اتصل بي صديق مصري يعيش في لندن هو الأستاذ (سمير تكلا) وقال لي إنه يتمنى عليَّ لو أستطيع الحضور إلى المملكة المتحدة للتحدث إلى أعضاء البرلمان في الجمعية المصرية البريطانية ــــ وهم مجموعة من أعضاء مجلس اللوردات ومجلس العموم ـــ حول مصر والأوضاع في المنطقة قائلًا: إن الدعاية ضدنا تسمم الأجواء، ولابد للجانب البريطاني أن يستمع إلى وجهة نظر موضوعية حول ما يدور في مصر، ولأنني كنت ذاهبًا إلى المملكة المتحدة لحضور مجلس أمناء الجامعة البريطانية فضلًا عن بعض الفحوص الطبية فإنني قبلت المهمة التي دعاني إليها ذلك الصديق بدافع وطني بالدرجة الأولى، وبالفعل مررت على السفير المصري فور وصولي إلى لندن واستمعت إليه في مقر السفارة حول بعض نصائحه قبل أن أذهب إلى مقر البرلمان حيث جرى اللقاء في قاعة داخل بهو (وستمنستر) للمبنى العتيق والرائع للبرلمان البريطاني، وعلى بعد خطوات معدودة من ساعة (بيج بن) الشهيرة وتمثال (ونستون تشرشل) داهية الدبلوماسية البريطانية في العصر الحديث، قدمني رئيس الجلسة وهو عضو في مجلس العموم تقديمًا كريمًا قائلًا: إن المتحدث درس في لندن وعمل دبلوماسيًا في بريطانيا وتولى مواقع دبلوماسية وبرلمانية وإعلامية وثقافية تدعونا إلى أن نستمع إليه باهتمام، وقد بدأت قائلًا: إنني لست محامي الحكومة المصرية فإنجازاتها تدافع عنها في ظل إصلاح اقتصادي مرير وحرب ضروس ضد الإرهاب وصمود مصري رائع أمام كل التحديات فضلًا عن دور دبلوماسي نشط دوليًا وإفريقيًا وعربيًا ومع ذلك فإنني أقول لكم إنني لا أدعي أن الصورة وردية بالكامل فلدينا مشكلات تراكمت عبر العقود الأخيرة وظروف صعبة اقتصاديًا ومعيشيًا ومع ذلك فإنني أتحدث أمامكم بحياد كامل وموضوعية مجردة، وقلت لهم إنني أوجه سؤالًا بسيطًا هل هناك دولة تحارب الإرهاب على أرضها وتبني اقتصادها وتدعو إلى تصحيح صورة الإسلام ليعود لها البهاء الذي يعكسه ذلك الدين المتسامح؟ إننا في مصر نخوض مواجهات عديدة بلا تردد أو تراجع ونمضي في طريقنا رغم الحصار الإعلامي والدعاية المسمومة، وأضفت مستأذنًا في أن يسمحوا لي بالتعبير عن شعورنا بالإحباط تجاه بعض المواقف البريطانية نحو مصر في السنوات الأخيرة وتساءلت هل من اللياقة الدبلوماسية أن توقف بلدكم طيرانها المدني إلى مدينة سياحية لدولة يقوم رئيسها بزيارة للعاصمة البريطانية ولم يكن قد برحها بعد! إن ذلك لم يكن أمرًا متوقعًا خصوصًا وأن الحادث الذي جرى كان يتعلق بطائرة روسية وليست بريطانية فضلًا عن أن الطائرات الغربية كلها تحلق إلى سماء شرم الشيخ باستثناء بريطانيا التي لم تفعل ذلك فضلًا عن روسيا الاتحادية صاحبة الطائرة المأساة، وقد مضى أكثر من أربع سنوات والوضع على ما هو عليه، إن لذلك دلالة في نظرنا وهي أن بريطانيا لازالت تنظر إلى مصر نظرة تستحق أفضل منها بكثير، ويكفي أن تتذكروا أن العلاقات الاقتصادية بين دولتينا متميزة إذ يكاد يكون حجم الاستثمارات البريطانية هو رقم اثنين في مصر بين دول العالم بل ويتقدم أحيانًا عن ذلك بينما العلاقات السياسية متجمدة عند ذكريات حرب السويس ودعمكم لجماعة الإخوان المسلمين، وهي