لا نكاد نرى فى عالمنا المعاصر أمة جرى استغلالها واستنزاف معظم ثرواتها مثلما هو الأمر بالنسبة للأمة العربية، والسبب ببساطة أنها رضيت أن تعيش خارج دائرة العصر وأن تقبل بما لم يقبل به غيرها، إنها الأمة التى تتغنى بالأمجاد ولا تكاد تدرك أن الدنيا تجرى وأن معطيات اليوم هى تراث للغد، فلم يعد ممكنًا أن يتوهم البعض أن حالة الثبات هى محافظة على الواقع واستسلام له، إذ إن الأمر مختلف تمامًا، فحالة الثبات مستحيلة تمامًا فى حالة العوم ضد التيار حيث يستحيل تحقيقها، ونحن العرب نجدف دائمًا ضد التيار، فالواقع يختلف كثيرًا عن التصورات التى سبقت والأحلام التى مهدت إليه والرؤى التى نجمت عنه، فنحن أمة عانت طويلًا التدخل الأجنبى والنفوذ الخارجى وسطوة القوى الاستعمارية على امتداد القرون الماضية، ومع ذلك فإنه لا توجد لدينا طاقة سلبية للكراهية تجاه من أساءوا إلينا، بل إننا نشعر أحيانًا بأن ما جرى لنا هو جزء من تاريخنا الذى لا مناص منه ولا نكوص فيه، ولعلى أبسط أمام القارئ عددًا من الملاحظات المتصلة بالقضايا العربية الجوهرية وما جرى من استنزاف لثروات البلاد ومؤشرات الوعى القومى فيها: أولًا: إن تاريخنا الحديث ليس منفصلًا عن تاريخ العالم حولنا، فهناك شعوب أخرى وأمم متعددة واجهت موجات التخلف والقهر مما أدى بها إلى الغياب عدة قرون من صفحات التاريخ وتاهت فى مجاهل ظروف معقدة، لقد عرفت الصين (حرب الأفيون) واستغرق الهنود فى (مسيرة الملح)، أما نحن العرب فقد وقعنا أسرى للعنتريات ومضينا فى التغنى بالأمجاد وترديد الأشعار والأذكار عبر عصور مظلمة، وقبلنا أحيانًا سطوة الأجنبى ونفوذ الدخيل فتكونت لدينا مركبات نقص تعمقت جذورها فى أحشاء الأمة وضمير شعوبها فأصبحنا نقبل ما لا يقبله غيرنا ونرضى بما رفضه سوانا، وعندما هبطت الثروة النفطية أحدثت فجوة كبيرة بين أقطار الأمة وأثارت الأطماع فينا، إلى أن جرى غرس إسرائيل فى قلب الخريطة العربية كمرصد دائم يستنزف قدرات العرب ويحول دون تفرغهم لتحدى البناء الحضارى والبحث العلمي، وهنا تكونت الهوة السحيقة التى فصلت بيننا وبين الأمم المتقدمة والدول الناهضة، إنه مركب استعمارى بالدرجة الأولى ولكن تاريخنا الثقافى سمح له بأن يمضى ليكبل الإرادة العربية ويعوق الفكر القومى ويجعلنا نرضى بأوضاعنا المتخلفة على اعتبار أن ذلك هو قدرنا الذى يجب أن نرضى به ونتعايش معه.
ثانيًا: يجب أن نعترف بأن فهمنا المغلوط لعقيدتنا الدينية ــ بكل جلالها وعظمتها ــ قد أدى بنا إلى حالة من العزلة والهجرة الزمانية لعصور ماضية نفتش فيها عن فقه (ابن تيمية) و(ابن حزم) وغيرهما من فقهاء القرن الثالث الهجرى وغيره دون أن ننتبه لبساطة الإسلام واتساع الآفاق فى روحه السمحاء ومقاصد شريعته الغراء، ثم وفدت علينا من داخلنا موجات إرهابية حاولت توظيف الإسلام السياسى لخدمة أهداف لا تمت للإسلام وللعروبة ولا للإنسانية بصلة، وكان قدر دولة مثل مصر أن تواجه ذلك التحدى الجديد والخطير ببسالة فى ظل ظروف اقتصادية ضاغطة وأوضاع إقليمية معقدة ومجتمع دولى يكتفى دائمًا بالإدانة والشجب! بل إن بعض أطرافه تصب جام غضبها على السياسة المستقلة للدولة المصرية بدعايات كاذبة وحصار إعلامى لا أخلاقى لكل منجزات الإنسان المصرى فى ظل هذه الظروف الصعبة والمعاناة الضاغطة، لذلك فإن فهمًا صحيحًا للإسلام الحنيف يمكن أن ينتقل بنا إلى مرحلة أفضل نواجه فيها أعداءنا ونتصدى لمن يستهدفون الدولة المصرية ويستهدفون معها بالضرورة الكيانات العربية الأخرى فى محاولة لاغتيال الروح القومية والقضاء على أى محاولة جادة للصحوة مستغلين ظروفًا خارجية وأوضاعًا داخلية لزرع الإحباط ونشر روح اليأس وتقزيم كل الإنجازات والتهويل فى بعض السلبيات، إنه صراع بين الحياة والموت، بين البقاء والفناء.
ثالثًا: إن أصداء عصور الظلم والظلام فى تاريخنا مازالت تطفو أحيانًا على السطح، وأنا أحيانًا أشعر بأن هناك مواريث مملوكية وأخرى عثمانية تحرك مسيرتنا وتؤثر فى أفكارنا، فمازالت قيمة الفرد العربى محكومة بأطر طبقية موروثة لا تتعلق فقط بمن يملكون ومن لا يملكون ولكنها تتعلق أيضًا بمن يعرفون ومن لا يعرفون، فنحن لم نستوعب تمامًا الأطروحات العصرية التى تتحدث عن ضرورة التهيؤ لما هو قادم، إذ إننا أمام انقلاب فكرى كبير وتطور تقنى كاسح، فنحن ندخل عصر الذكاء الاصطناعى فى جزء منا بينما لا يزال بعضنا غارقين فى عصور الغباء التحكمى الذى يطوق حياتنا! وهذا التفاوت فى الرؤية والاختلاف فى القدرة على التحليل والتفسير قد أصبح يؤدى بنا ـــ عربيًا وإسلاميًا ـــ إلى حالة من الانقسام فى الوعى والتفاوت فى الإدراك، حتى أصبح الحديث عن (خير أمة أخرجت للناس) شعارًا لا يمت للواقع بصلة ولا يرتبط بما هو قائم، لذلك فإننا نظن أن فهمنا لأنفسنا وتحليلنا لتاريخنا وتصورنا لمستقبلنا فى ظل كل التطورات الهائلة التى يشهدها العالم المعاصر يؤكد أن هذه الأمور هى الكفيلة بالخروج مما نحن فيه ولو بعد حين. هذه قراءة عاجلة فى دفتر أحوالنا الذى يشير إلى الجهد الكبير الذى نبذله ويشير أيضًا إلى التحديات الهائلة التى تواجهنا، وهو أيضًا يحاول القضاء على زراعة اليأس والاستغراق فقط فى جلد الذات دون أن يكون هناك تحرك إيجابى يستند إلى وعى الأمة ليدفعها إلى الأمام ويمضى بها نحو غايات واضحة وأهداف محددة للقضاء على الهوة وتجسير الفجوة بين أحلام العرب وصدمات الواقع.
جريدة الأهرام
http://www.ahram.org.eg/NewsQ/715535.aspx