إن الذي يتأمل حياتنا الآن يدرك جيدًا أن معدل التطور يبدو أسرع من أي وقت مضى في تاريخ الإنسانية منذ بدء الخليقة، لقد كانوا يقولون لنا من قبل إن التطور في الخمسمائة عام الأخيرة يزيد عن التطور الذي حدث قبلها عبر القرون ، ونحن نقول الآن إن التطور في الخمسين عامًا الأخيرة يفوق التطور في الخمسمائة عام التي سبقتها، وهنا يجب أن نلاحظ أن هناك فترات من التطور المستقر الذي لا يحمل تغييرات كبيرة تأتي كفجوات بين فترات زمنية معينة فأنا أزعم أن الفارق بين ثلاثينيات القرن العشرين وخمسينياته ليس كبيرًا ولكنني أرى التطور الحالي يفوق كل التطورات لأن هناك نقلة نوعية أدخلتنا في العصر الرقمي وعصر الإنترنت وجعلتنا أمام عالم مختلف تمامًا، فلقد كان الجد والحفيد منذ عدة عقود يستخدمان نفس الآليات حيث يرى أن المسرة والراديو بل والطائرة فضلًا عن السيارة مقتنيات معتادة لهم بنفس الدرجة أما اليوم فالأمر مختلف تمامًا،الحفيد يعلم الجد وقد يرى فيه نموذجًا بدائيًا لما يتعامل معه هو من أجهزة ومعدات لذلك فإن تفاوت السرعات في معدلات التطور هو أمر يستحق الدراسة والتأمل ويفتح أمامنا نافذة لفهم ما هو قادم، وأنا أتذكر أنه في مستهل حياتي الجامعية في بداية ستينيات القرن الماضي أن الأستاذ الراحل الدكتور محمود خيري عيسى كان يدرس لنا مادة تاريخ الفكر السياسي من حيث تطوره ورموزه وما انعكس عليه من تغييرات نتيجة التطور على أرض الواقع وأيقنت وقتها أن تاريخ البشرية ليس هو فقط تاريخ الأحداث أو الحكام أو النظم ولكنه أيضًا تاريخ الأفكار بالدرجة الأولى، فالتطور الفكري هو الذي يعكس الحالة التي تمر بها البشرية في مرحلة معينة، ولعلنا نتذكر سويًا النقاط التالية:
أولًا: إن التيار المادي في الفكر الأوروبي الحديث قد اعتمد على (الدارونية) في أصل الأنواع وفلسفة النشوء والارتقاء كما اعتمدت على (الفرويدية) في تفسير سلوك الإنسان وإعلاء عامل معين في قيادة التطور كما أن (الماركسية) قد جاءت على الصعيد السياسي لتضع الإنسانية أمام انقسام جديد بين من يعملون ومن يملكون حيث ظهر صراع الطبقات وحكمت دكتاتورية القوى العاملة في ظل إيديولوجية مغلقة بشر بها (فلاديمير لينين) وتابعوه، وبذلك قدم هذا التيار الفكري للإنسانية إضافة ضخمة في ظل الثورة الصناعية وتداعياتها ومن يقرأ رواية واحدة لتشارلز ديكنز سوف يدرك جزء من أبعاد ما نقول به.
ثانيًا: إذا كانت الدارونية والفرويدية والماركسية كتيارات مادية أوروبية فإن العالم العربي الإسلامي شهد على الجانب الآخر تيارات تربط بين الدين والسياسة وتجمع بين الزعامتين الروحية والزمنية، ولعلنا نتذكر هنا (الوهابية) في الحجاز و(المهدية) في السودان و(السنوسية) في ليبيا وغيرها من التيارات ذات الطابع السياسي الديني إلى أن ولد الإسلام السياسي رسميًا عام 1928 علي يد حسن البنا في مصر وبذلك نعترف هنا أيضًا أن تاريخ الأفكار هو المتغير المستقل الذي تتبعه باقي المتغيرات، وهنا نتذكر أن الحركة الصهيونية التي ولدت في أوروبا واستفادت من الحربين العالميتين الأولى والثانية ولعبت في بلاط نابليون والخليفة العثماني ومحمد علي والي مصر هي التطور الموازي على الجانب الآخر لحركة الإسلام السياسي على اعتبار أن اليهودية والإسلام تملكان مشروعًا فكريًا مع الفارق بينهما بينما تقف المسيحية في إطار مختلف أقل حدة وتشددًا مما جرى اتهام الديانتين الأخريين به.
