ما عرفت بلدًا راقيًا ولا شعبًا ناهضًا ولا دولة متقدمة إلا وهى تدرك أهمية اختيار القيادات فى المناصب المختلفة، ويبدو أنها أصبحت محنة فى بلدنا ليس الآن فقط ولكن منذ سنوات طويلة فالاختيار أحيانًا لا يخضع لقواعد واضحة ولا توصيفًا وظيفيًا محددًا كما أن البحث لا يجرى على ساحة الوطن كله ولكنه يبقى مقصورًا على من يعرفهم أولئك الذين يبحثون فى الأسماء لاستدعاء الكفاءات واختيار أهل الخبرات، إن الذى يحدث فى الغالب هو أن الاختيارات تكون متعجلة أو تقليدية أو لا تدرك معايير الاختيار الدقيق فى المواقع المختلفة، الأمر ليس بالسهولة التى نراها إذ يجب ألا يحكمنا الهوى أو تسيطر علينا رغبة اختيار أهل الحظوة فالمسألة أكثر من ذلك تعقيدًا، وقد سألوا بعض حكماء السياسة ذات يوم عن رأيهم فى حاكم معين فقالوا جميعًا ابحث فيمن يختارهم لتدرك توجهاته الحقيقية وقدراته الانتقائية، فالمرء يعرف بمن يصطفى لذلك فإن المناصب الوزارية واختيار المسئولين الكبار تشكل فى النهاية مرآة عاكسة نرى فيها صورة كاملة للنظام السياسي، وندرك حجم قدرته المحتملة على تحقيق الأهداف وصياغة المستقبل، ولعلنا نختار هنا بعض المحاور الأساسية فى عملية الاختيار على نحو يحدد نوعية المسئولين وكيفية التعامل معهم ونعرض ذلك فى النقاط التالية:
أولًا: إننى أتصور أن يكون لدى الدولة ــــ وليكن ذلك من مسئوليات وزارة التنمية الإدارية ــــ مسح ميدانى شامل للكفاءات العالية فى التخصصات المختلفة لأنه من غير المعقول ولا المقبول أن نترك الترشيحات للجهات الأمنية وحدها، وأنا بالمناسبة لا أجادل فى حق تلك الجهات فى مراجعة الأسماء على أن تترفع عن الخوض فى الأخطاء الصغيرة ما لم تكن ذات ضرر مباشر على الحياة السياسية خصوصًا إذا كانت أخطاء بشرية معتادة ليس فيها تجاوز فى حق الوطن ولا سطو على المال العام ولا استغلال نفوذ لتحقيق مكاسب شخصية، وليكن معيار الكفاءة وخدمة الوطن والحاجة إلى أصحاب الخبرة معايير تضعها الأجهزة الأمنية فى موازنة عادلة عند تقويم الأشخاص وإبداء الرأى فيهم مبتعدين عن ازدواج المعايير والكيل بمكيالين، وأنا على يقين أن أبناءنا الشرفاء فى الأجهزة الأمنية المختلفة يدركون ذلك ويعلمون أن الترشيحات مسئولية وطنية يسألون عنها أمام الله فى يوم الحساب، وأنا مقتنع أيضًا أنه لا يحكمهم الهوى ولاالعلاقات الشخصية ولا المعرفة المباشرة عند المفاضلة بين الشخصيات المرشحة، بل وأزيد على ذلك أننى قرأت أن الإمام ابن حنبل قد دعا إلى تجاوز الهنات الصغيرة لحاكم ينفع الناس وينفع نفسه باعتباره أفضل من حاكم آخر أكثر صلاحًا ولكنه لاينفع الناس ولا ينفع نفسه!
وأعترف أن هذه مقولة جدلية قد يساء استخدامها ولكن الإشارة إليها أمر واجب، ولا شك أن الاختيار يجب أن يكون ذا طابع سياسى أيضًا وليس أمنيًا بحتًا حتى لو كان فى تشكيلات حكومات للتكنوقراط، فالمسئول الذى يملك رؤية شاملة أفضل بالضرورة من ذلك الذى لايرى إلا من زاوية واحدة كما أن المسئول صاحب الرأى أفضل من نموذج المسئول الطيع الذى لا رأى له ولا فائدة منه، ولقد أصدرت كتابًا منذ خمسة عشر عامًا بعنوان (الرهان على الحصان) ناقشت فيه قضية الاختيار للوظائف بدرجاتها المختلفة مفضلًا نموذج (الحصان) الذى لا يمتطيه إلا فارسه والذى تكفيه قطع صغيرة من السكر توضع فى فمه حتى يواصل الطريق فى مثابرة وجدية والتزام، خلافًا لنموذج (الحمار) الذى يمتطيه من يشاء ويمضى فى طريقه بلا وعى ويسلك الدروب وفق العادة دون تجديد أو تغيير أو ابتكار.
