زعم بعض المؤرخين أن هناك خصومة تقليدية بين الثقافة والسياسة، بينما ردت عليهم حقائق تاريخية بغير ذلك، فلقد عرف بلاط الملوك وقصور الخلفاء ومجالس السلاطين ما يدحض هذه المقولة ويجعلها موضع جدل، وفى التقاليد الغربية كانت ثقافة الفروسية أحد مظاهر الحكم، بينما كان لكل خليفة شاعر يلازمه وأديب يجالسه فانعقدت فى أروقة الحكم جلسات ثقافية راقية ومساجلات فكرية عميقة وأدرك الجميع أن الخصومة بين الثقافة والسلطة هى وبال على الاثنين معًا، وعرف التاريخ الحديث نماذج مشهورة بدءًا من رب السيف والقلم «محمود سامى البارودى»، مرورًا بمن تولّوا مواقع فى السلطة وهم على قدر كبير من الثقافة من أمثال «على مبارك» و«أحمد لطفى السيد» و«محمد حسين هيكل» و«طه حسين» وقبلهم وبينهم وبعدهم عشرات النماذج التى تؤكد ذلك فى مسيرة التاريخ المصرى الحديث، ويكفى أن نتذكر أيضًا على المستوى العالمى أن رئيس وزراء بريطانيا الداهية «ونستون تشرشل» حاز على جائزة نوبل فى الأدب وليس فى السياسة أو السلام، ولقد عرفت العقود الأخيرة رؤساء دول وحكومات كانوا شعراء أو روائيين فانفتحت أروقة السياسة على مصادر الثقافة وأصبحت تلك السبيكة الفريدة من السياسيين المثقفين إضافة هامة للتراث الإنسانى، وفى ظنى أن الأمر يحتاج إلى بعض الإيضاح من خلال النقاط التالية:
أولًا: إن الثقافة بمعنى الوعى الإنسانى العام بما يدور حولنا محليًا وإقليميًا ودوليًا هى أساس فى التكوين السياسى، فلقد قرأ «جمال عبدالناصر» فى التاريخين السياسى والعسكرى ونهل «السادات» من بعض مصادر الأدب وتعلق بالفن بل لقد درس فن الإلقاء على يد المخرج الراحل «زكى طليمات»، كما تحكى بعض الروايات عنهما. إن الخصومة بين الثقافة والسياسة هى نقطة عوار عانت منها شعوب ودفعت ثمنها أمم، لأن الثقافة تعنى اتساع الأفق ورحابة التفكير واحترام الحوار وتقدير الرأى الآخر، فزعيم مثقف يقترب غالبًا من حدود الديمقراطية الحديثة، بينما الحكام المستبدون الذين عملوا ضد مصالح شعوبهم وآثروا الانفراد فى السلطة يدفعون الثمن غاليًا فى النهاية بسبب ضيق النظرة ونقص المعرفة والعزوف عن القراءة واستلهام روح التجديد من الأفكار الواردة والآراء التى يختلفون معها.
ثانيًا: إن الثقافة ليست تخصصًا علميًا أو مؤهلًا دراسيًا ولكنها مستوى فى التفكير ونمط فى التعاطى مع المشكلات وفهم عميق لفقه الأولويات والقدرة على التمييز بين الخيارات وهى أيضًا توظيف للخبرة التاريخية ودراسة للمواقف السابقة، ولقد سئل أحد رؤساء وزراء بريطانيا عما يجب أن يتحلى به من يتصدى للحكم فأجاب باقتضاب قائلًا: الوعى بالتاريخ!.
ثالثًا: إننى أتذكر رئيس دولة التشيك منذ سنوات قليلة، وقد كان روائيًا معروفًا فى بلاده وخارجها، حيث كانت قدرته على الحديث وإدارة الحوار، وأتذكر أيضًا رجالًا من طراز «جواهر لال نهرو» و«شارل ديجول» و«مهاتير محمد» وهم أولئك الذين أعانتهم الخبرة التاريخية والاطلاع الواسع على فهم الأمور وسياسة الأوضاع، فترسب لديهم قدر كبير من حنكة الممارسة وحصافة الرأى، ولقد أصاب كثيرًا من الحكام - أمراء ووزراء وكبار مسؤولين - داء الشعر فاشتهروا به ربما أكثر مما اشتهروا بقدراتهم على مقاعد السلطة، إذ إن مقعد الثقافة يتقدم غالبًا سواه، ولقد احتفظ «شارل ديجول» بوزير ثقافة كان مصدر إلهام وطرفًا محاورًا فى كثير من الأمور، لأن الوزير وهو «أندريه موروا» كان مثقفًا رفيعًا يعرف كيف يفكر «ديجول» ويشاركه الرؤية فى كثير من القضايا، ولقد تولى رئاسة الحكومة السودانية شاعر معروف هو «محمد أحمد محجوب»، كما تغنت «كوكب الشرق» بأشعار الأمير «عبدالله الفيصل» عندما كان مسؤولًا فى حكومة بلاده فصدح صوتها هى و«العندليب الأسمر» بأشعار ذلك الأمير الراحل.
إن الاقتران بين السياسة والثقافة يؤدى إلى مزاوجة إيجابية تفيد كل الأطراف وتؤدى إلى سعة فى الأفق وبعد فى النظر وشمول فى الرؤية فتكون خيرًا على البلاد والعباد، ولابد أن أعترف بإعجابى بحديث أخير لرئيس الدولة المصرية أمام مجلس أمناء مكتبة الإسكندرية، حيث تركز الحوار حول دراسة المستقبليات واستشراف ما هو قادم بكل احتمالاته وميزاته ومشكلاته أيضًا، فالسنوات القادمة تحمل للبشرية كل جديد!.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1393444