عندما أطلق «آدم سميث» كتابه «ثروة الأمم» اعتبرناه نقطة تحول فاصلة تشير إلى المفهوم العلمى لدراسة الاقتصاد وما يلحق به من تعريفات متلازمة مثل قولنا إن الاقتصاد علم الثروة، أو إن الاقتصاد علم الندرة، أو إن الاقتصاد هو «علم الصيرورة»، أى تحوُّل الثروات وفقًا لآليات السوق وأدوات الدولة فى رسم الهيكل العام من خلال توظيف الموارد الطبيعية والبشرية التوظيف الأمثل، أقول إننا درجنا على هذا الفهم الكلاسيكى لمدلول الثروة والحفاظ عليها، إلى أن ظهر مدلول جديد يرتبط بنظرية التنمية وما يحيط بها من تضافر عوامل الإنتاج وتداخل مصادر الثروة بإدخال آثار الثورة الصناعية، ثم التقدم التكنولوجى فى العملية الإنتاجية وبداية التحول من عناصر الإنتاج التقليدية إلى رؤية جديدة ترى الدنيا من منظار مختلف، وأُذكِّر الجميع هنا بأن «اليابان» من أفقر الدول فى الموارد الطبيعية، ولكنها تقف حاليًا فى الصف الأول بين دول التقدم الصناعى، كما أن «سويسرا» دولة محدودة الموارد، ولكنها تقف فى مقدمة الدول بمعيار معدل الدخل السنوى للفرد، بما يعنى أن الموارد البشرية، التى تميزت بها دول مثل «اليابان» و«سويسرا»، إلى جانب التعليم والتدريب، قد أصبحا بديلين لوفرة الثروة الطبيعية وتعويضًا كاملًا عن النظرية التقليدية التى طرحها ذلك الكتاب المحورى «ثروة الأمم»، مبشرًا منذ عدة قرون باحتمالات مطروحة لفهم مختلف لمعنى الثروة وكيفية الحفاظ عليها وتنمية مواردها، ويهمنى هنا أن أشارك القارئ فى بعض الملاحظات:
أولًا: إننا ندخل فى السنوات الأخيرة مرحلة جديدة تحمل رؤية مختلفة لمعنى التقدم، وتُبشر بمجتمعات تختلف كثيرًا عما كنا عليه، فالذكاء الصناعى وصناعة «الروبوتس» والإحلال المتنامى للآلة محل اليد البشرية وغير ذلك من رموز ما هو قادم إنما تبشر فى مجملها بتحولات كبرى فى العقل الإنسانى ذاته وتدعونا إلى التعامل مع المستقبل بمنظار يراه على حقيقته، لذلك فإن دراسة المستقبليات هى واحد من أهم الأمور التى تحتل مراكز الصدارة فى التفكير العلمى الحديث، الذى تتبناه الأمم التى تريد أن تطرق أبواب العصر فى ثقة ويقين، والتى تتحملها أجيال جديدة وفدت على مسرح الحياة من نمط تعليمى مختلف وتدريب فكرى يتلاءم مع المستقبل.
ثانيًا: إن العالم حولنا يعتمد حاليًا أدوات جديدة فى دراساته المختلفة حول التنمية الصناعية والإنتاج الزراعى والأنشطة الخدمية، نتيجة الوعى الكامل بأهمية التعليم العصرى وتوظيفه لإحداث النقلة النوعية المطلوبة للتعامل مع كل ما هو جديد، وأتذكر هنا مقولة للكاتب الراحل الكبير «محمد حسنين هيكل» عندما كان يختار بعناية عبارات ترد على الاستطراد اللفظى فى القضية التى نناقشها قائلًا: «إن كل جديد فى هذه الأطروحة ليس صحيحًا، وإن كل صحيح فيها ليس جديدًا»، ولقد أعجبنى ذات يوم حديث عميق للمفكر المصرى «شريف دلاور»، فى أحد المؤتمرات الرئاسية، عندما بشر بالتحولات الكبرى التى بدأنا نتعامل معها واقتحمت مجالاتها دول كثيرة، بينما نحن مازلنا نلوك عبارات جامدة حول التعليم النمطى بشكله التقليدى، وعندما يسعى بعض الرواد لاستقدام أدوات عصرية للانتقال من مرحلة التعليم إلى التعلُّم نجد أن هناك مقاومة شديدة لأن الإنسان عدو ما يجهله، كما أن الأسرة المصرية قد تعودت على التعليم بالتلقين، وقد سعدت كثيرًا أثناء لقاء رئيس الدولة المصرية بأعضاء مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية- وهم كوكبة من رؤساء الدول والحكومات والعلماء والمفكرين من أنحاء العالم- وقد قال لهم الرئيس السيسى: «إننا ننظر حاليًا إلى عالم مختلف ونفكر بطريقة جديدة، فعلوم المستقبل تحمل معها تحولات خطيرة لابد أن نستعد لها وأن نتهيأ للتعامل معها»، وضرب مثلًا خطيرًا عندما قال: «إن اللغات ذاتها مهددة لأن الأبجدية المعروفة لكل منها قد لا تصمد أمام لغة الكمبيوتر، التى يعتمدها الشباب بديلًا للحروف التقليدية، وقد نجد أنفسنا ذات يوم أمام لغة عالمية يتحدث بها الشباب خارج الأطر التقليدية للثقافات الموروثة، بما قد يؤدى إلى تقويض الأبنية التقليدية للحضارات القائمة، ويجعلنا أمام واقع مختلف تمامًا عما نحن فيه»، ولقد استهوت رؤية الرئيس السيسى مَن حضروا ذلك اللقاء لأن هذه رؤية فكرية وثقافية وليست بالضرورة مسؤولية سياسية أو مهمة رئاسية.
إننى ألفت النظر إلى أن ثروات الأمم أصبحت مفهومًا مختلفًا عما آمنّا به ومضينا وراءه، وأنه قد أصبح علينا أن نسابق الزمن حتى تتواءم خطواتنا القادمة مع الرؤى المقبلة. أقول قولى هذا تحريضًا على تفكير جديد وتبشيرًا بعالم مختلف.
جريد المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1391441