لا أظن أن هناك من يختلف معى كثيرًا فى أن السياسة الخارجية المصرية على المستويين الإقليمى والدولى تتمتع بدرجة عالية من المصداقية والتوازن، قد يصل بها إلى حد الحكمة والارتفاع عن روح المغامرة غير المحسوبة والاقتراب من الحصافة المطلوبة، فمصر وقفت دائمًا وكالعهد بها مع الشعوب ولم تنزلق إلى مواقف عابرة، ولم تتحمس لسياسات طارئة، فهى مع الشعب السورى ومع الشعب اليمنى ومع الشعب الليبى وهى المحاربة الأولى ضد الإرهاب، وهى الدولة التى تنهج أسلوبًا شريفًا فى التعامل مع أشقائها فى السودان كما كان هو الأمر فى العراق وكما قد يكون فى مناطق أخرى مثلما يحدث مع الشعب الباسل فى الجزائر، فمصر تؤمن بمبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية ولكنها تقف فى الوقت نفسه نصيرة لأشقائها من شعوب المنطقة دون أن تأخذ موقفًا مع أحد الأطراف ضد غيره، لأن مصر أكبر من ذلك بكثير فهى بحق (عمود الخيمة) فى غرب آسيا وشمال إفريقيا وهى الدولة الراعية للمبادئ الصحيحة والسليمة والمرعية للشرعية الدولية وقواعد القانون الدولى فى كل اتجاه، لقد كانت هذه مقدمة لازمة لكى أعبر فيها عن التوجهات الإيجابية للسياسة الخارجية المصرية التى يوجه دفتها الرئيس عبد الفتاح السيسى، ويقوم على تنفيذها وزير أصقلته التجارب وأضافت إليه المواقع الخصبة التى مر عليها، فكانت السياسة الخارجية المصرية بحق هى تعبير عن شخصية مصر ودورها التاريخى الذى التزمت به وسارت عليه، ولعلى أطرح هنا بعض الملاحظات المتصلة بهذا الموضوع الحيوى الذى يعنى كل المصريين بل وربما كل العرب أيضًا من أشقائنا فى رحلة التاريخ الطويل وواقع الجغرافيا الذى يفرض نفسه منذ عشرات القرون، وهنا نقول:
أولًا: إن العلاقات المصرية الأمريكية تتمتع بدرجة عالية من الندية والإحساس المتبادل بأهميتها وضرورة الارتفاع بها عن الأحداث العابرة أو الملاحظات الطارئة، ولقد تمكن السيسى ــ باعتداله وتوازنه - من ترويض الرئيس الأمريكى الجامح دونالد ترامب وفتح معه جسرًا متصلًا من الحوار الهادئ عبر القنوات الدبلوماسية حتى نجحت مصر إلى حد كبير فى الاحتفاظ بسيادتها الوطنية واستقلال قرارها الذى ينبع من ضمير شعبها، ونجحت فى إيجاد إطار مقبول للطرفين يمكن أن يضم اختلافات بين السياستين المصرية والأمريكية فى إطار من الاحترام المتبادل وإعمال مبدأ عدم التدخل فى الشئون الداخلية قدر الإمكان، وأنا أزعم هنا كمتابع للعلاقات المصرية الأمريكية منذ عدة عقود أن مصر تملك حاليًا درجة عالية من الندية وحرية الاختيار والتفرد بقرارها السيادى دون الاستجابة لضغوط أو إملاءات وفى الوقت نفسه دون أن تفتح جبهات غير مبررة لصراعات غير محسوبة.
ثانيًا: إن سياسة مصر الإفريقية قد أعادت ـــ ذلك البلد الكبير العريق الذى يقبع فى الزاوية الشمالية الشرقية للقارة الأم التى ينتمى لها ويرتبط بها ـــ جسور التواصل القوى وقنوات الارتباط الوثيقة بدول القارة، ولم تأخذ بنظرة مصلحية تقف عند حدود دول حوض النيل بل امتد اهتمامها ليشمل كل الأشقاء فى القارة شرقًا وغربًا وشمالًا وجنوبًا، وعندما آلت إليها رئاسة الاتحاد الإفريقى فى دورته الحالية فإن مصر تحاول توظيف دورها التنموى خصوصًا فى جانب الرعاية الصحية لتقتلع جذور الأمراض التى يعانى منها الأشقاء الأفارقة، ولعل نموذج مكافحة (فيروس C) فى عدد من دول القارة هو تأكيد لهذه الزاوية الإنسانية من زوايا الاهتمام المصرى بالقارة الإفريقية وهو امتداد لدور تحررى مارسته القاهرة تجاه أشقائها، وها هى تكمل هذا الدور بالتوجه التنموى الذى تقوده حاليًا.