ثانيًا: إننى أدعو صراحة إلى توسيع دائرة الاختيار والبحث فى مساحة كبيرة وليست محدودة وفقًا لانتماءات معينة أو ظروف خاصة، ولقد اكتشفت شخصيًا من خلال تجوالى بين الجامعات المصرية ــــ والإقليمية منها ـــ أن هناك كفاءات نادرة وعقليات لامعة وأصحاب رؤية متميزة ولكنهم بعيدون عن صانع القرار تطويهم مسافة البعد الجغرافى عن العاصمة كما أنه لا توجد لدينا آليات أمينة للدفع بالكفاءات والإشارة إلى المتميزين من أبناء الوطن، فما أكثر الكفاءات المغمورة والمواهب المطمورة والقدرات المستبعدة فلقد كنا نعانى من قبل عملية تجريف لذوى الكفاءات وإقصاء لاصحاب القدرات، ويتعين علينا الآن ــــ بعد ثورتين شعبيتين ـــ أن نتخلص من ذلك الداء اللعين والمرض الخطير حتى لا نترك لأساليب الشخصنة أن تتحكم فينا وأن تؤثر فى مسار العمل الوطنى فى مرحلته الجديدة، فمصر الآن بحاجة إلى أبنائها ــ كل أبنائها ـــ الذين يقفون على أرضية وطنية والكل يدرك حجم التحديات التى تحيط بنا والمخاطر التى تقف فى طريقنا لذلك أصبح من المتعين علينا أن نراجع فى أمانة كاملة عملية اختيار القيادات فى موضوعية وتجرد وحياد لا تحكمنا إلا المصلحة العليا للوطن فوق الاشخاص والانتماءات سياسية كانت أو دينية مادام الهدف هو تعظيم العائد على الوطن.
ثالثًا: إن المسئول القادم إلى الوظيفة الهامة يجب أن يملك عقلًا منظمًا وذهنًا مجدولًا، وأن يمتلك القدرات الإدارية والتنظيمية مع رصيد من الأفكار الجديدة والمبادرات البناءة حتى يستفيد المنصب من صاحبه وليس العكس، ولدينا فى مصر من يملكون الأفكار الخلاقة ولكنهم ليسوا إداريين ناجحين ولا يمتلكون خبرات تنظيمية ولكنهم قادرون على ترتيب (فقه الأولويات) ومعرفة الأهم قبل المهم، فنكتفى منهم بصياغة الرؤية وتحديد الأهداف ورسم السياسات ونترك لغيرهم مهمة التنفيذ لأن الحياة تقوم على فلسفة التنميط فلسنا جميعًا على نمط واحد فى كل شىء.
رابعًا: إن معدل دوران المنصب فى النظم السياسية المستقرة لا يكون بطول المدة التى عرفتها المناصب الوزارية فى عهد الرئيس الأسبق مبارك ولا بقصر المدة التى عرفناها بعد ثورة 2011حتى أصبح الوزير عابر سبيل يمر على مقعده شهورًا ليحظى بلقب وزير سابق، فاستقرار المناصب على نحو متوازن هو أمر ضرورى لأنه يوازن بين تجديد الدماء وإعطاء الفرصة للآخر، وبين ثبات السياسات والتوقف عن حالة العبث التى شهدناها فى بعض الوزارات أخيرا نتيجة التغييرات السريعة أو الاختيارات غير المدروسة.
خامسًا: إن المسئول المسيس أفضل بالتأكيد من ذلك التكنوقراطى البحت الذى لا يرى خارج حدود يومه، ولست أعنى بذلك أن حكومة التكنوقراط خطيئة بل إن الدول قد تحتاجها فى لحظات التحول أكثر من غيرها، فنحن نريد توازنًا بين الرؤية والسياسة.. بين التفكير والتنفيذ.. بين النظرية والتطبيق. إن محنة اختيار القيادات فى مصر تحتاج منا إلى رعاية واهتمام شديدين إذ أن تلك القضية الخطيرة تنعكس على مسار العمل الوطنى وتبدو مسألة حاكمة لتحقيق الأهداف وبلوغ الغايات.
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47230
تاريخ النشر: 29 مارس 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/489827.aspx