جاء تعريف الدولة في دراسات الفكر السياسي بأنها أرض وشعب وسلطة حاكمة، وظل هذا المفهوم راسخًا عبر القرون لدى خبراء علم السياسة والقائمين على دراسات التحليل السياسي لنظم الحكم، وامتد هذا الأمر ليجعل من الدولة قدس الأقداس - كما يقولون – بسبب ما لحق بكيانها من (نظرية السيادة) وما تعنيه من استقلال كامل وتطبيق لمبدأ عدم التدخل في الشئون الداخلية لدولة أخرى، إلى أن ظهر القانون الدولي الإنساني بما جاء به من أفكار وأطروحات لم تكن قائمة من قبل وهو الذي أصبح يعطي مجموعة من الدول أو دولة بعينها وفقًا لقرار من مجلس الأمن حق بالتدخل في شئون دولة أخرى تحت مظلة الإنسانية ومرجعيتها قد تكون حقوق الإنسان أو رعاية الحريات أو حماية الأقليات أو حتى الحفاظ على البيئة وغيرها من الأسباب والمبررات التي يزدحم بها قاموس التعبيرات الجديدة في العلاقات الإنسانية المعاصرة، بل إننا رأينا في العقود الأخيرة أن الولايات المتحدة الأمريكية تدخلت في شئون دول أخرى فقامت – على سبيل المثال – بغزو العراق دون قرار صريح من مجلس الأمن معتمدة على تقارير مغلوطة من بعض أجهزة التفتيش الدولية على أسلحة الدمار الشامل، وتحالف (جورج دبليو بوش) الرئيس الأمريكي مع (توني بلير) رئيس وزراء المملكة المتحدة لتمرير مشروعية الغزو بدعاوى واتهامات ثبت فيما بعد أنها لم تكن صحيحة أو على الأقل لم تكن دقيقة، وهنا يكون من الإنصاف أن نشير إلى الخطر الأكبر تجاه تماسك وسلامة واستقرار الدولة الوطنية كما تشير إليها الشواهد في السنوات الأخيرة، ونرصد هنا الملاحظات الآتية:
أولًا: إن ما أسميناه (الربيع العربي) احتوى بين ثناياه محاولات تحطيم الدولة الوطنية وتحويلها إلى كيان تائه في زحام تعريفات عامة تحت شعارات الأممية، والبعد عن التحديد القاطع لمفهوم الوطن مستغلين دعاوي زائفة تتمسح بالدين في غير موضعه وتستند إلى التاريخ بعد تزييفه، فشهدنا هجمة شرسة على مفهوم الدولة الوطنية رغم أنها معطاة تاريخية لا يجب المساس بها وربما كان ذلك نتيجة طبيعية لغيبة الشعور بالهوية الوطنية لدى جماعات احترفت العبث بالثوابت والتلاعب بالدين والترويج لأفكار خاطئة بين العامة ومحدودي المعرفة.
ثانيًا: لازلت أتذكر أن الرئيس الأسبق صدام حسين قد قال للدكتور أسامة الباز المستشار السياسي للرئيس الأسبق مبارك أثناء زيارة للباز في بغداد: (إنني أريد أن تعرفوا في مصر أنكم دولة كبيرة وعريقة ولها مكانة دولية رفيعة لأن هناك الكثيرين الذين يرون في بعض الدول العربية الأخرى أنها مجرد قبائل ترفع أعلامًا أما مصر فهي ضاربة بجذورها في أعماق التاريخ السحيق)، لهذا فإنني أتصور أننا نحن المصريون يجب أن ندرك هذه الحقيقة جيدًا، فالخريطة المصرية واحدة من أقدم الخرائط في التاريخ الإنساني على الإطلاق كما أن الحضارات التي تعاقبت على أرضها والثقافات التي تنوعت فيها والديانات التي عبرت عليها تمثل كلها رصيدًا باقيًا وتراكمًا ضخمًا لا ينتهي أبدًا.
ثالثًا: لقد جرت محاولات من جماعات وتنظيمات تمثل في مجموعها خوارج العصر وجاء في تصرفاتها ما يشير إلى محاولة تقويض مفهوم الدولة الوطنية في المنطقة العربية وتمزيق أوصال كل منها والنيل من سيادتها واستقلالها تحت دعاوي مضللة واستخدام أدبيات سياسية مستحدثة تؤكد أنها تعادي إرادة الشعوب وأحلام الأمم، وتتحدى إرادة الإنسان وحريته في ظل شعارات براقة وأوهام لا تتصل بالواقع أو الحقيقة، إن الذي جرى في السنوات الأخيرة يؤكد أن هناك استهدافًا مباشرًا لمفهوم الدولة الوطنية ومحاولة لإسقاطها وتجزئة كيانها خدمة لأهداف خارجية أو استجابة لضغوط داخلية.
رابعًا: لقد جاء في الذكر الحكيم قوله تعالى (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا) أي أن الإسلام لا يعادي القومية ولا يتناقض مع الوطنية، ولا يدعو إلى تمييع الشخصية بل هو يناصر حق تقرير المصير ويحافظ على سيادة الدولة ويعلي من كرامة الإنسان.
خامسًا: إن النغمة السائدة في عصرنا تتمثل في الدعوة إلى تمييع الخطوط الفاصلة بين الدول اعتمادًا على منطق العولمة علمًا بأن أكثر من خمسة وتسعين في المائة مما يقال كلام مسطح، ولقد وجدت مثل هذه الدعايات آذانًا صاغية واستجابة كاملة من بعض العناصر التي تعادي مفهوم الدولة وتحقد على القائمين عليها ولكن تظل يقظة الشعوب ووعي الأجيال الجديدة بمثابة قوة ردع عند اللزوم، ولقد اتخذت مصر موقفًا شريفًا وواضحًا للحفاظ على كيان الدولة الوطنية في المنطقة العربية فكان موقفها من الأزمة السورية أكبر دليل على ذلك بل إن اللطمة التي وجهتها الجماهير المصرية في 30 يونيو 2013 وقرارات 3 يوليو التي أعقبتها هي أكبر دليل وأوضح برهان على تماسك الدولة المصرية وقدرتها على أن تظل الركيزة التي يرجع إليها الجميع والقاعدة التي تنطلق منها آمال المنطقة ذلك أنه إذا سقطت الدولة الوطنية فإن ذلك يفتح بابًا للفوضى التي يطلقون عليها خلاقة بينما هي هدامة بكل المعايير.
هذه قراءة في قضية هامة ومسألة شديدة الحساسية، وهي التي تتصل بوحدة الأراضي وتماسك السلطة السياسية لدول المنطقة، ولابد هنا أن نشير إلى أن الجيوش الوطنية تلعب دورًا حاكمًا في ذلك ولحسن حظ المصريين أن جيش بلادهم هو واحد من أكبر عشر جيوش في العالم فضلًا عن عراقة تقاليده وانصهار العاملين فيه، إذ لم تتسرب إليه الطائفية، وتستعصي عليه المؤامرات ليبقى الوطن شامخًا أمام كل التحديات.
نشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 9 يوليو 2019