ثالثًا: لقد وقفت مصر مع الشعوب ولم تخضع لضغوط حكومات، وأنا أظن أنها قد اتخذت أكثر المواقف شرفًا تجاه الدولة العربية الأبية سوريا الشقيقة باعتبارها معقل المد القومى والتوجه العروبى، حيث راهنت مصر فقط على الشعب السورى واستغرقت بشدة فى الدفاع عنه ومحاولة رفع المعاناة التى أحاطت به من كل جانب حتى إن الدبلوماسية المصرية وافقت على قرارين مختلفين فى يوم واحد داخل مجلس الأمن لسبب بسيط وهو أن عاملًا مشتركًا كان يجمع بينهما ويدور حول أسلوب رفع المعاناة عن الشعب السورى صاحب التاريخ الطويل، وقديمًا قال أمير شعرائنا (وعز الشرق أوله دمشق).
رابعًا: لم تتورط مصر كثيرًا فى الخلافات العربية - العربية التى فرضت عليها ولم تتحول إلى منبر دعائى ضد بعضها إلا بالقدر الذى تستلزمه المواجهة مع من يتدخلون فى شئونها ويقومون بإيواء الإرهابيين وتمويلهم وضمان الملاذ الآمن لهم رغم كل ما فعلوه وما يفعلونه ضد الشعب المصرى الصامد والشعوب الشقيقة التى ابتلاها الله بصراعات دامية، لأن الإرهاب زرع فى أحشائها عناصر لا تريد أن تتوقف عن تمزيق الدولة الوطنية وتفتيت الوحدة الإقليمية لشعوب المنطقة.
خامسًا: لقد نظر السيسى ومعه الجهاز الدبلوماسى المصرى العريق صوب الشرق وحط رحاله فى العاصمة الصينية بكين وتجاوز ذلك إلى التجربتين اليابانية والهندية، مؤمنًا بأن التقدم ليس بالضرورة أحادى المصدر وأنه لا يأتى من الغرب وحده بل إن التجارب الشرقية الكبرى خصوصًا فى القارة الآسيوية يمكن أن تكون مصدر إلهام للتحول المصرى الضخم نحو الدولة العصرية الحديثة، كما نجحت الدبلوماسية المصرية فى الاحتفاظ بعلاقات ممتازة مع روسيا الاتحادية ومضت فى ذلك إلى حد التعاون المشترك فى مشروعات كبرى ترتبط بالكبرياء الوطنى المصرى والكرامة المستمدة من دخول العصر النووى ولو بعد حين، ولعلى أضيف هنا أن علاقات مصر بدول أوروبا الغربية خصوصًا فرنسا وألمانيا ومعهما حاليًا إيطاليا أيضًا هى علاقات متميزة رغم كل الشوائب التى اعترتها ووقفت فى طريقها، ونضيف هنا ذلك التعاون المشترك الذى يستجيب لنداء الجغرافيا والتاريخ وأعنى به العلاقات الوثيقة بين مصر وكلٍ من اليونان وقبرص حراسًا لشرق حوض البحر المتوسط ومياهه الإقليمية فى مواجهة أى عدوان قد يقوم به طرف آخر بدعوى البحث عن مصادر الغاز فى أعماق البحر معتديًا على الحقوق الإقليمية لأطراف مجاورة.
تحية للسلك الدبلوماسى المصرى والأجهزة السيادية التى تعاونه وتدعمه وتقف معه فى خندق واحد من أجل وطن نعتز به ونفاخر بالانتماء إليه ونمضى وراء مصالحه عبر المحيطات ووراء البحار وفى أعماق الصحارى.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/713531.aspx