تمثل قضية الأمن القومي العربي هاجسًا كبيرًا لدى شعوب المنطقة، إذ أن كل التهديدات التي تستهدف العرب يجري تركيزها على منطقة الخليج باعتبارها ذات موقع استراتيجي حاكم فضلًا عن حساسية العلاقة مع دولة الجوار إيران أخذًا في الاعتبار أن مجلس التعاون الخليجي يعتبر حتى الآن هو أكثر المنظمات الإقليمية في العالم العربي انضباطًا وفاعلية بسبب التجانس الواضح بين دوله والشراكة الكاملة في سياساته الإقليمية والدولية، ولولا أحداث مرت بذلك المجلس في السنوات الأخيرة لظل أمره متماسكًا قويًا كالعهد به، ولكن تغريد دولة قطر خارج السرب قد انعكس سلبًا على تماسك مجلس التعاون الخليجي، وإن كنت ممن يظنون أن المجلس يملك مقومات التماسك حتى الآن بسبب درجة التجانس العالية بين دوله ومجتمعاته المتشابهة فضلًا عن التقارب النسبي في معدلات الثروة إلى جانب التاريخ المشترك والجغرافيا التي حكمت الترابط بين دول ذلك المجلس، ولقد ظلت إسرائيل هي مصدر الخطر الحقيقي على دول المشرق العربي وامتد القلق إلى دول الخليج بسبب أطماع الدولة العبرية في ثرواتها إلى أن برزت الأطماع الإيرانية في السنوات الأخيرة بحيث تصدرت الدولة الفارسية سلسلة المخاوف ودواعي القلق لدى الخليجيين الحريصين على الأمن القومي للمنطقة العربية ولدول الخليج تحديدًا، فتغير ترتيب الأولويات وأصبحت إيران بسياساتها الاستفزازية هي الهاجس الأول في العقل الخليجي بسبب الجوار الجغرافي المباشر والتهديدات التي شكلتها طهران على المنطقة منذ قيام (ثورة الخميني الإسلامية) عام 1979 فهي تحتل جزرًا ثلاث من دولة الإمارات وتهدد بشكل متواصل استقرار وسلامة مملكة البحرين فضلًا عن العبث السياسي أحيانًا في دولة الكويت وشرق المملكة العربية السعودية وتأليب الشيعة العرب على أقطارهم مع أنهم جزء لا يتجزأ من تلك الأقطار كما أن ولاءهم الذي جرى اختباره في كثير من المناسبات يؤكد أنهم صادقون في عروبتهم خصوصًا وأن تشيعهم يسبق الدولة الصفوية في إيران بعدة قرون، وعندما وقعت الحرب الإيرانية العراقية التي امتدت لعدة سنوات برهن الشيعة العراقيون على ولائهم لبلدهم وانحازوا إلى صفوف المقاتلين ضد سطوة إيران ومحاولتها العبث بخريطة ذلك الوطن الكبير، ويهمني هنا أن أسجل الملاحظات التالية:
أولًا: إن اختزال الأمن القومي العربي برمته في أمن دول المجلس الخليجي وحدها هو أمر لا يستند إلى دراسة واعية أو فهم عميق للتشابك والتداخل بين نطاقي الأمن العربي والأمن الخليجي، إذ أن الأخير جزء لا يتجزأ من منظومة الأمن القومي التي لا يمكن تفتيت عناصرها أو تقسيم مصادر الخطر تجاهه لأن الوحدة الجغرافية والعلاقة العضوية بين دول الخليج سوف تجعلها دائمًا محط أطماع أمام سياسات إيران غير الواضحة، بل والمبهمة أحيانًا، بحيث تتناقض تصريحات المسئولين الإيرانيين مع الواقع على الأرض، وتبدو لديهم مواقف غامضة إلا أنها تقع جميعًا تحت مظلة الرغبة في الهيمنة وفرض السطوة.