ثالثًا: إن التطور الفكري قد أصبح متفاوت السرعات، ومن العبث قياس الحاضر بالماضي فالدنيا تتطور بشدة كما أن اختراع العجلة أو اختراع الطباعة أو غيرهما مثلما حدث في عصر البخار ثم الدخول إلى عصر الكهرباء لم تقف هذه الاكتشافات العلمية والاختراعات بمعزل عن التطور الفكري بل وارتبطت بدرجة إيقاع معينة تحرك الإنسانية في تطور مستمر ولكن بسرعات متفاوتة، وكما قلنا في البداية فإن لكل عصر شخصياته ورموزه والنقلات النوعية الكبرى تأتي في فترات معينة كما حدث في حياتنا خلال العقود الأخيرة بدخول ثقافة الرقمنة وعصر الكمبيوتر والانقلاب الضخم في التواصل الاجتماعي (السوشيال ميديا) فأصبحنا أمام عالم لا يمكن الحديث عنه إلا من خلال ما جرى وما يجري في الفضاء الدولي والمحيط الإقليمي.
رابعًا: لقد لعبت العلاقة بين الدين والمجتمع في جانب وبين الدين والدولة في جانب آخر دورًا رئيسيًا، فاشتباك الدين مع المجتمع أدى إلى ظهور الجماعات السلفية والطرق الصوفية بينما أدى اشتباك الدين مع الدولة إلى الميلاد الرسمي للإسلام السياسي بما له وما عليه، وهنا يجب أن نعترف أن مصر الوطن قد صدرت جزءًا كبيرًا من هذه الأفكار إلى المناطق العربية والإفريقية والإسلامية، فالإسلام السياسي مصري المولد والمكون الأساسي فيه مرتبط بشخصية مصر وما جرى لها بعد سقوط الخلافة العثمانية، كما أن الطرق الصوفية والجماعات السلفية هي أيضًا جزء من التاريخ الاجتماعي الديني للشعب المصري بكل طوائفه وعلى كل مستوياته.
خامسًا: إن المستقبل يحمل في طياته تحولات كبرى وتطورات عظمى فأنا شخصيًا انتمي إلى جيل يشعر بالغربة كما نرى أحفادنا يتحدثون بلغة مختلفة في التفكير والتعبير ويتعاملون ببراعة مع التقنية الحديثة لأن العصر الحالي قد وفر لهم حيازة المعلومات جاهزة دون الحاجة إلى البحث المضني بين دفتي الكتب للوصول إلى الحقيقة وأصبح الانترنت مصدرًا لكثير من الدراسات والأبحاث وإن كنا لا نراه مصدرًا يوثق به ويعتمد عليه دون مراجعة لمحتواه.
هذه قراءة عاجلة في ملف بالغ الأهمية يتصل بنظرية التطور والقفزات النوعية التي يقطعها البشر على الطريق نحو المستقبل ويكفي هنا أن نتذكر أن الكثيرين قد ودعو – على سبيل المثال – الصحافة الورقية ليدخلوا بكثافة إلى عصر الصحافة الإلكترونية بما يؤدي إليه ذلك من احتمالات لتراجع أهمية الكتاب وزوال الصحيفة.
نشر المقال بجريدة الأهرام بتاريخ 25 يونيو 2019