لم يعرف التاريخ العربى المعاصر أزمة أكثر تعقيدًا فى مجملها وأشد تداخلًا بين أطرافها من الأزمة «السورية» التى تقف على أعتاب عامها السادس بينما المفردات المعتادة فيها هى القتلى والجرحى واللاجئون والنازحون و«البراميل» المتفجرة والغازات السامة مع انهيار كامل لواحدة من أهم الدول العربية وأعرقها على الإطلاق، والكل يرقب المشهد المأساوى محاولًا الاستفادة منفردًا منه والضحية الأولى والأخيرة هى الشعب السورى ذاته الذى دفع «فاتورة» فادحة لا نظير لها فى تاريخ المنطقة، ويكفى أن نتذكر ما تردد عن حاجة إعمار «سوريا» إلى مئات المليارات من الدولارات والتى تصل إلى أرقام فلكية يصعب ذكرها، إن «سوريا» قد تلقت ضربات موجعة من كل اتجاه فهناك السيطرة الإيرانية والأطماع التركية والمخاوف السعودية والخليجية والقلق المصرى والأردنى واللبناني، إننا بصدد شبكة معقدة من العوامل التى تحول دون الوصول إلى تسوية عادلة، ولعلنا نرصد فى هذا السياق العوامل التالية:
أولًا: كانت منطقة «الشام» عبر التاريخ محطًا للأنظار وملتقىً للأطماع فعرفت الاضطرابات والقلاقل عبر تاريخها الطويل، وكانت «سوريا» دائمًا هى تلك الدولة العربية المتميزة التى انطلقت منها دعوة القومية العربية و«الأفكار العروبية» وظلت كذلك حتى ابتلاها الله بمجموعة انقلابات عسكرية حول منتصف القرن الماضى فحكمها «حسنى الزعيم» و«سامى الحناوي» و«أديب الشيشكلي» إلى أن سيطر حزب البعث العربى الاشتراكى على «الدولة السورية» ــــ وهو بالمناسبة من أخطر الأحزاب القومية فى التاريخ العربى الحديث ـــ وعندئذ انجذب «السوريون» لشخصية «عبد الناصر» الوحدوية حتى وقع الانفصال وسقطت «سوريا» فى دائرة الارتباك من جديد إلى أن قام «حافظ الأسد» ـــ بعد رحيل «عبد الناصر» بشهور قليلة ـــ بحركة مفاجئة انفرد فيها بالسلطة وظل حاكم زسورياس القوى حتى رحيله وتولية ابنه «بشار» حكم «سوريا» وبينما كان «حافظ الأسد» يستخدم علاقاته مع «إيران» لصالحه عربيًا بدأت «إيران» تستخدم «بشار الأسد» لصالحها إقليميًا! ومضت الأمور على هذا النهج إلى أن اندلعت الانتفاضات العربية فى «تونس» و«مصر» و«ليبيا» فخرج الشباب السورى الصغير فى مدينة «درعا» قرب الحدود الأردنية يكتبون شعارات ثورية بريئة على الحوائط ولكن رد فعل النظام كان قاسيًا وعنيفًا بل ودمويًا فتفجرت الثورة فى أنحاء البلاد وبدأت الدماء تسيل فى شوارع المدن السورية وقراها، ووقفت دول «الخليج العربى» موقفًا داعمًا للثورة مطالبة بالإطاحة بـ«الأسد» ونظامه واختلط (الحابل بالنابل) حتى أصبحنا لا نعرف فى مراحل معينة من يقاتل من!؟
ثانيًا: وقفت «إيرانس» علنًا تدعم نظام «الأسد» وتتمسك ببقائه وتحارب من أجله ومعها «حزب الله» فى «لبنان» يساند القتال العنيف الذى انخرط فيه الجيش السورى فى معظمه ضد الشعب السورى فى مجمله حتى جرى تدويل الأزمة وأصبح لها مبعوث أممى يتابع تطوراتها، ولقد تأرجح زالموقف المصريس قربًا وبعدًا من الأزمة حسب تطورات الشئون الداخلية فى «مصر» والذى يعنينا هنا هو أن نسجل أن الصراع فى «سوريا» تحول إلى مستنقع دماء يستقطب الجماعات الإرهابية وقوى الشر من كل الاتجاهات وكأنما هى «بؤرة» جاذبة لكل ما يتهدد كيان الدول العربية التى أفرز شكلها الحديث اتفاق «سايكس بيكو» منذ مائة عام.
