دفعنى إلى الكتابة فى هذا الموضوع أمران قرأت عنهما هذا الأسبوع، الأول هو رفع الحواجز الخرسانية والموانع المعدنية فى منطقة وسط القاهرة، والثانى وهو السبب فى الأول ــــ نقل وزارة الداخلية من منطقة (لاظوغلي) إلى مقرها الجديد فى إحدى ضواحى القاهرة بعيدًا عن قلب العاصمة، ولاشك أن ذلك سوف يسهم بشكل مباشر فى سيولة المرور ويقضى نسبيًا على زحام وسط المدينة التى تنتظر محافظها الجديد فى أقرب وقت بعد أن ترك المحافظ السابق بصمة طيبة على وجه قاهرة المعز، والذى يعنينى فى هذا المقال هو الإشارة إلى التكاليف الباهظة والأموال الضخمة التى انفقناها فى السنوات الأخيرة على الإجراءات الأمنية والحوائط الأسمنتية والحواجز المعدنية التى جعلت بعض مناطق القاهرة فى مراحل معينة وكأنها ثكنات عسكرية، وأتذكر يومًا ظل فيه سائق سيارتى يتجول بى خلف المبنى القديم للجامعة الأمريكية فى محاولة للوصول إلى ميدان التحرير لنكتشف أن معظم الشوارع مغلقة فى وجوهنا بسبب الاحتياطات الأمنية المرتبطة بحالات الشغب التى شهدتها مصر فى أعقاب ثورة الشعب فى يناير 2011، وأنا أظن أن الخزانة المصرية قد تكلفت مبالغ طائلة قد تصل إلى مئات الملايين من الجنيهات المصرية كنفقات للإجراءات الأمنية والتغييرات المرورية وبناء الحوائط وتركيب السدود بل والبوابات الضخمة مثلما حدث فى شارع القصر العينى وذلك فضلًا عن تعلية أسوار المبانى المهمة وإحاطة أقسام الشرطة ومديريات الأمن والمؤسسات الاستراتيجية والهيئات الامنية بحوائط خرسانية حتى أن المرء قد نسى كيف كانت تلك الشوارع المغلقة والمنافذ المسدودة قبل أن يحدث فيها ما جرى لها، ويهمنى هنا أن أشير ــــ فى هذا السياق ــــ إلى الملاحظات التالية:
أولًا: إننى أتخيل مطارات العالم منذ عدة عقود قبل أن تبدأ حمى خطف الطائرات وترويع الركاب، لاشك أن الدنيا كانت أفضل بكثير ولكننا لا نستطيع فى الوقت ذاته أن نتجاهل المخاطر حتى ولو كانت هزلية مثلما حدث مؤخرًا مع الطائرة المصرية التى جرى اختطافها إلى قبرص، ولا شك أن التعقيدات وعمليات التفتيش المتزايدة فى مطارات العالم المختلفة تجعلنا نشعر بحجم المشكلات التى يواجهها المسافرون فتجمع لديهم بين إرهاق السفر الشاق وأعباء التفتيش التفصيلى وهم حفاة الأقدام تجردوا من معظم ملابسهم من أجل سلامة الطائرة وسلامتهم، ولانستطيع أن نلوم سلطات المطارات فقد قال المصريون قديمًا ( إن ابن الحرام لم يترك لابن الحلال شيئًا)، فملايين الأبرياء مأخوذون بجريمة عشرات الإرهابيين ولم يكن الأمر كذلك فى المطارات فقط بل إننى أتذكر أن ابنة الزعيم العربى الكبير جمال عبد الناصر الدكتورة هدى وهى زميلة دراستى فى كلية الاقتصاد بجامعة القاهرة عامًا بعام ــــ كانت تأتى الى الكلية بلا حراسة تقريبًا إلا من أحد (صولات) الشرطة الذى يتابع تحركاتها فى هدوء على بعد ما يزيد على مائة متر، وأتذكر وقتها أن العقيد عبد الحكيم محيى الدين كان قائدًا لحرس جامعة القاهرة وهو ابن عم السيد زكريا محيى الدين وزير الداخلية حينذاك والمناضل المصرى العظيم خالد محيى الدين فقد حاول قائد حرس جامعة القاهرة فى البداية أن يتردد على كلية الاقتصاد ليطمئن على أمن ابنة الرئيس، وعندما علم عبد الناصر بذلك قال للسيد زكريا محيى الدين قل لابن عمك ألا يذهب إلى كلية الاقتصاد إطلاقا وألا علاقة له بتأمين حياة ابنتي، لقد كانت الدنيا أمانًا بشكل نسبى عما نحن عليه الآن.
ثانيًا: إن ثمن الثورات فادح وتكاليفها عالية ومخاطرها كبيرة فى كل العصور، ويكفى أن نتذكر أن العدوان على التراث الإنسانى ونهب المتاحف وتكسير الآثار هى كلها من النتائج السلبية للثورات الحديثة لذلك فإن تأمين المناطق الأثرية هو بعد مهم فى إطار الإجراءات الامنية المطلوبة فى غضون الثورات، ولعلنا نتذكر ما جرى لمتاحف بغداد وسوريا ومحاولات استهداف المتحف المصرى فى ميدان التحرير أيضًا ولولا يقظة المسئولين فى قطاع الآثار وحماية القوات المسلحة للمتحف ومقتنياته لفقدت مصر أغلى ما تملك! وهل ننسى العدوان على المجمع العلمى المصرى البقية القائمة للصحوة الثقافية التى صاحبت الثورة الفرنسية، وهل ننسى أيضًا اقتحام مبنى أمن الدولة ومخاطر ذلك على أمن البلاد والعباد.
ثالثًا: إن التلوث البصرى والسمعى نتيجة الملصقات المزدحمة والجداريات الضخمة هى مظاهر تقترن بالثورات الكبرى والتغييرات العنيفة، فالاعتصامات والاحتجاجات تؤدى فى مجملها إلى تشويه ـــ ولو وقتى لشكل المدينة ومظاهر تحضرها، إن الضجيج الصاخب والأصوات العالية هى مظاهر الاضطرابات المفاجئة والتصرفات المتسارعة.
رابعًا: إن عودة الحياة الطبيعية إلى الوطن تقترن بالاجراءات الجديدة من إزالة الحواجز العالية والمصدات الكبرى توفيرًا للتكاليف الأمنية والجهد الإنسانى المتواصل، لذلك فإننى أظن أن تحسن الحالة الأمنية سوف يؤدى تلقائيًا إلى تحسن ملموس فى طبيعة الحياة اليومية بدءًا من حركة المرور وصولًا إلى انتظام السكك الحديدية بل إلى سلامة المطارات وحركة النقل الدولي.
... إن تكاليف الثورات وحسابات الأمن هى عبء دفعنا ثمنه غاليًا فى السنوات الأخيرة لذلك فنحن بحاجة إلى أسلوب جديد يسمح بالحياة العادية حتى فى الظروف الاستثنائية!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47272
تاريخ النشر: 10 مايو 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/510781.aspx