لا أظن أن دولة على الأرض تملك من التراث الإنسانى المتمثل فى الثروة العقارية مثل ذلك الذى تملكه «مصر»، وقد صدق من قال إن فى مصر تحت كل حجر أثر، وأنا هنا لا أخلط بين التراث الإنسانى والثروة العقارية ولكنى أراهما فى النهاية يصبان فى خانة واحدة تدعو المصريين إلى الفخر والاعتزاز المقترنين بالأسف وضرورة جلد الذات لأننا أهملنا فيما نملك عددًا من قصور رائعة ومبانٍ عظيمة، ويكفى أن يتجول المرء فى القاهرة وهى متحف إنسانى كبير فينتقل من منطقة الأهرامات فى الجيزة إلى ميدان الأديان الثلاثة أمام «مسجد عمرو بن العاص» و«الكنيسة المعلقة» و«المعبد اليهودى» ثم يعرج فى اتجاه القاهرة الفاطمية مخترقًا «شارع المعز» ليتنسم رائحة التاريخ ويشعر بكل معانى الكبرياء الوطنى والإحساس بعراقة هذه الأرض الطيبة، وإذا انتقل من القاهرة الفاطمية إلى القاهرة المملوكية فسوف يرى البيوت القديمة والمبانى التى تفوح منها رائحة صراعات وقتها ومنافسات زمانها وصليل سيوف «المماليك» يقتل منهم اللاحق السابق وأرض الكنانة تستوعب الجميع فى رحابة وصبر تميز بهما المصرى عبر تاريخه الطويل ثم يمضى المرء فى سياحته التاريخية من مصر العربية الإسلامية إلى مصر الفاطمية الإفريقية إلى مصر المملوكية الآسيوية ليصل إلى مصر محمد على والقاهرة الخديوية بكل مبانيها التى وضعتها على قدم المساواة مع العواصم الأوروبية، وعندما بدأنا نشعر بالزيادة السكانية الهائلة واتجهنا إلى المساكن الشعبية التى كانت ضرورة بشرية فإن الثروة العقارية تدنت وأصبحت أمرًا مختلفًا تمامًا من حيث كمال البناء وذوق التشييد وسلامة التنفيذ، وعندما هبط الذوق فى المبانى هبط معه الذوق الإنسانى عمومًا فى بلدنا وتدنت الخدمات وتدهورت الأصول العمرانية التى كنا نباهى بها ونفاخر، لقد فوجئت ذات يوم وأنا أدخل شارع «شمبليون» فى وسط العاصمة بأطلال قصر متهالك لم أر له مثيلًا فى روعة البناء وجمال الأعمدة الرخامية، وقيل لى إنه أصبح مدرسة لفترة من الزمان ثم تحول إلى مجموعة مخازن تحيط به العشوائية من كل مكان ولو أن الأمير الذى بناه قد عرف ذلك من البداية لبكاه حتى النهاية، ولا تقتصر الثروة العقارية المصرية على ما نملكه فى الداخل فقط بل إننى أزعم أن وزارة الخارجية المصرية تملك قصورًا فى الخارج يقف أمامها المرء مشدوها، أنظر إلى قصر السفارة فى روما ومقرها فى أثينا والمركز الثقافى المصرى فى وسط العاصمة البريطانية ومبنى سفارتنا فى باريس بل وما نملكه فى العواصم البعيدة، خصوصًا فى قنصليات مصرية داخل الولايات المتحدة الامريكية، وأتذكر أننى عندما عينت سفيرًا لبلادى فى العاصمة النمساوية منذ قرابة ربع قرن من الزمان فوجئت أن مبنى المكاتب وبيت السفير قد عفا عليهما الزمان وجاءتنى الفرصة التاريخية بزيارة من مهندس مصرى نمساوى يملك مبنى تاريخيًا فى أرقى أحياء المدينة حتى إن «أدولف هتلر» قد قضى فيه الليلة الوحيدة أثناء زيارته لفيينا وهو مكون من مبان ثلاثة تاريخية عريقة يجمع ما بينها نفق أرضى هو سرداب أمان حتى إن زملائى فى السفارة كانوا لا يدركون إن كنت فى دار السكن أم فى مكتبى بمقرها! ولقد كان المهندس المصرى كريمًا مع وطنه للغاية، خصوصًا أن الخيارات أمامه كانت محدودة فلا المبنى قابل للهدم ولا التعلية وليس أمامه إلا أن يبحث عن سفارة كبرى أو شركة ناجحة لتحتل هذا الموقع الممتاز، ولقد وضعنا مسلة فرعونية مقلدة ولكنها من جرانيت أسوان التى صنعت منها المسلات التاريخية وكان يوم تثبيت المسلة داخل حديقة السفارة يومًا مشهودًا حتى إن المترو الداخلى قد توقف فى الحى التاسع عشر بسبب تجمع الناس يشهدون ما لم يكونوا يتوقعونه فى عاصمة بلادهم، ولقد أقمت فيها شهورًا ستة فقط قبل رحيلى لأن فترة الإعداد والترتيب واستكمال الديكورات قد استغرقت عامين كاملين وتوافد على هذا المبنى التاريخى رموز بارزة بعد رحيلى من سفرائنا العظام «سامح شكرى» و«رمزى عز الدين رمزى» و«إيهاب فوزى» و«خالد شمعة» وصولًا إلى السفير الحالى الدبلوماسى اللامع «عمر عامر».
أيها السادة إن ثروتنا العقارية فى الداخل والخارج تحتاج إلى مسح شامل ورصد أمين وقلوب حانية على ما نملك فى زمن استأذن منه التاريخ واعتكفت عنه الجغرافيا ولم يبق لنا إلا تراث يجب أن نحافظ عليه وأن ننطلق منه نحو استعادة الأمجاد واحترام ما تركه الأجداد.
جريدة المصري اليوم
https://www.almasryalyoum.com/news/details/1418385