ثالثًا: دعيت إلى جلسة «عصف ذهني» فى أوائل 2015 حول الوضع فى «سوريا» وكانت وجهه نظرى التى بدت غريبة وقتها لبعض الزملاء فى تلك الندوة الفكرية أن «روسيا» سوف تكون هى اللاعب الذى يتقدم قرب النهاية ليحسم الأمور وفقًا لمصلحته الاستراتيجية، إذ أن «سوريا» دولة حليفة تمثل منفذًا روسيًا على شاطئ «البحر الأبيض المتوسط» وطريقًا وحيدًا للمياه الدافئة، وبالفعل تقدم «بوتين» منذ عدة شهور بسياسة تختلف نوعيًا عن ذى قبل واستطاع أن يقتحم مسرح العمليات بشكل علنى حيث قام الطيران الروسى بدك المواقع المعارضة لنظام «الأسد» تحت غطاء مقاومة «الإرهاب» والحرب على «داعش» وأخواتها، والغريب فى الأمر أن «الولايات المتحدة الأمريكية» و«الغرب» عمومًا قد استسلموا للتفوق الروسى فى «سوريا» وهو أمر أعطى «قبلة الحياة» لنظام الرئيس «الأسد» ولقى تأييدًا من «إيران» ودعمًا من «حزب الله» وكأن «موسكو» يعنيها بالدرجة الأولى وجود نظام يحافظ على مصالحها ـــ وقد يكون هو نظام «الأسد» أو غيره! ـــ فالمهم هو المصالح العليا للقوى الكبرى بغض النظر عن وحدة الأراضى السورية وسلامتها الإقليمية.
رابعًا: إن «الفصل» المؤسف من كتاب «الأزمة السورية» هو ذلك الذى يتصل بتنامى الجماعات الإرهابية وازدهارها فى إطار بيئة العنف السائد هناك، ولذلك جاء ميلاد «داعش» مقترنًا بـ«الأزمة السورية» مثلما كان ميلاد «تنظيم القاعدة» مقترنًا بـ«الأزمة الأفغانية» فـ«الإرهاب» يولد من رحم التدخلات الأجنبية والحروب الأهلية، ومازلت أتذكر أن الدبلوماسى الجزائرى المخضرم «الأخضر الإبراهيمي» الذى كان كان مبعوثًا أمميًا فى «الأزمة السورية» قد عقد اجتماعًا فى مسكنه بـ«القاهرة» مع بداية توليه لمهمته الصعبة ودعا إليه نخبة من المفكرين والدبلوماسيين وكبار المثقفين، وكان السؤال المطروح ماهو المخرج من تلك المحنة الدامية؟ ولقد أجبته يومها: بأن الخروج من المحنة لن يحسمه حل عسكرى ولا تفوق فى أرض المعركة، فالفيصل سوف يكون وفقًا للتطورات الدرامية ومسلسل الأحداث كما لا نتوقعها، وأضفت أن اختفاء «الأسد» لن يكون بنهاية درامية مفاجئة بقدر احتمال حدوثه وفقًا لرؤية حلفائه وبترتيب دولى وإقليمى مقبول.
خامسًا: لقد تطور «الموقف المصري» من المحنة السورية تطورًا مر بعدة مراحل، وقد حرصت الدبلوماسية المصرية على التوازن فى مواقفها مما يجرى هناك، ويكفى أن نتذكر أن الرئيس «السيسي» لم يركز منذ أن وصل إلى السلطة على العامل الشخصى فى الصراع السورى إنما كان التركيز دائمًا على سلامة الكيان السورى ووحدة تلك الدولة المهمة عربيًا وإسلاميًا وشرق أوسطيًا، ولعلنا نتذكر الآن أيضًا كيف خضع الرئيس الأسبق «محمد مرسي» لبعض الضغوط السلفية عندما أعلن فى «الصالة المغطاة» قطع العلاقات الدبلوماسية مع «دمشق» فى تصرف متعجل وغير مدروس، وها هى «مصر» تطرح رؤيتها فى شفافية من أجل إنقاذ الشعب السورى ووحدة الدولة على أراضيه. إن الشعب المصرى الذى ارتبط تاريخيًا بالشعب السورى يقف إلى جانبه داعمًا له فى هذه الظروف الصعبة ولا يناور عليه، ولا يستفيد من محنته بل يسعى إلى سلامته ووحدته.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47188
تاريخ النشر: 16 فبراير 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/476907.aspx