في ظني صناعة بريطانية مثلما هو الأمر بالنسبة لمعظم مشكلات آسيا وإفريقيا بدءًا من القضية الفلسطينية وصولًا إلى مشكلة كشمير إلى السياسات العنصرية في القارة الإفريقية إلى الوضع في السودان إلى غيرها من نتاج الدبلوماسية البريطانية في القرنين الأخيرين، ثم عرجت على إنجازات مصر في السنوات الأخيرة وفي مقدمتها ترسيخ مبدأ المواطنة والدور الإيجابي المتميز الذي لعبه الرئيس السيسي في تأكيد الوحدة الوطنية فهو الذي رمم الكنائس التي أضيرت بعد سقوط حكم الإخوان وهو الذي بنى الكاتدرائية الكبرى في العاصمة الجديدة مثلما بنى الجامع الكبير وهو الذي شارك أشقاءه من أقباط مصر احتفالات عيد الميلاد لأكثر من خمس مرات حتى الآن بالحضور إلى الكاتدرائية أثناء قداس عيد الميلاد ثم هو – الأهم في نظري – صاحب مبادرة الدعوة إلى تجديد الخطاب الديني وإظهار الوجه الصحيح لديانة عظيمة هي الإسلام وذكرتهم بتسامح الشعب المصري تاريخيًا الذي تحتضن عاصمة بلاده أكثر من اثني عشر معبدًا يهوديًا لم يمسسهم مصري بضرر على امتداد السنين، وذكرتهم بالمناسبة أن مصر التي قادت الحرب هي أيضًا التي صنعت السلام لذلك فإنها تستحق منهم ومن غيرهم تقديرًا خاصًا، ولقد بدأوا في توجيه الأسئلة لي وكان أحدها عن العلاقات مع تركيا فقلت لهم: إنه لا يوجد خلاف بين مصر وتركيا ولكن هناك خلاف بين مصر ورجب طيب أردوغان وشرحت وجهة نظرنا في هذا السياق، ثم وجه لي الحديث اللورد (ستون) وهو شخصية بريطانية يهودية معروفة قائلًا: إن سيناء المصرية يجب أن تكون مسرحًا للتسامح بين أبناء الديانات، فقلت له مرحبًا بمثل هذا الاقتراح شريطة أن يتوقف الإرهاب على أرضها وهو الذي تحاربه مصر بلا توقف، ثم تحدث وزير سابق للدفاع أصبح عضوًا في مجلس اللوردات عن مصر وأشاد بعلاقته بالملحقين العسكريين المصريين عبر العقود الأخيرة، وقرب نهاية المحاضرة وجه رئيس الجلسة سؤالًا إلى ممثلة منظمة العفو الدولية التي حضرت اللقاء: هل لديكِ استفسار من المحاضر؟ فأجابت بالنفي وقالت: إنها تكتفي بما سمعت ،عندئذ وضع أحد الحاضرين ورقة مكتوبة أمامي قال فيها بالنص: لقد قدمت خدمة لبلادك بهذا الحديث خصوصًا في هذه الظروف الصعبة، ثم دعانا رئيس الجلسة إلى حفل شاي في قاعة ملحقة تكريمًا لي باعتباري ابنًا لمصر الحضارة والثقافة والتوازن السياسي، وقد لمحت ونحن في طريقنا أسقف (كانتربري) فرأى السفير أن نسلم عليه وعندما قدمت إليه نفسي ابتدرني قائلًا: إن مكتبة الإسكندرية سوف تكون حاضرة لدينا في نوفمبر هذا العام احتفالًا بالفيلم الذي تنتجه عن رحلة العائلة المقدسة، كان ذلك موجز لما جرى، وبعد عودتي بثلاثة أيام اتصل بي الصديق المصري البريطاني يبلغني بالانطباع الإيجابي عن ذلك الحوار وتأثيره في من حضر لذلك فإنني أرى أن الحديث إلى من نختلف معهم أجدى كثيرًا من مقاطعة الذين لا يفهمون أوضاعنا ويهاجمون سياستنا ، ولست أزعم أن السياسة البريطانية تقبل مصر مائة بالمائة ولكنني أدعي أنها لا ترفضها أيضًا ولا تنكر مكانتها ودورها في الشرق الأوسط.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 23 يوليو 2019.