سبقنى صديقى المفكر المصرى المتميز د.«عبد المنعم سعيد» فى الكتابة عن أستاذ أساتذة العلوم السياسية د.«على الدين هلال»، وكنت قد قررت أن أكتب عن صديق العمر وزميل الجامعة الابن البار لوطنه وعلمه ودينه، إذ إن «على الدين هلال» يحتل مساحة كبيرة فى حياتى، فمنذ التحقت بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية عام 1962 كان يسبقنى بعامين نجمًا ساطعًا فى سماء الكلية لتفوقه الدراسى وشخصيته النظيفة وخلقه الكريم ومساعدته لكل زملائه، حتى تشكلت مدرسته فى العلوم السياسية وهو لايزال طالبًا قبل أن يصبح معيدًا، وقد ارتبط اسمه بأساتذته من أمثال عبدالملك عودة وحامد ربيع وبطرس بطرس غالى، وتميزت حياته منذ مطلع شبابه بالجدية والصرامة فى البحث العلمى والحفاظ على التفوق الدراسى والتميز الأخلاقى، ولقد اقتربت منه كثيرًا فى تلك السنوات الباكرة من حياتنا الجامعية، فقد كان هو أمين لجنة الطلاب بالاتحاد الاشتراكى وكنت أنا رئيسًا لاتحاد الطلاب فى الكلية، وكان يعقد المؤتمر السنوى لوحدة الطلاب فى التنظيم السياسى وكأننا لسنا فى مصر، حرية كاملة وحوار عميق ومستوى رفيع فى إدارته للجلسات وإعطائه للكلمات وتعقيبه على الانتقادات، لقد كان مبهرًا ومتألقًا ورائعًا، وأنا أظن أن تلك المؤتمرات كانت هى المدرسة الأولى التى تعلمنا فيها آداب الاختلاف واتساع رقعة النقاش، والفضل الأول فى ذلك يرجع إلى «على الدين هلال» الشاب الصغير الذى تفهم مبكرًا أدوات العمل السياسى وآليات الانتماء الوطنى، وقد عشت إلى جانبه سنوات فى الدائرة الضيقة المحيطة به التى كان من أبرز نجومها الراحل الدكتور «نزيه نصيف الأيوبى» الذى غادر الحياة مبكرًا بعد أن عاش سنوات فى لندن فضلًا عن الزملاء «محمد عاصم إبراهيم» و«محمد عزالدين عبدالمنعم» وغيرهما من الأجيال الجديدة الذين لحقوا بموكب على الدين هلال قبيل سفره إلى «كندا» للحصول على درجة الدكتوراه فى فلسفة العلوم السياسية، ومازلت أتذكر يومًا أن اتجهت بنا سيارتا تاكسى إلى ضاحية المعادى لنحضر احتفالًا عائليًا بخطوبته على قرينته وشريكة حياته السيدة إجلال بهجت، وكانت وقتها طالبة فى السنة الأولى بالكلية وهو المعيد المرموق الذى يحاول الجميع الاقتراب منه، وكنا نخرج كثيرًا فى صحبته متجهين إلى محل «شربتلى» بميدان العتبة يضع أمامنا مجموعة من الأوانى بصنابير صغيرة يمضى كل منا أمامها ليقذف فى كوبه برشفات من عصائر مختلطة، وقد أطلقنا على ذلك العصير الجديد لقب المشروب العقائدى.
لقد كانت فترة زاهرة فى تاريخ كلية الاقتصاد والعلوم السياسية التى كانت تبدو وكأنها خلية نحل تعج بالأفكار السياسية والاقتصادية والرؤى الفكرية، وكان هناك على الجانب الآخر نجم شاب فى قسم الاقتصاد هو د.«جودة عبد الخالق» بتفوقه العلمى وتميزه الدراسى وعزوفه عن الأضواء، وهو الذى ظل قابضًا على يساريته الفكرية بشرف واقتناع حتى الآن، أما «على الدين هلال» فقد كان ولا يزال، وسوف يظل، نموذجًا فريدًا لم أر له مثيلًا وله بصمات فى حياتى أعترف بها دائمًا. أذكر له أننى عندما عدت من لندن حاملًا الدكتوراه سعى هو إلىّ وقدمنى للراحل الأستاذ «سيد ياسين» حيث طرحت عرضًا لرسالتى أمام مركز الدراسات الاستراتيجية بالأهرام، ولم يتوقف «على الدين هلال» الصديق والأستاذ عند هذا الحد بل سارع بتقديمى للتدريس بالجامعة الأمريكية فى القاهرة لعدة سنوات، ولم يبخل علىّ أو على أى من زملائه بالنصيحة المخلصة الموضوعية دائمًا والصادقة فى كل الأحوال، وعندما خرجت من مؤسسة الرئاسة هرع إلى منزلى، وقال لى: ليست هذه هى النهاية بل قد تكون البداية وأنا أدعوك إلى التنقيب فى الجانب الفكرى لديك، وأقترح عليك أن يكون لك مقال أسبوعى فى صحيفة الحياة اللندنية، وأن تشرع فى الكتابة من خلال الكتب والدراسات وحضور المؤتمرات. وأشهد الله أن كلمات على الدين هلال قد رسمت لى الطريق فى واحدة من أصعب لحظات حياتى، وإننى إذ تغيبت عن حفل تكريمه مؤخرًا لوجودى فى مهمة فى الخارج، فإننى أستعيض عن ذلك بهذه السطور تحية وفاء وعرفان واحترام لهذا الأستاذ الجليل الذى لم يضف إليه مقعد الوزارة ولم تغيّره المناصب، وظل معدنه أصيلًا لامعًا لا يصدأ أبدًا، وها هو لايزال متربعًا على قمة أساتذة العلوم السياسية فى الوطن العربى، رغم محنة ضعف البصر نتيجة الكر والفر بين صفحات الآلاف من الكتب والدراسات والمقالات التى تعامل معها الدكتور على الدين هلال فى رحلة أكاديمية فريدة كانت أدواته فيها هى الذكاء المشتعل والنظرة الحكيمة والبصيرة الواضحة والرؤية الشاملة.. أمدّ الله فى عمره.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1397222