لا أرتاد دور السينما إلا قليلًا، وقد تمر أعوام لا أشاهد فيها فيلمًا فى إحدى دور العرض، ولكنى سمعت كلامًا طيبًا وإشادة موضوعية عن فيلم (الممر) الذى يقدم شريحة صادقة لواحدة من أعظم حروبنا وأكثرها شراسة، وأعنى بها حرب الاستنزاف التى بدأت بمعركة «رأس العش» بعد أيام قليلة من هزيمة «5 يونيو»، ثم تلتها صفحات مطوية من البطولات الخالدة والأعمال المجيدة للجيش المصرى، فى ظل أحلك الظروف وأصعب الأوقات، وفى ظنى أن «حرب الاستنزاف» سوف تظل وسامًا على جبين القوات المسلحة والشعب المصرى كله، لأنها أثبتت التلاحم العضوى بين الجيش والشعب، فقد كانت إسرائيل تضرب فى العمق وتكثف غاراتها على المدارس والمصانع والمواقع الاستراتيجية للإنتاج، وهل ننسى «بحر البقر» والشهداء الأطفال؟ وهل ننسى ضرب «الزيتية» غرب القناة؟ وهل ننسى التصرفات العدوانية التى مارستها ضد المدنيين فى كل بقاع مصر؟ إننا لا نتذكر ذلك إلا ونتذكر معه البطولات الخالدة للجيش المصرى وعمليات العبور الفردى للقناة، فى ملاحم يجب أن تتعلمها الأجيال الجديدة من أولئك الأبطال الذين وصلوا خلف خطوط العدو وقتها واستطاعوا أن يكبدوه أكبر الخسائر، فى وقت كانت فيه كل الدراسات تؤكد أن الجيش المصرى لا يمكن أن تقوم له قائمة قبل خمسين عامًا على الأقل، إنها ذكريات أثارها ذلك الفيلم الرائع الذى أتحدث عنه والذى يعد فى نظرى نقلة نوعية فى السينما المصرية، حتى إننى لاحظت أن كثيرًا من الآباء والأمهات يأخذون أولادهم لرؤية ذلك الفيلم، تعزيزًا لمشاعرهم القومية وترسيخًا للروح الوطنية لديهم، ويهمنى هنا أن أسجل الملاحظات الآتية:
أولًا: إننا لم نتمكن حتى الآن من القيام بعمل درامى فنى كبير يجسد ملحمة حرب أكتوبر وتركنا للطرف الآخر أن يدس سمومه فى أفلام يجرى تصديرها للخارج على نحو يشوه صورتنا وينزع أمجاد العبور عنا، لذلك فإن فيلم الممر، الذى يجسد المرحلة الواقعة بين الهزيمة والنصر، هو فيلم يلقى ترحيبًا شديدًا وحفاوة بالغة.
ثانيًا: إن القيمة الحقيقية لحرب الاستنزاف أنها حرب عسكرية وشعبية فى الوقت ذاته، كما أنها تعبير عن إرادة المصريين فى الثأر للهزيمة، ويكفى أن الجيش المصرى الباسل استطاع أن يجمع شتاته وأن ينظم صفوفه فى فترة وجيزة خرج منها إلى ساحة القتال بعد أقل من عشرة أيام من هزيمة 5 يونيو، مجسدًا إرادته، مؤكدًا رفضه للعدوان، معلنًا أن «ما أُخذ بالقوة لا يُسترد بغير القوة» حتى برزت إرادة الجندى المصرى شامخة وقوية تؤكد أن التاريخ الطويل لذلك الجيش العريق لا تمحوه هزيمة عابرة ولا ظروف تآمر دولى مكشوف.
ثالثًا: كنت أظن دائمًا أن حرب الاستنزاف حرب مظلومة لم تأخذ حقها من الدراسة ولم تعرف قدرها الحقيقى وسط حروبنا الظافرة، رغم أننا مازلنا نتذكر أسبوع تساقط الطائرات الإسرائيلية فى سماء سيناء ونتذكر عبور الفدائيين من أبطال الجيش المصرى لمياه القناة محملين بالقنابل مدججين بالسلاح ليقوموا بأعمال انتحارية أمام خطوط العدو بل وخلفه أيضًا، وقد أبرز الفيلم الذى نتحدث عنه ذلك بوضوح وإتقان ومصداقية، لقد كنت أشعر وأنا أشاهد ذلك الفيلم بأنى أعيش تلك الأيام بما لها وما عليها.
رابعًا: إذا كانت حرب الاستنزاف هى وثيقة تاريخية للتلاحم بين المصريين جيشًا وشعبًا إلا أنها أيضًا تعد ملحمة للوحدة الوطنية، فقد امتزجت دماء المصريين مسلمين وأقباطًا بلا تفرقة، ولعلنا نتذكر أن صاحب فكرة هدم خط «بارليف»، ذلك الساتر الترابى الضخم، كان هو ضابط قبطى كبير أجرى تجاربه فى منطقة الخطاطبة لدراسة تأثير الرياح وحركة الأمواج ودرس بطريقة علمية هو ورفاقه نماذج مختلفة خدمت جيشنا الباسل فى يوم العبور العظيم، ولعلنا نتذكر بهذه المناسبة جرائم الطرف الآخر، خصوصًا قتل الأطفال فى مذبحة «بحر البقر».
خامسًا: إننى ممن يعتقدون أن فيلم الممر يمثل رد اعتبار قويًا وصريحًا للجيش المصرى، خصوصًا أن الهزيمة العسكرية كانت قد لقيت صداها فى كل مكان وأصبحت مثار تندّر حتى من أبناء الوطن! ولقد أبرز الفيلم المذكور آنفًا كل هذه المعانى، مع تطور درامى للأحداث يشد الانتباه لأكثر من ساعتين كاملتين.
إن حرب الاستنزاف، التى يجسد جزءًا منها ذلك الفيلم الطويل، سوف تظل وسامًا على صدر الشعب المصرى، كما أنها دليل على أن الهزيمة لم تكن لصيقة به ولكنها فُرضت عليه فى ظل ظروف دولية وإقليمية شديدة الحساسية بالغة التعقيد.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1407820