سوف أختار أحداثًا ثلاثاً انعكس تأثيرها على تكوين الشعب المصرى وامتد لتحديد هويته ومازالت بصمات تلك الأحداث تجرى فى دماء المصريين لتصنع جينات لم تكن لتصبح كما نعرفها الآن لولا أن هذه الأحداث غابت هى وغيرها عن مسيرة الشعب المصرى، ولأننى أختار هذه الأحداث المفصلية الثلاثة فإننى اختارها اختيار تحكميًا، إذ إنه من الممكن أن نجد أحداثًا لا تقل أهمية، بل قد تزيد، وكلها ذات تأثير عميق فى المكون الفكرى والنفسى للإنسان المصرى، ولقد اخترت أول هذه الأحداث الجسام، وأعنى به الفتح العربى لمصر، محمولًا بالدين الجديد لتشرق شمس الإسلام على مدن مصر وقرى الدلتا والوادى الخصيب، وهذا التاريخ يمثل علامة فارقة رغم أن مصر استمرت بعده لقرنين من الزمان بأغلبية قبطية ولغة غير العربية، إلى أن جاء «الفاطميون» بتقلباتهم السياسية وأفكارهم المتطرفة أحيانًا بعدها، فدخل المصريون فى دين الله أفواجًا، ويوم أن قبلت الكنيسة المصرية إقامة الصلوات باللغة العربية كان ذلك إيذانًا بتعريب مصر تعريبًا كاملًا وقبول المصريين لثقافة جديدة حتى وإن آثرت نسبة منهم البقاء على دينها، ولنا أن نتصور لو لم يحدث الفتح العربى لظلت مصر محتفظة بكثير من خصائصها الفرعونية وسماتها الرومانية الإغريقية ولتأرجحت بين هويتها الإفريقية ودورها البحر متوسطى، كان يمكن أن تكون أقرب إلى اليونان وجزر البحر المتوسط لكى يتغير مسارها وتختلف هويتها، أما الحدث الثانى فأعنى به الفتح العثمانى على يد «سليم الأول» عام 1517 لترزح مصر عدة قرون تحت وطأة السيطرة العثمانية فى ظل مسمى الخلافة الإسلامية، وإذا كان المؤرخون يكادون أن يجمعوا على أن قرون الوجود العثمانى كانت هى عصور الظلام والتخلف، فإن الأمر الذى لا شك فيه أن العثمانيين وهم غزاة قدموا من أواسط آسيا وكانوا حديثى عهد بالإسلام فإن النزعة الاستعمارية غلبت لديهم على الروح الدينية، ويكفى أن نتذكر أنه فور وصولهم إلى مصر نزحوا شريحة من ثروتها البشرية وأرسلوا إلى بلادهم خلاصة العمال المهرة فى مجالات الإنشاء والبناء وفنون الزخرفة الذين كانوا معروفين للعالم وقتها بمواهبهم ومهاراتهم فى محاولة عثمانية استعمارية لاستنزاف الموارد البشرية فى مصر التى أعدموا حاكمها على أسوار القاهرة، فلقد تميز الاحتلال التركى بالعنف المفرط وظلوا دائمًا يتعاملون مع الولايات العثمانية على أنهم شعوب تابعة وأن سيادتها ناقصة وأن تبعيتها للباب العالى خالصة، أما الحدث الثالث الذى أود أن أشير إليه على استحياء فهو ذلك الذى احتفلنا به منذ أيام، وأعنى به ثورة 1952 وما صحبها من تغييرات كبرى فى التكوين النفسى للمصريين، بحيث تأرجحت آثارها الإيجابية والسلبية على شخصية مصر الحديثة، وأنا هنا لا أقارن فترة بفترة، لأننى أعى جيدًا أن شعب مصر عام 1952 كان تعداده لا يزيد كثيرًا عن عشرين مليونًا، بينما هو الآن قد تجاوز المائة بخمسة إضافية، وهذا فارق هائل وكبير فى عدد السكان يجعلنا نتريث كثيرًا قبل إصدار أحكام بالإيجاب أو بالسلب على ذلك الحدث الذى وضع الجيش المصرى فى الصدارة وأنهى إلى حد كبير امتداد الفترة الليبرالية التى تمخضت عن ثورة 1919، وأنا هنا لا أنكأ جراحًا ولا أفتح ملفات، ولكنى أدعو المصريين إلى تأمل تاريخهم الحديث لو لم تحدث ثورة يوليو 1952، وكلمة لو لا تتمتع بشعبية كبيرة فى أدبيات الفكر السياسى، لأنها افتراض وهمى لا يجدى المضى وراءه الذى يبدو كالبكاء على اللبن المسكوب، ولكن الأمر الذى لا مراء فيه هو أن شخصية مصر قد تغيرت كثيرًا، كما أن الإنسان المصرى قد تحول تحولات إيجابية وأخرى سلبية، لأن الأحداث الكبرى تترك بصمات يصعب تجاوزها، وأنا لا أصدر أحكامًا فيما أكتب اليوم على أحداث عظمى فى تاريخنا منذ الفتح العربى حتى ثورة يوليو، مرورًا بالغزو العثمانى، ولكننى أريد فقط أن نتأمل تأثير كل حدث على الجينات المصرية كما نشهدها الآن، فقد كان عام 1952 حدًا فاصلًا بين الملكية الوراثية التى تمثلت فى أسرة المؤسس الكبير محمد على وبين الجمهورية الدستورية التى بدأت منذ إعلانها بعد عام واحد من ثورة يوليو، أو هكذا يبدو الأمر من الناحية النظرية بغض النظر عن مزالق الطريق وأخطاء التطبيق، وعندما جرت أحداث يناير 2011 فإنها أظهرت من المعدن المصرى أروع ما فيه وأسوأ ما لديه فى ذات الوقت، وأنا أظن أن جزءًا كبيرًا من مشكلات مصر المعاصرة يحتاج إلى علماء الدراسات النفسية وخبراء العلوم السلوكية لدراسة ما طرأ على الشخصية المصرية من عشرات الأحداث الكبرى فى تاريخها الطويل، والتى اخترت من بينها نماذج ثلاثة، مكتفيًا بالإشارة إليها بصورة عابرة فى محاولة للتحريض على تفكير أعمق وتأمل أطول ودراسة أوفى.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1416543