أرسى محمد علي دعائم نهضة مصرية حديثة بإيفاد الطلاب للدراسة في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية
إن تعبير ثقافة التعليم يحوي في مضمونه أبعاداً جديدة وآفاقاً مختلفة لأنه يعني أن التعليم قد أخذ طريقاً لم يكن معتاداً من قبل، فنحن أقرب ما نكون إلى مفهوم التعليم الذاتي منا إلى مفهوم التعليم التقليدي، والمتابع لتطورات العملية التعليمية يلحظ حالياً أنها تتحول بشكل سريع وتتغير وفقاً للتقدم التكنولوجي الكاسح، فكما أن الثورة الصناعية تركت بصماتها الكبرى على تطور العالم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر فإن ثورة الاتصالات المعاصرة التي جاءت في أعقاب مراحل التصنيع بالبخار والكهرباء وما تلاهما من مرحلة إلكترونية ونحن الآن أمام مشهد مختلف يقوم على خصائص جديدة لم تكن معتادة من قبل، فلم يعد التعليم ولن يكون مجرد عملية تلقين يتم فيها حشو العقول بالمعلومات، لأنها أصبحت متاحة في جهاز صغير يحمله الجميع - حتى الأطفال – في جيوبهم وإنما أضحت مناهج البحث وطرائق التفكير هي الفيصل فيما نقول، من هنا فإننا بحق في عصر ثورة التعليم الذي أصبح معياراً لتقدم الدول ورقي الشعوب، ولم يعد التعليم التقليدي هو ذلك الذي عهدناه في القرون الماضية، وعندما نتحدث الآن عن ثقافة التعليم فإننا نشير إلى المفهوم الجديد له والدلالات التي طرأت على أساليبه وأصبحت قادرة على القفز فوق المدارس والجامعات بحيث يتمكن الفتى أو الفتاة، بل وربما الطفل والطفلة من تحصيل قدر من المعارف والتعود على طرائق تفكير متجدد وهم في مواقعهم دون أن يحتاجوا إلى الانتقال إلى مدرسة أو معهد أو جامعة، وقضية ثقافة التعليم ترتبط بعدد من المحاور نوجزها في خمسة:
أولاً: إن التعليم ممارسة أساسية تعتمد على مناخ الحرية المتاح والبيئة الثقافية المواتية، وقد تصور الكثيرون – في الداخل وفي الخارج – أن التعليم وحده يكفي لصنع الشخصية المدربة على العمل الذي تقوم به أو لديها المهارة الكافية، فالتدريب هو العملية التكميلية للتعليم، وما أكثر ما رأينا مهندساً حصل على أعلى الدرجات العلمية وحصد الجوائز الأكاديمية، ولكنه أقل كفاءة في الحياة العملية من عامل بسيط تدرب على مهنته وتفوق فيها، لذلك فإن التدريب ينبغي أن يلازم التعليم أو حتى التعلم لأن كافة الدراسات الحديثة أثبتت أن التعليم هو الرقم الصعب في استكمال الخبرة وظهور الكفاءة خصوصاً إذا آمنا بأن الحياة العملية تختلف عن الدراسة النظرية، وهو أمر آخر يتصل بالعلاقة بين التعليم في جانب واحترام المجتمع للكفاءات الفردية في جانب آخر.
ثانياً: إن الحديث عن البحث العلمي وعن التخلف العربي في مجاله يأتي باعتباره مفتاح التقدم والطريق الأوحد لكي يكون لنا مكانة على خريطة التقدم، إن مثل هذا الحديث يرتبط بالضرورة بالحديث عن التعليم وثقافته، فالتعليم هو الذي يقدم المادة الخام للبحث العلمي أو هو الذي يقدم (القماش) لكي يتمكن العلماء من تفصيل ما يريدون ولم نسمع عن دولة تقدم فيها البحث العلمي في ظل تخلف التعليم أو أن دولة ازدهر فيها التعليم وتراجع البحث العلمي، فالارتباط بينهما شرطي وهناك تلازم واضح بينهما، لهذا فإننا عندما نتحدث عن ثقافة التعليم فإننا نشير إلى فهم القائمين على تطوير العملية التعليمية لآليات البحث العلمي وإمكانية انطلاقه من المؤسسات التعليمية والمراكز البحثية ومواقع التدريب الذي يبدأ بالتعليم ثم التدريب وينتهي بالبحث العلمي.
