تحقيق الديمقراطية وسيلة ولكن الوصول السليم إلى رأى عام حقيقى هو الغاية، ولقد قرأنا عن تطورات فكرية فى النظرية الديمقراطية، وقد استمعت مؤخرًا إلى الأستاذ الكبير سيد يسين يتحدث عن (الديمقراطية التوافقية) بعد أن كتب عنها أكثر من مرة، وما يلح على حاليًا هو ضرورة التفرقة بين الديمقراطية أيًا كان نوعها وظاهرة الرأى العام باعتبارها تعبيرًا جمعيًا عن إرادة الناس دون حاجة إلى صناديق انتخاب أو إجراءات ديمقراطية، إذ أن استطلاع الرأى العام ينقلنا تلقائيًا إلى التعبير المباشر عن إرادة الجماهير، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات التالية:
أولًا: إن مصر هى صانعة الرأى العام فى الشرق الأوسط بحكم التاريخ ومنطق الجغرافيا، فالمصريون شديدوا الحساسية للأحداث وراصدون دائمون للمواقف، كما أن حجم الثرثرة لديهم يفوق بكثير ما لدى غيرهم، ويتساءل كثير من خبراء العلوم السياسية والنظريات السلوكية عن السبب فى تنامى ظاهرة الرأى العام فى مصر مع تراجع التجربة الديمقراطية وضعف النظام الحزبى فيها حتى أصبح الرأى العام هو الذى يقود القرار ويوجه المسيرة على نحو يصيب المتابعين بالدهشة إذ كيف يتأتى للمصريين أن يمارسوا حق التعبير الذى تتشكل منه ظاهرة الرأى العام رغم غياب الديمقراطية الكاملة وضعف مؤسساتها، ويكون الرد دائمًا أن المصريين يقفزون إلى النتيجة دون الأخذ بالوسائل لأنهم يدركون أن ذكاءهم الفطرى وطبيعتهم التلقائية تصل بهم مباشرة إلى القرار الصحيح ولو على المستوى الشعبى على الأقل لأن الحكومة ملتزمة بقرار ينبع من المؤسسات حتى وإن لم تكن قوية ومؤثرة وتكون النتيجة دائمًا هى وجود هوة بين القرار الرسمى والتيار الشعبى ولا يملأ تلك الهوة إلا الشائعات والحكايات والنكات.
ثانيًا: لقد فطن الكثيرون إلى تلك الحقيقة التى تقوم على الاختلاف بين التطبيق الديمقراطى وظاهرة الرأى العام حتى إن جمال عبد الناصر قد اكتشف ذلك مبكرًا، ففى ظل غياب المؤسسات الديمقراطية اعتمد عبد الناصر على تقارير الرأى العام واستطلاعاته من خلال الأجهزة الأمنية والتنظيم الطليعى داخل الاتحاد الاشتراكى العربي، وقد لا يكون البعض راضيًا تمامًا عن الأسلوب الناصرى ولكن تبقى حقيقة مؤكدة وهى أن ذلك الزعيم الكبير كان يعمل حسابًا كبيرًا للرأى العام ولا يتجاهله، وقد سمعت من بعض المسئولين فى عهده أنه كان إذا وافق على رفع سعر إحدى السلع الأساسية مضطرًا بمقدار قرش واحد فإنه يوصى بإعلان القرار فى يوم الخميس الأول من الشهر حيث ينشغل الشارع المصرى بحفل أم كلثوم، إننى أقول ذلك لكى أشير إلى نقطة محددة وهى أن الحاكم مهما علا قدره وتزايدت شعبيته فهو مطالب بأن يضع الرأى العام فى حسابه حتى ولو كانت المؤسسات الرسمية ـــ تنفيذية أو نيابية ـــ داعمة له لأن ظاهرة الرأى العام أوسع من ذلك وأكبر وهى التى تحدد الشعبية الحقيقية للحاكم، وهنا يجب فصل الأخلاق عن السياسة لأن الأخيرة بطبيعتها لزجة ولا تخلو من أساليب المناورة بل ولا تبرأ أيضًا من روح المؤامرة ولم يكن (مكيافيلي) إلا مسجلًا لذلك المعنى المتداول منذ عدة قرون.
ثالثًا: إن ظاهرة الرأى العام ذات ارتباط وثيق بالثقافة الشعبية والميراث التاريخى للجماعة البشرية ومصر أوضح نموذج لذلك إذ أن الدولة فيها قديمة، كما أن شعبها قد عرف الغزاة والطغاة والبغاة لذلك لم يكن جديدًا عليه أن يتجه دائمًا إلى التأويل وافتراض سوء النية بسبب كثرة ما تعاقب عليه من أحداث صعبة ومواقف غريبة فضلاً عن رؤيته الخاصة لما يدور حوله وفلسفته الفطرية التى جعلت الشكوى إحدى سماته الموروثة منذ عصر (الفلاح الفصيح)، إننا أمام شعب تضرب جذوره فى أعماق التاريخ فهو متدين بطبيعته، اجتماعى بفطرته، متجانس بهويته لذلك فإنه لا يعير الديمقراطية اهتمامًا كبيرًا ولكنه يتعلق بالسلطة التنفيذية تعلقًا شديدًا!
رابعًا: إن المجتمع النهرى الزراعى فى مصر قد جعل الأرض ذات قداسة خاصة كما أن استمرارية الدولة قد جعلت المصريين أكثر التصاقًا بالأرض وغرامًا بالوطن مع توجس دائم تجاه الآخر برغم طيبة الشعب وحدة ذكائه حتى انفرد القاموس المصرى بكلمة (فهلوة) والتى ليس لها مرادف واحد عند الترجمة إلى اللغات الأجنبية، إن ذلك الأمر قد أعطى المصريين إحساسًا بالتفرد وحبًا للتملك وقلقًا من كل جديد!
خامسًا: إن سرعة سريان تأثير الرأى العام المصرى محليًا وإقليميًا قد أكسبه قدرًا من الأهمية التى لا يمكن تجاهلها والتى أصبحت مادة للتصدير من خلال الإعلام المصرى بتاريخه المعروف والمؤثر رغم كل المآخذ عليه، ولقد لعب الأدب والفن والصحافة والمسرح والرواية والسينما دورًا أساسيًا فى تشكيل صورة مصر لدى الآخر وأيضًا فى تكوين إحساس الأجيال الجديدة بذاتها وفهمها المطلق لمعنى الحرية ولو على حساب المصالح العليا للوطن، إننا إزاء تركيبة خاصة لبلد يمتلك مقومات فريدة وتوجهات تحيل تلك الخصوصية إلى شعور بالذات قد يكون مبالغًا فيه أحيانًا لذلك نشط المصريون فى ميدان الرأى العام ولم يتفوقوا كثيرًا فى مجال الديمقراطية وأساليبها فضلًا عن افتقاد المناخ المؤثر فيها والبيئة الحاضنة لها.
إن هذه الملاحظات الخمس هى محاولة للتحريض على التفكير فى العلاقة بين تنامى ظاهرة الرأى العام فى جانب وبطء العملية الديمقراطية فى جانب آخر ولكى نقول فى النهاية إننا نسعى نحو الغاية حتى ولو تعثرت الوسيلة، فالرأى العام المصرى قوى دائمًا ومؤثر أحيانًا ولكن التطبيق الديمقراطى بطيء دائمًا ومتراجع أحيانًا.
جريدة الاهرام
26 إبريل 2016
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/504183.aspx