل من كتب، وإعجابًا بكل من صدق، واحترامًا لكل من ملك الجرأة والشجاعة لكى يكشف نقاط الضعف ويتحدث عن معاناة العمر دون تزييف أو تزويق أو ادعاء كاذب أو عنترية مكشوفة، وذلك كله يغرينى حاليًا بأن أسجل فرديًا مسار حياتى فى كتاب كبير تحت عنوان (الرواية) لأنها بحق يجب أن تكون رواية عمر تتحدث عن الإخفاقات قبل النجاحات وتشير إلى التراجع والتقدم والانكسار والانتصار وتحكى فى شفافية كاملة ما يجب أن يعرفه الناس عن إنسان معين قبل أن يمضى قطار العمر ويصبح ذكرى لا يستطيع الرد ولا يتمكن من الدفاع عن نفسه حول افتراءات تلاحقه، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:
أولًا: إن تشجيع كتابة السيرة الذاتية التى تشكل فى مجموعها ذاكرة للوطن بما ترصده من أحداث وما ترويه من حقائق تجعل محكمة التاريخ هى التى تحدد فى النهاية مصداقية ما قاله كاتب معين وما ادعاه لنفسه أو اتهم به الآخرين، ولقد أحدثت مذكرات عبد الرحمن بدوى ضجيجًا ضخمًا لأنه صفى حساباته بصدق وشجاعة مع كل خصومه فكرًا وعملًا، وكذلك جاءت مذكرات الدكتور رءوف عباس الذى كان رئيسًا للجمعية التاريخية المصرية وهى تقطر مرارة عن الزمان والإنسان، فالمسألة تتفاوت بين كاتب وآخر ولكنها تصب فى النهاية داخل وعاء من الصدق والموضوعية يقوم بغربلة ما قيل والحكم على صاحب المذكرات من درجة شفافيته ونوعية صدقه.
ثانيًا: إننا يجب أن نتيح مساحة واسعة من الغفران لكاتبى المذكرات وألا نقيم عليهم الحد أو ندفعهم إلى محاولات جلد الذات فى مبالغة لا مبرر لها ولا طائل من ورائها خصوصًا أننى من المؤمنين بأن الحياة طريقة قبل أن تكون حقيقة، كما أن رحلة العمر تضم وقائع فى زوايا النسيان لا يصل إليها المرء إلا إذا أمعن التفكير واستغرق فى البحث عن الأسباب والنتائج فى كثير مما فعل أو لم يفعل.
ثالثًا: إن الندم الإيجابى أفضل عشرات المرات من الندم السلبي، فخير لك أن تندم على أمر فعلته من أن تندم على شيء لم تفعله، ولو استرجع كل منا شريط حياته فسوف يكتشف أن هناك أمورًا فعلها وندم عليها وأخرى لم يفعلها وندم عليها أيضًا ولكن الفارق بين الحالتين هو الفارق بين الموقف الإيجابى والموقف السلبي، إن المسار الإنسانى معقد وصعب ومتداخل ولكن حصيلته فى النهاية هى مزيد من الحكمة وكثير من التعقل وضرورة لصبر بلا حدود.
إن أدب السيرة - والسيرة الذاتية تحديدًا - هو أمر يغرى بالقراءة ويحرض على التفكير ويفتح أبواب المستقبل أمام أجيال متعطشة للمعرفة، راغبة فى حيازة التجربة وفهم فلسفة الحياة.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/704028.aspx