بدأت صوم رمضان فى طفولتى، وكان يأتى فى ذلك الوقت مع بداية الصيف، وبعد تناول طعامالإفطار كنا نقبل على فاكهة البطيخ البارد ليروى عطش اليوم ويعطى إحساسًا بالانتعاش ويعوض السكر المحترق فى الجسم على امتداد ساعات النهار، وقد وقر فى ذهنى فى تلك السن الصغيرة أن فاكهة البطيخ لا تأتى إلا فى رمضان وأنها مرتبطة بالصيام!، ولما دار الفلك دورته وتحرك شهر رمضان ليأتى فى الشتاء اكتشفت اختفاء فاكهة البطيخ من موائد الإفطار وبدأ عقلى الصغير يفكر فى دورية التوقيت الهجرى الذى يحرك المناسبات من طقس إلى آخر، فالأشقاء المسيحيون يحتفلون بعيد الميلاد شتاءً فى نصف الكرة الشمالى من الأرض، وذلك أمر ثابت لا يتغير، كما يحتفلون بعيد القيامة مع مطلع الربيع غالبًا، ثم يحتفل المصريون جميعًا- مسلمين وأقباطًا- بيوم شم النسيم، وهو العيد الوحيد الذى لا يختلف عليه المصريون بسبب الدين أو السياسة أو الثقافة لأنه عيد فرعونى تأصل فى تقاليد الأسرة المصرية وتجذر فى حياتنا.
وعندما كان رمضان يطل علينا فى شهور الصيف الحار خلال السنوات الأخيرة كان يعصف إلى حد كبير بالموسم السنوى للاصطياف، ولو أن رمضان بطقسه الصيفى فى هذه الدورة الزمنية يحتاج إلى جو جاف وهواء منعش وابتعاد عن الرطوبة اللزجة لمَن يفتقرون إلى الماء ويحلمون بالطعام، وبمناسبة دوران السنة الهجرية على كل الفصول فإننا كنا نتندر أحيانًا ونضع من بين أسئلة الثقافة العامة سؤالًا نوجهه إلى أبنائنا عن السنة التى تصادف فيها الاحتفال بالمولد النبوى الشريف فى شهر رمضان، وكثيرًا ما وقع الكثيرون فى شرك هذا السؤال، وبدأوا يتحدثون عن سنوات بعينها، والإجابة الصحيحة أن الأمر مستحيل لأن ميلاد النبى، صلى الله عليه وسلم، يأتى فى شهر ربيع الأول، وهو شهر هجرى مثلما أن رمضان شهر هجرى آخر، كذلك فإن موسم الحج يأتى فى الأجواء الحارة سنوات وفى الأجواء الباردة سنوات أخرى، ولكن التقويم القبطى يبدو أكثر دقة من الهجرى والميلادى معًا لأنه يُعتبر تقويم الفلاح منذ العصر الفرعونى، ويكاد لا يخطئ فى العلاقة الزمنية للطقس مهما كانت الظروف والأحوال، حتى إن كل شهر قبطى يرتبط فى الثقافة الاجتماعية بجو معين وطقس محدد، فشخصية شهرى «طوبة» و«أمشير» الباردين تختلف من حيث تركز الرياح العاصفة فى أمشير، ويعرف السكندريون تتابع «النوات» باليوم، وفى دقة مدهشة، وأنا أشعر بارتياح عندما أرى ذكر تاريخ هجرى مقترنًا بنظيره الميلادى، بينما يبدو الأمر صعبًا عند الاحتفاء بالتقويم الهجرى أو القبطى دون الميلادى لأن الميلادى هو التقويم الأكثر شيوعًا وارتباطًا بالعصور الحديثة ويسمى بالتقويم (الجريجورى)، ولعلنا نلاحظ أن ارتباط المناسبات الدينية بالتاريخين الميلادى والهجرى ليس محددًا بدقة، فالاحتفال بميلاد السيد المسيح يختلف بين الطوائف المسيحية، فهو لدى (الكاثوليك) فى الخامس والعشرين من ديسمبر، ولدى (الأرثوذكس) المصريين هو السابع من يناير، وما بينهما تتأرجح كنائس (الأرمن) وطوائف أخرى، والأمر ذاته ينسحب على رؤية شهر رمضان المعظم، إذ يختلف الأمر بين الدول الإسلامية فى شأن ظهور هلال شهر الصيام، وقد يفرق الأمر يومًا وأحيانًا يومين، ولكن الدول الإسلامية توفق أوضاعها مع شهر ذى الحجة لأن موسم الحج موحد لدى جميع المسلمين، ولا يمكن الاختلاف فى شعائره لأن الوقوف على «عرفات» له وقت محدد، وهو جوهر الحج والحدث الأهم فى ذلك الركن من أركان الإسلام الحنيف، ولعل الاختلاف فى التقاويم والتواريخ هو من طبيعة الحياة، فالتعددية مكون أساسى للوجود.
وكأنما أراد الله أن يثبت للجميع أنه لو شاء لجعلنا أمة واحدة، ولكنه رأى بجلاله وحكمته أن التنوع سُنة كونية ورؤية إلهية اختص بها ذاته، فحتى ليلة القدر ليست محددة إلا بالخصائص العامة كواحدة من الليالى الفردية فى العشر الأخيرة من شهر رمضان، بل إن جعل ارتباط صيام ذلك الشهر المبارك بالفترة ما بين طلوع الفجر وغروب الشمس هو تأكيد آخر على احترام الاختلاف الجغرافى والعرقى بين الأمم والشعوب، ومازلت أتذكر من خدمتى فى لندن- فى مطلع شبابى- أن الإفطار كان يحل علينا فى شهور الصيف قرابة العاشرة مساءً، وبعد أن ينتهى المصريون فى الداخل من إفطارهم ربما بثلاث أو أربع ساعات كاملة.. ألستم معى فى أن لحظات الصفاء أثناء الصيام تفتح أبوابًا للتأمل والتفلسف والتماس الحكمة؟، إنها بحق رمضانيات!
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1399091