لن أغوص مع القارئ فى تفسير المصطلحات أو تحديد الفروق بين الدولة والوطن والشعب والأمة، فالدولة تعبير دستورى له طابع قانوني، والوطن تعبير عاطفى له طابع أدبي، والشعب تعبير سلوكى له طابع اجتماعي، أما الأمة فهى تعبير جامع مانع يحتوى دولة أو دولًا، ووطنًا أو أوطانًا، وشعبًا أو شعوبًا، فكلمة الأمة ذات مدلول ثقافى ومؤشر حضارى يتجاوز بالضرورة الفروق الفرعية والتفاصيل الجزئية، إن الأمة تعبير إنسانى رفيع يعنى حدًا أدنى من التجانس الثقافى والانصهار الاجتماعى والتلاحم الإنساني، فإذا كانت مصر تنتمى ثقافيًا ـــ بالتاريخ والجغرافيا ـــ للأمة العربية فإنها فى ظنى يمكن أن تنهض أيضًا وحدها باستحقاق واضح لتعبير الأمة وعندما رفعت الثورة الشعبية عام 1919 بقيادة سعد زغلول تعبير (الأمة المصرية) كانت مستحقة له مرتبطة به، وقد كنت أتحرج ــ وأنا ابن جيل تربى على مدارج القومية العربية وعاش فى مضارب العروبة فكرًا وثقافة وسياسة ـــ من استخدام تعبير الأمة المصرية وكنت أراه خصمًا من الانتماء العروبى لهذا الوطن، وذات يوم كنت أتابع (التلفاز) الذى كان ينقل الاحتفال الرسمى بتنصيب العماد إميل لحود رئيسًا للبنان منذ قرابة عقدين من الزمان ووجدته يستهل خطابه بتوجيه الحديث إلى (الأمة اللبنانية) ، وعندها قلت لنفسى ( رُفِعَ الحرج وتوقفت الحساسية واستراح سعد زغلول فى قبره)!، فتعبير الأمة المصرية مجاز فى التاريخ والواقع معًا ولا يتعارض بالضرورة مع انتماء أكبر للأمة العربية أو الأمة الإسلامية أو المنظومة العالمية، ولعلى أطرح دوافعى لطرق هذا الموضوع من خلال النقاط التالية:
أولًا: اكتسب تعبير الأمة دلالات ذات خصوصية حتى أصبح مرجعها فى القرن العشرين هو مفهوم (الأمة الألمانية) كما ورد فى فكر (نيتشه) من خلال حديثه الذى وجهه إلى أمته هو وغيره من الفلاسفة الألمان خصوصًا أولئك الذين تحمسوا للفكر النازى وأصابتهم نزعة (شيفونية) تؤدى إلى إعلاء قومية بعينها على غيرها وتعطى إحساسًا بالتفوق لجنس بذاته، ولا شك أن هذا المفهوم العنصرى لمفهوم الأمة هو أبعد ما نفكر فيه وليس واردًا فى خاطرنا ونحن نتحدث عن مفهوم الأمة بمدلولها العصرى ومعناها الصحيح، فالأمة كيان إنسانى يتفاعل مع غيره ولا يعيش بالاستعلاء أو بمنطق العزلة، والأمة المصرية تحديدًا تفاعلت عبر التاريخ بحكم موقعها الجغرافى والحضارات التى تعاقبت عليها وتفاعلت معها وتجاوبت مع تأثيرها أخذًا وعطاءص بلا استغراق فى (شيفونية) ذاتية أو عنصرية حمقاء.
ثانيًا: لا تستطيع كل الدول أن تتحدث عن أنها أمة إذا افتقدت التجانس السكانى والانصهار القومى لذلك فإننا نرى أن تعبير الأمة لا ينطبق تمامًا على دول مثل الولايات المتحدة الأمريكية أو حتى جمهورية الهند بسبب التعددية الزائدة وغياب روح الاندماج الكامل، فالديانات واللغات والأعراق حين تتباين فإنها تؤثر سلبًا على مفهوم الأمة، وفى ظنى أن الولايات المتحدة الأمريكية والجمهورية الهندية وغيرهما من الكيانات الكبرى فى العالم مدينة فى وجودها (لنظرية الضرورة) أى إحساس الولايات المختلفة والوحدات المتعددة بأن فى الاتحاد فائدة لها وأن التقسيم فى غير صالحها لذلك فإن مدلول الأمة يرتبط لديها بهذا المعنى.