ثانيًا: لقد تابعنا تصريحات وزير الدفاع الإيراني في إطار المواجهة الحادة بين طهران وواشنطن مؤخرًا، فإذا بالوزير الإيراني يهاجم الدول العربية ويصب جام غضبه على دول الخليج، ويضم خطابه تهديدات واضحة في وقت قد نرى فيه أيضًا إشارة تهدئة من جانب إيراني آخر بحيث يصعب تحديد سياسة واضحة لإيران تجاه غيرها، ونحن لا ننسى أن إيران هي داعمة الحوثيين في اليمن في حرب تستهدف استنزاف المملكة العربية السعودية وجيشها وخلق مناطق نفوذ إيرانية جنوبي السعودية وعلى شاطئ البحر الأحمر.
ثالثًا: لا ننسى ما صرح به مسئول إيراني كبير يوم أن دخل الحوثيون العاصمة اليمنية صنعاء، لقد قال ذلك المسئول (ها هي العاصمة العربية الرابعة تسقط في أيدينا بعد بغداد ودمشق وبيروت) ليكشف بذلك عن مشروع الهيمنة الإيرانية على المنطقة العربية.
رابعًا: إن دور حزب الله في جنوب لبنان يمكن قبوله كجزء من المقاومة ضد إسرائيل التي كانت ولا تزال وسوف تظل مصدر قلق للأمن القومي العربي بصيغته الشاملة، علمًا بأن ظهور الخطر الإيراني لا يعني إطلاقًا اختفاء الخطر الإسرائيلي خصوصًا بعد إعلان الرئيس الأمريكي ترامب نقل سفارة بلاده في إسرائيل إلى مدينة القدس وإعلان مرتفعات الجولان جزءًا لا يتجزأ من خريطة الدولة العبرية في استفزاز واضح لمشاعر العرب والفلسطينيين بل والشعوب الإسلامية برمتها، وتحاول إسرائيل تغطية ذلك باللهاث سعيًا نحو بعض العواصم الخليجية ولكن معظم عرب الخليج يتمسكون بثوابت القضية الفلسطينية في ذات الوقت الذي يواجهون فيه الخطر الإيراني أيضًا وأطماع طهران في الدول العربية سواء في منطقة الخليج أو المشرق العربي فضلًا عن محاولة احتواء العراق وهي دولة عربية كبيرة تجري محاولة النيل من وحدته باستخدام (كارت) الخلاف المذهبي الذي لا يجب أن يشكل خطرًا في حقيقته على شعب الرافدين.
خامسًا: لقد نسي الجميع ما جرى لمنطقة (عرب الأهواز) واختفى اسم (عربستان) في محاولة لهضم الوجود العربي للدولة الفارسية مثلما حاولت إيران دائمًا إخفاء اسم الخليج العربي واستخدام تعبير الخليج الفارسي في كل الأدبيات الإقليمية أو الدولية، والملاحظ هنا أن العلاقات الوثيقة بين طهران والعواصم الغربية بما فيه الولايات المتحدة الأمريكية بل وقنوات التواصل مع إسرائيل ذاتها من خلال يهود إيران يشكل في مجموعه صورة مختلفة لما تبديه إيران علنًا من سياسات، وما تخفيه سرًا من توجهات، حيث أصبحنا أمام مجموعة تساؤلات حول الدور الإيراني في المنطقة، وهو الذي كان يجب أن يكون إضافة لقوة العالم الإسلامي لا أن يكون خصمًا منه.
إن الأمن القومي العربي لا يمكن اختزاله في أمن دول الخليج وحدها لأن ذلك جزء لا يتجزأ من منظومة كبيرة تمتد في غرب آسيا وشمال إفريقيا لمواجهة كل القوى التي تستهدف سلامة العرب وأمنهم، ولقد رأينا الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل يهددان إيران على امتداد الثلاثين عامًا الأخيرة ولكنهم يضربون العرب في العراق وسوريا والأرض الفلسطينية المحتلة لأسباب مختلفة وتحت شعارات مصطنعة! ولكن يبقى الأمن القومي العربي في النهاية تعبيرًا شاملًا لا يقف عند حدود إقليم معين أو دولة بذاتها، ولكن له مضمونًا متماسكًا في كل الظروف، وأمام كافة التحديات.
نشر المقال بجريدة الأهرام بتاريخ 2 يوليو 2019