لا أعرف شعبًا على الأرض اختلطت لديه المفاهيم الدينية بالمظاهر الحياتية مثلما هو الشعب المصرى، فلقد اكتشف المصرى القديم فلسفة الإيمان منذ فجر التاريخ وبدأ يلح عليه لغز الموت بدلالاته المفجعة ومفاجآته المباغتة، ففكر ذلك المصرى العبقرى فى الحياة الثانية وجعلها محور حضارته المبكرة فشيد الأهرامات واكتشف التحنيط وسعى لتوفير مقتنيات الحياة لكل عظيم راحل إيمانًا بأن عودته سوف تقترن باحتياجات الحياة الأولى، كما ظهرت الديانات القديمة التى تعبر عن رؤية للعلاقة بين الحياة والموت رغم أن تلك الديانات كانت وثنية إلا أنها كانت تتطلع إلى اكتشاف ما هو أبعد من ذلك، فاستشرف المصرى القديم مرة أخرى فكرة التوحيد على يد «إخناتون» الذى رأى أن «آتون» إله الشمس هو القابض على أعنة السلطة الإلهية ثم تعاقبت بعد ذلك ديانات أبناء إبراهيم اليهودية والمسيحية والإسلام فى نسق تاريخى متتابع مبشرة بنظرية الإله الواحد وداعية إلى مزيد من الإيمان به وعبادته وفقًا لأسلوب كل ديانة والبيئة التى ظهرت فيها والمناخ الذى جاءت منه، ولقد ردد بعض الملحدين أن الدين اختراع مصرى اكتشفه ابن النيل على ضفافه نتيجة التأمل الدائم والتفكير المستمر فى فلسفة الحياة وحكمة الموت، وإذا أردنا أن ننتقل إلى عصرنا الراهن فسوف نجد أن طقوس الدين تطغى على فلسفة الإيمان وأننا متعلقون بشكلية الشعائر دون جوهر المعتقد، فالمسلم عمومًا والمصرى خصوصًا يتحدث عن الحرام والحلال صباح مساء بينما هو يدمن الكذب غالبًا والادعاء دائمًا ولا يأخذ من جوهر الدين ما يجب لكنه يلتقط من قشوره ما يريد وتلك هى محنة الإسلام الحقيقية التى برزت من سلوك المسلمين فى القرون الأخيرة حتى تضاربت أمام الإنسان العادى المشاعر الدينية مع السلوك الدنيوى فأسرف المسلم المصرى على نفسه فى رحلات الحج والعمرة مضيًا وراء المعتقد بأن التواصل مع الله سبحانه وتعالى يكون بهذا التدين الشكلى حتى وإن غاب الإيمان الحقيقى، وينفق المصريون عشرات المليارات كل عام فى طقوس لا بأس بها ولا اعتراض عليها لكنها لا تصب فى نهاية الأمر بخانة الأخلاق ولا مدونة السلوك الإنسانى اليومى، وهنا نسجل الملاحظتين التاليتين:
أولا: إن اكتشاف تدين المصريين ليس أمرًا جديدًا، فلقد نصح «الإسكندر الأكبر» مستشاروه بأن يذهب إلى «معبد آمون» وأن يعلن نفسه ابن الإله إذا كان يريد رضاء المصريين وقبولًا لمحاولته بناء إمبراطورية فى الشرق تصل إلى بلاد فارس وتكون قاعدتها فى مصر، وقالوا له إن الطريق إلى قلوب المصريين يمر بدياناتهم، والغريب أن ذات الأمر قد حدث مع «نابليون بونابرت» عند وصول حملته الشهيرة إلى مصر حيث غازل هو الآخر دينهم الإسلامى وتحدث بأنه مؤمن بما يعتقدون فى محاولة منه لكسب الرأى العام وإيجاد حد أدنى من القبول بالغازى الفرنسى فوق أرض الكنانة، هكذا توهم الغزاة والطغاة أن الدين فى مصر هو مفتاح الحياة.
ثانيًا: إن نمط حياة المصريين- قديمه وحديثه- يتمحور تلقائيًا حول شكليات التدين وطقوسه المختلفة، ولقد أسهمت الدولة الفاطمية التى وصلت إلى مصر من شمال إفريقيا فى تكريس أسلوب للحياة مازلنا نراه مسيطرًا خصوصًا فى شهر رمضان من كل عام حيث الإسراف فى الطعاموسهر الليالى وإدمان الأطعمة التى تستهلك نسبة عالية من الاحتياطى السنوى للسكر، فلقد تحول شهر رمضان لدينا إلى شهر يعمل فيه المسلمون نصف الوقت ويستهلكون ضعف الشهور الأخرى.
هذه هى خصائص التدين المصرى كما تحيط بنا فى كل اتجاه وتجعل للتدين حجمًا ضخمًا لا يعكس حقيقة الإيمان أو الالتزام بصحيح العقيدة لذلك فإننا ندعو إلى مزيد من الدراسات السلوكية التى تدور حول تفسير الظواهر التى نعيشها فى ظل تدين زائد وانحطاط أخلاقى واضح، إنها معادلة مزعجة تحتاج فهمًا آخر لصحيح الدين وسلوكًا أفضل فى الحياة حتى تستقيم لنا الدنيا كما أرادها الله عندما استخلفنا فى الأرض وبشر بنا خير أمة أخرجت للناس!
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1400958