ثالثًا: إن المفهوم المصرى لتعبير الأمة إنما ينبع من التاريخ الطويل والحضارات المتعاقبة التى تأثرت وأثرت فى مصر حتى أصبح الشعب المصرى سبيكة فريدة أصولها متعددة ولكن نسيجها واحد، فمصر دولة قادرة على امتصاص التقاليد فضلًا عن قدرتها على استيعاب العناصر الوافدة إليها وصهرها فى بوتقة واحدة ينتهى بها المطاف إلى الشخصية المصرية كما نعرفها، ولذلك فإن الحديث عن مصر كأمة هو حديث مستمد من المواجهات الطويلة ضد الغزاة والطغاة والبغاة، إنها مصر التى طوعت التاريخ واستفادت من الجغرافيا واستقبلت فى رحابة كل الوافدين إليها أو القادمين إلى أرضها الطيبة لأن فلسفة الاحتواء ونظرية الاستيعاب ترتبطان بالتاريخ المصرى فى كافة مراحله، ويكفى أن نتذكر أن الشعب المصرى وحده ــــ والهنود أيضًا بدرجة أقل ـــ ينظر إلى الأجنبى القادم نظرة إعلاء واحترام وليست نظرة دونية كما تفعل كثير من الشعوب تجاه الأجانب، إن تعبير الأمة لدى المصريين هو تعبير راقى وليس فيه شبهة استعلاء أو مسحة عنصرية.
رابعًا: إن المصريين حين رفعوا شعارهم التاريخى فى الربع الأول من القرن الماضى وهو شعار (مصر للمصريين) كانوا يرددون ذلك فى سياق مقاومة الاحتلال ورفض الوجود الأجنبى وليس موقفًا عامًا منهم تجاه كل الشعوب أو كافة الأجانب، ولقد سرى ذلك الشعار سريان النار فى الهشيم وتلقفته الحركة الوطنية لكى يكون تأكيدًا لوحدة الشعب وتماسك طوائفه وفئاته على نحو غير مسبوق فى التاريخ الوطنى للمصريين، ولذلك فإننا نظن أن صك تعبير الأمة المصرية مرتبط بالدرجة الأولى بتاريخ الحركة الوطنية وربيعها الرائع فى ثورة 1919 التى وحدت أبناء الشعب المصرى وسمحت لنا باستخدام تعبير الأمة المصرية.
خامسًا: لقد ذكر الرئيس عبد الفتاح السيسى فى إحدى خطبه الأخيرة أن مصر تبدو وكأنها (شبه دولة)، وهى بالطبع عبارة صادمة ولكن الرئيس كان يقصد منها تصوير الحالة المتردية التى وصل إليها الاقتصاد الوطنى بعنصريه الإنتاج والخدمات كما كان يريد أن يوضح حالة التجريف التى تعرض لها الوطن المصرى فى العقود الأخيرة، وفى ظنى أن اللجوء إلى تعبير الأمة المصرية هو مخرج طبيعى من أجل بناء الدولة وتقوية دعائمها والخروج بها من عنق الزجاجة والمأزق الذى تعيش فيه بفعل تراكم الأخطاء وتعدد المشكلات والأزمات المحيطة بها.
إن (الأمة المصرية) تعبير أدعو إليه وهو لا يتناقض مع عروبة مصر ولا دياناتها, بل ينسجم مع تاريخها ويتواءم تمامًا مع عبقرية الزمان والمكان والسكان!
د. مصطفي الفقي;
جريدة الأهرام العدد 47286
تاريخ النشر: 24 مايو 2016
رابط المقالة: http://www.ahram.org.eg/NewsQ/516458.aspx