فى إحدى زيارات الرئيس الأسبق (مبارك) إلى (بغداد) اتَّفق مع نظيره العراقى صدام حسين على أن تكون الزيارات بينهما مفاجِئةً، ولا تتم من خلال وزارتى الخارجية، ولا حتى مؤسستى الرئاسة فى كل من (بغداد) و(القاهرة)؛ إمعانًا فى السرية، على اعتبار أن عُنصر المفاجأة أقوى احتراز أمنى يمكن الاعتماد عليه، فلا تكون الزيارات المُتبادلة بينهما معروفةً مُسبقًا.
واتَّفق (مبارك) و(صدام) على أنه فى حالة زيارة أحدهما للآخر يقول سكرتير الرئيس (صدام) حامد حمادى، لسكرتير الرئيس (مبارك) مصطفى الفقى، تليفونيًّا، أنا سوف أحضر إليك غدًا، كما لو كانتالزيارات مُتبادلة بين سكرتيرى الرئيسين.
رحل صدام حسين وظل تاريخه مثيرًا للجدل يطل علينا فى كل مكان من خارطة الوطن العربى حاليًا.. يمضى الحكام، ولكن الشعوب هى التى تدفع الفاتورة!
وبعد ذلك بأسبوع، تقريبًا اتَّصل بى السيد (حامد حمادى)، وقال لى: (سوف أصل إليك غدًا فى الثانية عشرة ظهرًا بـ«مطار القاهرة»). وتوجَّهت إلى الرئيس مباشرةً، وأبلغته بالمكالمة التليفونية بينى وبين المسئول العراقى، فأمر بإعداد الرِّكاب الرئاسى الساعة الحادية عشرة والنصف فى اليوم المُحدَّد للاتِّجاه إلى المطار لاستقبال ضيف دون أن يُحدَّد من هو، وانصاعت أجهزة الرئاسة للتعليمات، واتَّجهنا جميعًا صوب استراحة كبار الزوَّار فى (ميناء القاهرة الجوى)، وفى الثانية عشرة سألنا برج المطار وعلمنا أنه لا توجد طائرة عراقية دخلت المجال الجوى المصرى، فأسقط فى يدى، وبدأت أتشكَّك فيما سمعت وكيف يمكن أن أكون السبب فى تحرُّك الرئيس ومرافقيه وأجهزة مؤسسة الرئاسة إلى المطار نتيجة فهم خاطئ منِّى، ولم يطُل الأمر كثيرًا، وفى الثانية عشرة والربع دخلت المجال الجوى طائرة عراقية وعليها سكرتير الرئيس العراقى وبعض مرافقيه، وبدأت أتنفَّس الصَّعداء، وعلمت منه أن (صدام حسين) سوف يصل بعد دقائق، وبالفعل هبطت الطائرة العراقية الرئاسية فى الثانية عشرة والنصف، فجلست على أحد المقاعد لأستريح من التوتُّر الذى أصابنى لأكثر من خمس عشرة دقيقة.
وقد وصل (صدام) إلى العاصمة المصرية، وامتدح هو والرئيس (مبارك) فكرة التواصل التى تمت بينى وبين سكرتير الرئيس العراقى، وكيف نجحت فى تحقيق عنصر المفاجأة الكاملة، وظل ذلك ترتيبًا معمولاً به فى عدة زيارات متبادلة إلى أن قام (صدام) بتصرُّفه الجنونى بغزو (دولة الكويت)، فبدأ الفراق بين (القاهرة) و(بغداد)، ولم يعد هناك تواصل بين الرئيسين، ولا مؤسستى الرئاسة فى البلدين، اللهم إلا تلك الاتصالات التى كانت تتم من خلال الرسائل المتبادلة التى يحملها السفير العراقى القدير فى (القاهرة) نبيل نجم، والتى أسلِّمها له، وأحيانًا يتسلَّمها هو مباشرةً من الرئيس المصرى، بينما يُسلِّمنى هو ردود الرئيس (صدام)، وكانت فى معظمها عنيفةً وتخرج عن حدود اللياقة الدبلوماسية، وتحتوى على عبارات حادَّة تتَّهم المُعارضين للغزو بالعمالة والخنوع والخضوع لـ(الولايات المتحدة الأمريكية) والغرب عمومًا.
وظل الأمر كذلك لعدة شهور حتى نجح التحالف الدولى لتحرير (الكويت) فى تحقيق مهمته، وهو الذى أعطته (مصر) ومعها (سوريا) غطاءً سياسيًّا عربيًّا لم يكن يتوقعه أحد، ولابُدَّ أن نعترَّف هنا على أن جزءًا كبيرًا من مشكلات الشباب العربى حاليًا أنه لا يعى أحيانًا أهمية التضامن العربى، وكيف أن ذلك يجسد مصلحة مصرية مباشرة.
وواقع الأمر أن العلاقات المصرية-العراقية كانت يجب أن تكون سندًا للعرب والعروبة، ولكن (العراق) الذى كان قد خرج لتوِّه من حرب مع (إيران) امتدَّت لأكثر من ثمانى سنوات، كان يتوهَّم أن أموال الخليج وثرواته حقٌّ له، ولعل ذلك يُجسِّد المفهوم الحقيقى لخلفية قرار (صدام حسين) بغزو (الكويت).
ولقد سعى وقتها الرئيس الأسبق (مبارك) إلى تجنيب (العراق) مخاطر ذلك الوضع وصيانة سلامة أراضيه واستقلاله الدائم، ولست أشكُّ فى أن ذلك كان تعبيرًا عن الروح القومية والشعور بالمسئولية تجاه سلامة دولة عربية كبيرة بحجم (العراق)، ولكن يبدو أن بعض الحكام لا يرون إلا ما يريدون، ولا يسمعون إلا ما يقولون، ولذلك توهَّم صدام حسين وقتها أن باستطاعته ابتلاع دول الخليج واحتواء (مصر) من خلال تحييد دورها فى هذا الشأن، وهو ما لم يحدث فى النهاية، رغم أن وجود صدام حسين على الساحة العربية كان يمثل جزءًا من معادلة التوازن الاستراتيجى العربى فى مواجهة الآخرين.
لقد رحل صدام حسين وظل تاريخه مثيرًا للجدل يطل علينا فى كل مكان من خارطة الوطن العربى حاليًا.. يمضى الحكام، ولكن الشعوب هى التى تدفع الفاتورة!
د. مصطفى الفقى;
مجلة 7 أيام العدد 227
تاريخ النشر: 24 مايو 2017
رابط المقالة: https://www.7-ayam.com/%d8%b9%d9%86%d8%af%d9%85%d8%a7-%d9%88%d8%b5%d9%84-%d8%b5%d8%af%d9%91%d9%8e%d8%a7%d9%85-%d8%ad%d8%b3%d9%8a%d9%86-%d8%a5%d9%84%d9%89-%d8%a7%d9%84%d9%82%d8%a7%d9%87%d8%b1%d8%a9/