ثالثاً: إن الارتباط الوثيق بين التعليم ونسبة البطالة في كل دولة هو دليل على ارتباط مخرجات التعليم بمدخلات التشغيل، فقد كان (دانلوب) الإنجليزي في مصر مع مطلع القرن العشرين يرى أن التعليم هو طريق لتخريج الموظفين وتغذية الإدارة الحكومية بالكفاءات في التخصصات المختلفة، ولا شك أن ثقافة التعليم على هذا النحو هي ثقافة قاصرة أدت إلى حالة من الركود، بل ونجم عنها تراجع واضح لنظام التعليم نتيجة قصور النظرة للعملية التعليمية بأبعادها المختلفة، فثقافة التعليم تتسع لتدفع بفلسفة جديدة تجعل من التعليم عملية تحول شاملة للأفراد والمجتمعات بل والدول وتضعها على الطريق الصحيح من أجل التقدم والرقي والنهوض، فالتعليم في حد ذاته لا يمثل شيئاً محدداً إذا تم تجريده من أهم المظاهر المرتبطة به وهي مخرجات العملية التعليمية بمراحلها المختلفة من بحث علمي وثقافة وتدريب وتلبية طلبات التشغيل وفقاً لآليات السوق على مستوى دولة معينة، لذلك فإننا نؤكد هنا أن اتساع النظرة الشاملة لمفهوم التعليم هو الطريق لكي نصل إلى تحديد الرؤية الشاملة للإنسان والمجتمع والفرد والدولة.
رابعاً: يتحدث الناس أحياناً بصورة خاطئة عن تسمية كل متعلم بأنه مثقف وهذا خطأ شائع، إذ إن كل مثقف غالباً ما يكون متعلماً، أما المتعلم فليس بالضرورة أن يكون مثقفاً، لذلك فإننا لا نستطيع الخلط بين الثقافة والتعليم وعندما نتحدث عن ثقافة التعليم تحديداً فإننا نبحث في الفلسفة التي يستند إليها النظام التعليمي وهي التي تحدد الأهداف منه والأساليب المتبعة فيه والوسائل التي نعتمدها لتحقيق ما نراه ضرورياً في فترة معينة، ومرة أخرى نؤكد أن الارتباط بين التعليم والثقافة قائم ولكن ليس كل منهما شرطاً لوجود الآخر، فالتلازم شائع ولكنه ليس حتمياً في الوقت ذاته.
خامساً: صنعت الشعوب أمجادها وسطرت الأمم تاريخها من خلال الإدراك الواعي لأهمية التعليم ونوعيته، وإذا كنا نقول إن الفلسفة هي أم العلوم وأن المسرح هو أبو الفنون، فإننا نردف مباشرة بأن التعليم هو الروح التي تدب في جسد الأمة لتدفع بها إلى الأمام، ولعل تجربة "محمد علي" ماثلة أمامنا إذ تمكن ذلك الضابط الألباني من توظيف التعليم في خدمة الصناعة العسكرية والمدنية من أجل مواجهة السلطان العثماني وسعياً نحو التمكن من انتزاع استقلال مصر عن إمبراطوريته، ولقد نجح مؤسس مصر الحديثة في ذلك إلى حد كبير، وأرسى دعائم نهضة مصرية حديثة بإيفاد الطلاب المصريين للدراسة في فرنسا وغيرها من الدول الأوروبية وكان يرافقهم إمام هو "رفاعة رافع الطهطاوي" الذي عاد إلى مصر لينشر التنوير في أرجائها ويضع البذرة الأولى للنهضة التعليمية التي أكملها "علي مبارك" وصولاً إلى "طه حسين" مروراً بأسماء كبيرة في حقل التعليم مثل "إسماعيل القباني" و"حامد عمار"، وإن كنا لا ننكر أن عميد الأدب العربي هو صاحب الصيحة التاريخية التي جسدت ثقافة التعليم بصدق وبحق وهي أن التعليم كالماء والهواء متاح للجميع، ولا شك أن التعليم المتميز يسهم في تنمية روح الابتكار وارتفاع معدلات النمو السنوي فضلاً عن دعمه للمشاركة السياسية وتربية الكوادر القادرة على قيادة البلاد في اللحظات الصعبة لأنه يعتمد على دوران النخبة ويؤدي إلى تداول السلطة.
إن خلاصة ما نريد أن نصل إليه من سطور هذا المقال هو أن ثقافة التعليم بمعنى فلسفته التي يستند إليها إنما تختلف باختلاف الزمان والمكان والإنسان فضلاً عن تفاوت الظروف ولكن هناك حداً أدنى من سمات التعليم المتميز يجب أن يتمسك به من يتطلبون التطور ويسعون إلى النهضة، فليس كل من ذهب للدراسة في الخارج أصبح غريباً عن وطنه، فالعلم لا وطن له ولكن للعلماء أوطانهم في كل الظروف، وصدق أمير الشعراء عندما قال: وما نيل المطالب بالتمني ؞ ولكن تؤخذ الدنيا غلاباً.
جريدة إندبندنت العربية
https://www.independentarabia.com/node/27971/%D8%A2%D8%B1%D8%A7%D8%A1/%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B9%D9%84%D9%8A%D9%85-%D9%81%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%88%D8%B7%D9%86-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A