لا يقلقني أمر أكثر من ذلك الهاجس الذي يعتادني من تعدد مستويات التعليم في بلادنا، وتفاوت المستويات الطبقية بين المدارس والمعاهد والجامعات، وأنا أعترف في البداية أن الأمر ليس جديدًا فالتنوع التعليمي قائم كما أن التفاوت كان ملموسًا هو الآخر خصوصًا في المدارس وما يؤدي إليه ذلك من اتساع الهوة بين أبناء الجيل الواحد، إلا أننا نتذكر أيضًا أن المدارس في بلادنا تحت مظلة التعليم العام كانت تضم في الفصل الواحد مستويات اجتماعية مختلفة فكان ذلك بمثابة صمام أمان ومبرر للتجانس والانسجام بين الأطفال من مختلف الطبقات والتلاميذ من كل المستويات، ونحن إذ نكتب اليوم عن ديمقراطية التعليم فإننا نصافح واحدة من أهم القضايا في تشكيل مستقبل الوطن، فلقد لاحظنا في العقود الأخيرة ذلك التعدد الكبير، والتنوع الواسع في أنواع التعليم فإننا ندرك أنه إذا تعددت المدخلات كان طبيعيًا أن تتعدد المخرجات لنجد أنفسنا أمام وطن يضم جزرًا منعزلة وفقًا لنوعية التعليم وما غرسه من قيم وما زرعه من أفكار، وبهذه المناسبة فإنني أزعم أن الانصهار الاجتماعي والتجانس السكاني يأتيان من مصدرين لا ثالث لهم الأول هو الجندية وأداء الخدمة العسكرية على كل المصريين بحيث تضم الوحدة الصغيرة داخل الجيش كافة فئات المجتمع ومستوياته، فقراء وأغنياء، مسلمين وأقباطًا دون تفرقة أو تمييز، فالكل سواء أمام ضريبة العلم وواجب الدفاع عن الوطن، لقد كنا نسمع من الجيل السابق علينا أنهم كانوا يجلسون في المدارس العامة في الفصول بلا تفرقة حيث كان التعليم موحدًا ومتجانسًا ولم تكن المدارس الخاصة القليلة إلا مأوى للفاشلين أو المتعثرين دراسيًا، وقد حكى لي أحد أبناء ذلك الجيل أنه كان يجلس مع ابن ناظر الخاصة الملكية على مقعد واحد في ذات الفصل وهذه في ظني هي ديمقراطية التعليم التي تتيح للجميع فرصًا متكافئة وعلى قدر من المساواة دون تمييز لأسباب مادية أو قدرات مالية، ولعلي أطرح هنا الملاحظات الآتية:
أولًا: لقد ذكر الرئيس السيسي في إحدى لقاءاته طرحًا واضحًا حول ثقافة التعليم وكيف أن العملية التعليمية يجب أن تتم في إطار ثقافي يحيطها وينير الطريق أمامها، وفي ظني أن ذلك يحتاج أيضًا إلى ما نطلق عليه ديمقراطية التعليم لأن التعليم في النهاية هو نمط في التربية لابد أن يشعر فيه الطفل الصغير والفتى اليافع بمفهوم المساواة والفرص المتكافئة بل والعدالة الاجتماعية أيضًا، وتلك كلها ترتبط ارتباطًا وثيقًا بما نطلق عليه ديمقراطية التعليم.
ثانيًا: ليس صحيحًا أن مصر قبل 23 يوليو كانت تغلق أبواب التصعيد أمام أبناء الطبقة المتوسطة أو ما دونها، ونتذكر هنا نموذج (على مبارك) في الصعود من قاع الفقر إلى قرب قمة السلطة وهو رائد كبير للتعليم المصري، وذلك يعني أن الفرصة كانت متاحة أيضًا للصعود الطبقي من خلال سلم التعليم الذي يعتبر أقصر وأفضل وأشرف الطرق للصعود الطبقي المقبول من كافة أطراف المجتمع لأنه يعتمد على الجهد وعلى القدرات الشخصية والكفاءات الذاتية، لذلك فإننا نظن أن الأبواب لم تكن كلها موصدة وأن النوافذ لم تكن كلها مغلقة، رغم تسليمنا بأن مجتمع النصف في المائة كان يحتكر جزءًا كبيرًا من مقدرات الوطن وطاقات الشباب.
ثالثًا: إن التعليم هو بوتقة الأمة التي تنصهر فيها الاتجاهات وتزدهر الأفكار ذلك أن التعليم هو عملية حيوية مفتوحة تستقبل كافة الأفكار بلا تفرقة، وتقبل كل الرؤى بلا تمييز، وتتعامل بشفافية ونقاء مع كافة الاتجاهات سياسية أو اقتصادية أو اجتماعية أو حتى ثقافية، فالتعليم منظومة محايدة لا تخضع لضغوط ولا تستجيب لتوجهات لأن العلم لا وطن له وإن كان للعلماء أوطانهم لذلك فإننا عندما نتحدث عن ديمقراطية التعليم فنحن نستهدف التحديات المرتبطة بالعملية التعليمية ذاتها، وهنا يأتي دور المعلم باعتباره حجر الزاوية في القضية برمتها إلا أننا لا نخفي انزعاجنا من التنوع الذي تشهده الساحة في منصات التعليم المختلفة، فهناك تعليم عام وتعليم خاص، وتعليم مصري وتعليم أجنبي، وتعليم استثماري وتعليم مدني وتعليم ديني، هل يتأتى مع هذا التنوع في بلد واحد أن نتوقع وجود انصهار بين أطراف المجتمع؟! إن ديمقراطية التعليم أيها السادة هي قضية القضايا لأنها تتحكم في شكل المجتمع الذي نريده والأجيال التي نتوقعها.
رابعًا: إن التقدم التكنولوجي الكاسح قد غير من فلسفة العملية التعليمية وفتح الأبواب والنوافذ أمام سيل متدفق من المعلومات يؤدي إلى انصهار المجتمع أكثر من قبل، وهذه ظاهرة إيجابية يجب أن تدعم ما نطرحه اليوم حول مفهوم ديمقراطية التعليم بحيث تصبح عاملًا مساعدًا نبني عليه كل المحاولات الجادة لانصهار المجتمع المصري والقيام بعملية اندماج اجتماعي كامل في هذا السياق، وفي ظني أن مثل هذا الجهد يصب في خانة ضرب التطرف ومواجهة الغلو والتشدد وإقرار المجتمع الوسطي الذي نتطلع إليه.
خامسًا: إن التباعد بين نوعيات التعليم قد أدى إلى هوة كبيرة بين أطراف المجتمع فهناك من درسوا في التعليم الأجنبي في مقابل من تعلموا في الأزهر الشريف – على سبيل المثال – ولذلك فإن هناك هوة تحتاج إلى أن نملأها بفتح جسور ثقافية بين أطراف المجتمع بغير استثناء، فلو أجرينا مناظرة بين شيخ سلفي وشخص آخر خريج جامعة أجنبية سوف نشعر بالفارق الكبير الذي أدى إلى وجود أكثر من مصدر واحد للتعليم في وقت واحد.
إن كل ما نتطلع إليه هو تأكيد انصهار المجتمع وتجانس أطرافه والقضاء على الفوارق الكبيرة الناجمة عن اختلاف نظم التعليم التي يجب أن يربط بينها قاسم مشترك حتى لو تنوعت التخصصات واختلفت الدرجات.
نشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 16 يوليو 2019.