سوف تظل الأستاذة «سناء البيسى» كاتبتى المفضلة والتى يشاركنى في التعلق بما تكتب مئات الألوف من القراء، فقد حباها الله قدرات متميزة تبدأ من عمق البحث العلمى والقدرة على التأصيل الفكرى مرورًا باللغة المتميزة والعبارات الرصينة وصولًا إلى معلومات من روافد المعرفة عند منابعها، إنها سيدة تركت بصمات قوية على الصحافة والفن والأدب وقدمت نفسها لأجيال وأجيال معبرة عن طراز خاص في الكتابة التي يمتزج فيها التاريخ بالأدب والفكر بالفن والسياسة بالثقافة، ولقد أصدرت كتبًا عدة كان آخرها هو ذلك الذي ربطت بين عنوانه وبين مفهوم اليقين، ولابد أن أعترف هنا بأننى أقدر بشكل خاص ثقافتها الموسوعية فهى تضرب بسهم وافر في تاريخ الحضارة العربية الإسلامية وتهتم بتاريخ الأدب المصرى الحديث وترتبط بمهنتها الصحافة ارتباطًا تبدو منه ملامح العشق وسمات الهوى.
وإذا تعرضت لأدب السير فأنت أمام نمط فريد في الكتابة لا نكاد نجد له مثيلًا في تاريخنا الحديث فهى تجمع الشتات وتربط بين الأحداث في نسق يبدو كأنغام الموسيقى أو رسوم الفرشاة، ولا شك أن تفوقها في الفنون التشكيلية، فضلًا عن أن تذوقها للآداب الرفيعة والثقافة الرحبة قد أعطاها زخمًا خاصًا في التعرف على الأشياء وفى فهم الشخصيات وقدرة واضحة على التفتيش في العقليات ومتابعة تاريخ الأفكار، ولأنها اقترنت بفنان عظيم هو «كنعان» وعايشت مدارس الصحافة المصرية من «مصطفى أمين» و«على أمين» إلى «هيكل» و«أنيس منصور» وصولًا إلى غيرهم من نظار المدارس الصحفية في تاريخنا الحديث لذلك اكتمل لها شأن لم يكتمل لغيرها وأصبحت لها مكانة لم يصل إليها سواها، نلتقى بها كل عام في معرض لرسوم زوجها الراحل وتقف هي وابنها وقفة تأمل أمام ذلك الميراث الفنى الذي تركه «كنعان» ولكن الذي يلفت النظر في شخصية «سناء البيسى»- وهو ما ظهر جليًا في كتابها الأخير- أنها مؤمنة إلى حد التصوف، مسلمة في اعتدال لأنها تدرك الفارق بين الغث والثمين وتقدم للقارئ كل أسبوع باقة زهر متعددةالألوان دانية القطوف كأنها قد جاءت من كل بستان بزهرة، وأنا شخصيًا من قرائها عبر السنين وعندما احتجبت لعدة أسابيع منذ فترة غير بعيدة شعرت، ومعى كل عشاق قلمها، أن شيئًا ما ينقصهم وأن إطلالة سناء البيسى التي احتجبت لابد أن تعود طاقة نور وبؤرة ثقافة وإشعاع فكر، وهنا أطرح ملاحظتين: الأولى: أن سناء البيسى لم تعتمد على مفهوم الأدب النسوى وأنا ممن يظنون أن الأدب واحد كما أن الفكر لا يتجزأ كذلك فإن المعرفة لا يمكن تمزيقها تحت وطأة فوارق الجنس أو اللون أو المستوى الاجتماعى أو غيرها من الاختلافات بين البشر لذلك فإن سناء البيسى تحلق في فضاء يعلو على كل التقسيمات ويعلن نفسه أدبًا راقيًا وفكرًا صافيًا يعتز به كل الناطقين بالعربية.
الثانية: إن المزج بين الصحافة والأدب، بين تاريخ الأحداث وتتبع الأفكار، بين عبق التاريخ ورائحة الماضى وهما يستقبلان رياح المستقبل وأجواء الحاضر، إن ذلك كله يجعلنا أمام شخصية تستحق التكريم ولا تكفيها الإشادة وأنا أدهش أن جوائز الدولة تذهب أحيانًا لغير مستحقيها وتتخطى مواهب نادرة وشخصيات لها وزنها لتسعى وراء أصحاب الشهرة الزائفة والنجوم الذين تفرضهم المناصب وتأتى بهم المواقع، ومازلت أتذكر أن رئاسة سناء البيسى لتحرير مجلة «نصف الدنيا» قد قفزت بتلك المجلة قفزة كبيرة وجعلتها مجلة كل بيت ورفيقة القراء- رجالًا ونساءً- لأن الأدب كما قلنا لا يختلف وفقًا لمصدره ولا يتجمد عند من يقدمونه.. تحية لسناء البيسى التي تنقل الناس في رحلة رائعة من ضباب الشك إلى مدارج اليقين ومن صحراء الشتات إلى مرفأ المؤمنين.. تحية لها في يوم عيد يأتينا بكل جديد لتبقى هي أيقونة لا ينتهى دورها ولا يغيب إشعاعها ولا يتوقف قلمها!
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1402755