كلما قرأت خبرا عن تنامى علاقة العراق مع محيطه العربى شعرت بارتياح قائلًا لنفسى لقد عاد شعب الرافدين إلى أحضان أمته والعود أحمد، هذه مقدمة عاطفية اعترف فيها بقيمة العراق عندى وإن كنت لم أعمل بها ولكن زرتها عدة مرات وانتقلت بين قباب الكاظمية ومآذن الأعظمية فى بغداد الرشيد حيث يستأثر ذلك البلد العربى الكبير بتراث إسلامى ضخم حتى إن الحضارة العربية فى العصر العباسى هى نتاج لبلد المدرسة المستنصرية وقصور الخلفاء على شاطئى دجلة والفرات، فضلًا عن الإسهام الضخم لبلاد النهرين فى ثقافات غرب آسيا وديانات الشرق الأوسط، كما أننى أعترف بتعاطفى الشديد مع معاناة العراقيين عبر العقود الأربعة الماضية من حكم مستبد إلى حصار ظالم، إلى حرب دامية، إلى غزو أجنبى حاول أن يطمس ملامح عروبة العراق وتاريخها الطويل، ولذلك أطرح هنا بعض الملاحظات:
أولاً: إن العراق وريث حضارات عريقة قبل الإسلام لا تقف عند شريعة (حمورابي) أو أبراج بابل ولكنها تتجاوز ذلك إلى الديانات المتعددة التى عرفتها تلك البلاد موازية للديانات السماوية تحت راية التوحيد، وما بحثنا عن عالم كبير أو مفكر عظيم أو شاعر مرموق إلا وقد خرج من العراق أو مر بأرضها فهى أرض المياه والنفط والخصوبة فاسمها يعنى أرض السواد المعروفة بوفرة الإنتاج وسخاء الطبيعة، فالعراق الشاهد الكبير على الحضارة العربية الإسلامية وهو البلد الذى شهد أمسيات الرشيد وصعود البرامكة وسقوطهم، وهو البلد الذى دخله الحجاج واليًا من بنى أمية وكاد المصلون فى المسجد أن يلقوا الحصى فى وجهه بعد أن جلس صامتًا لبرهة غير قصيرة ثم تحدث عن الرؤوس التى أينعت وحان قطافها، وكأنما يدلل بذلك على شدة بأس العراقيين وصعوبة إخضاعهم.
ثانيًا: إن الحديث الذى برز فى العقدين الأخيرين عن تقسيم العراق بين سنة وشيعة هو تصدير لأطروحات خبيثة صدرها الغرب إلى ذلك البلد الذى لا يجادل أحد فى عروبة شيعته إذ إن انتماءهم المذهبى يسبق انتماء الإيرانيين بعدة قرون، كما أننى أزعم أن انتماء العراقى لوطنه - شيعيًا كان أم سنيًا - هو ولاء لا يحتاج إلى إثبات، ولقد برهنت الحرب العراقية الإيرانية - وهى حرب غير مبررة أمقت الحديث عنها - قد أثبتت هى الأخرى أن العراقيين نسيج واحد فى حروبهم مع الشيعة أو السنة على حد سواء، فعروبة العراقى تسبق انتماءه المذهبي.
ثالثًا: لقد كان خروج العراق من ميزان القوى العربية خطيئة استراتيجية كبرى أضرت بقضايا العرب وفى مقدمتها القضية الفلسطينية كما أن الجناح الشرقى للأمة العربية قد فقد درعه القوية وتكالبت على المنطقة فى المشرق العربى ودول الخليج قوى خارجية لعب الإرهاب فيها دورًا ملموسًا، وكان العراق هدفًا أساسيًا لكل القوى المناوئة للوجود العربى فى المنطقة، ولا شك أن إسرائيل التى كانت تخشى دائمًا تنامى القوى العسكرية العراقية وقاعدته الاقتصادية القوية قد شعرت بارتياح كبير لما جرى للعراق فى العقود الأخيرة والذى شاركت فيه بالتبريك والمساندة فى كل الخطوات، بل إننى أزعم هنا أن إسقاط صدام حسين كان واردًا بعد غزو الكويت ولكن إسرائيل هى التى نصحت الولايات المتحدة الأمريكية بأن يبقى صدام حسين فزاعة أمام دول الخليج لإضعاف المنطقة وإحداث الفرقة بين أطرافها.
رابعًا: لقد حارب العراق على جبهات كثيرة فى السنوات الأخيرة ولكن أخطرها كان فى نظرى هو حرب تحرير الموصل من الوجود الإرهابى الذى مثله احتلال تنظيم داعش لتلك المدينة التاريخية المهمة فى شمال العراق، ولقد كان انتصار العراقيين على الإرهاب نجاحًا باهرًا لا يقل عن انتصارهم فى حروب سابقة، فالعراق شعب الصمود والعناد والقدرة على تحمل المصاعب ومواجهة التحديات، وأحسب أن طرد تنظيم داعش من العراق كان هو الانتصار الحقيقى للمنطقة على قوى الإرهاب الغاشم الذى مثله ذلك التنظيم الغامض فى نشأته وتسليحه ودعمه وتوفير جميع اللوجيستيات له، ولست أشك فى أن دولًا أخرى فى المنطقة كانت ضالعة فى دعم تلك الموجة الإرهابية التى قادها ذلك التنظيم.
خامسًا: إن التواصل الأخير بين العراق وجيرانه - فى الأردن ومصر والسعودية وغيرها من دول الخليج العربى - هو مؤشر إيجابى يعيد قدرًا من التوازن فى المنطقة ويحول دون العبث بعروبة ذلك القطر العربى الشقيق، وذلك أمر لا ينتقص من قيمة أكراد العراق وهم جزء من تكوينه كما أنه لا يتعارض مع الولاءات المذهبية تحت مظلة العراق الواحد الذى يؤثر تأثيرًا كبيرًا فى محيطه العربى وفضائه الدولي، فضلًا عن التعاون الاقتصادى والتنسيق فى المجالات المختلفة دون تدخل فى شئونه الداخلية وخصوصية وضعه، ونحن لا ننكر أن الضغوط الأجنبية والتدخلات الخارجية تستهدف العراق عبر تاريخه الطويل شأن دول أخرى فى المنطقة، ولكن ذلك لا يدعونا أبدًا للتفريط فى مكانة ذلك البلد العربى أو الإقلال من عروبته، وأظن أن دولاً عربية كثيرة تتطلع إلى دور العراق العربى بالاهتمام الزائد والحفاوة البالغة.
إننا فى مصر ننظر إلى العراق نظرة احترام تاريخية يشاركنا فيها الأشقاء الذين يدركون قيمة التاريخ الحضارى والتوزيع الجغرافى لدولة أثرت فى تاريخ المنطقة عبر العصور.. تحية للعراق بتعدد طوائفه وانسجام أطرافه وتماسك شعبه ووحدة أراضيه.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/708182.aspx