لو قارنا القوى الثلاث غير العربية في غرب آسيا لرصدنا الدور الإيراني والتحرك التركي والأطماع الإسرائيلية مع اعترافنا بالفارق في درجة الخطورة بين هذه الدول الثلاث التي تتشاطر النفوذ وتتقاسم التأثير في المنطقة التي تعتبرها مصر مجالًا حيويًا بالمفهوم التاريخي والواقع الجغرافي، ولأن إسرائيل كيان تعاملنا معه، حاربناه وفاوضناه، ووقعنا معه اتفاقية سلام ونحن نعرف حجم التوقعات المستقبلية في علاقاته بدول المنطقة وامتداد ذلك الكيان سياسيًا وثقافيًا بالغرب الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية، أما الدولتان الأخريان إيران وتركيا وهما دولتان مسلمتان لهما احتكاك طويل بالعرب ومواجهات متكررة مع دول الخليج العربي من خلال جزر محتلة وتحريض للشيعة العرب ضد أوطانهم وهو أمر أزعم أن الدولة الفارسية لم تنجح فيه، كذلك فإن ثورة (الخميني) عام 1979 قد خلقت صدامًا طبيعيًا بين طهران وجيرانها بل ومن هم أبعد من ذلك إذ سيطر منطق تصدير الثورة والهيمنة الإيرانية على عدد من الدول العربية والإفريقية والآسيوية بما أدى إلى اشتعال المواقف واحتدام الصراع والشعور بالأحلام الفارسية باستعادة أمجاد الماضي واقحام أفكارها على الشئون الداخلية للدول الأخرى وهو ما سبب إزعاجًا واضحًا خصوصًا في منطقة الخليج والجزيرة العربية، وبدأت أحاديث هامسة تشير إلى رواية نسبت إلى الإمام الخميني قالها في طائرته أثناء رحلة العودة من باريس إذ ذكر الإمام أن العرب قادوا الأمة الإسلامية لعدة قرون ثم قادها الأتراك لعدة قرون أخرى وقد جاء الدور على الفرس لكي يقودوا الأمة الإسلامية في هذه المرحلة، وذلك تصور استعماري يعكس روح الهيمنة التي تقوم عليها أحلام الفرس في المستقبل، ولقد كانت الحرب العراقية الإيرانية التي امتدت نيرانها لأكثر من ثماني سنوات هي اختبار حقيقي للشيعة العرب الذين غلبت قوميتهم على مذهبهم الديني فقاتلوا في جيش (صدام) ولم نسمع أن منهم من انحاز لإيران ضد وطنه ذلك أن عروبة الشيعة خالصة وتاريخية كما أن تشيعهم يبدأ من القرن الأول الهجري ويسبق التشيع (الصفوي) بعدة قرون، وقد ساعد إيران على الامتداد في العقود الأخيرة تنامي ظاهرة التطرف الديني واللجوء إلى محاولة نشر أيديولوجية إسلامية ترفع شعار المقاومة في لبنان تحت رايات حزب الله وتفتح معركة طويلة المدى مع الولايات المتحدة الأمريكية حول المشروع النووي الإيراني فإذا العالم مشغول بإيران صباح مساء، وهذا في حد ذاته شعور يرضي الإحساس المبالغ فيه لدى الإيرانيين بزهو القوة والحذر من صواريخها التي حاولت بها أكثر من مرة أن تضع العالم على حافة المواجهة العسكرية وكأنما تستعيد فلسفة سياسة حافة الهاوية التي اتبعها وزير الخارجية الأمريكي (جون فوستر دالاس) على اعتبار أن الاستعداد للحرب أنفى لوقوعها، ولقد برعت الدبلوماسية الإيرانية في رفض سياسات الولايات المتحدة الأمريكية مع جسارة واضحة في المواجهة ويبدو أن ذلك النمط من السياسات ينجح في مواجهة القوى الكبرى أحيانًا، ولقد رأينا واشنطن ومعها إسرائيل يحذران إيران صباح مساء باحتمال توجيه ضربة عسكرية ضدها وبينما الولايات المتحدة الأمريكية تهدد إيران كل يوم فإنها تكتفي بضرب العرب ولدينا مثل شعبي في العامية المصرية يقول (أضرب المربوط يخاف السايب)، إن أحلام إيران أصبحت طرفًا فاعلًا في سياسات غرب آسيا والشرق الأوسط بل والقارة الإفريقية أيضًا، أما إخواننا الترك فقصتنا معهم طويلة بدأت مع الفتح العثماني حتى امتزج الأتراك مع شعوب المنطقة بل إن الكثيرين من العرب يتباهون أحيانًا بأن دماءً تركية تجري في عروقهم، ولقد نجح السلطان التركي في خلق هالة للخلافة الإسلامية في ظل حكم آل عثمان وظلت العلاقات التركية العربية طبيعية لعدة عقود منذ سقوط حلف بغداد ولم يعكرها إلا الاتهامات التركية لسوريا بدعم أكراد تركيا وتحريضهم ضد الدولة التركية الحديثة، وأنا أتذكر من أيام عملي مع الرئيس الأسبق مبارك أنه قام بزيارة وساطة إلى أنقرة استطاع بها أن ينتزع فتيل المواجهة العسكرية المحتملة بين سوريا وتركيا، ولقد كان وصول رجب طيب أردوغان إلى السلطة بمثابة فصل جديد في العلاقات بين الأتراك والعرب، فقد جاء الرجل وفي خلفيته آمال تاريخية وأحلام عثمانية فبدأ يتعامل مع المنطقة بمنطق خليفة المسلمين وحاول استخدام بعض تيارات الإسلام السياسي في تعزيز سياسته ودعم دوره في مواجهة الآخرين واقترب كثيرًا من جماعة الإخوان المسلمين في مصر وعندما سقطت حكومتهم استشاط غضبًا وبدأ حربًا إعلامية ودعائية ضد مصر وجيشها ورئيسها، ولا يزال الصراع محتدمًا لأن غضب أردوغان لابد أن يتوازى مع حجم الأمل الذي كان يشعر به في الانطلاق من شرعية الإخوان المسلمين باعتبارها جماعة أسسها الشيخ حسن البنا بعد سقوط الخلافة بسنوات قليلة حتى كان انهيار حكمهم في القاهرة بمثابة لطمة كبيرة لأحلام الخليفة العثماني الجديد رجب طيب أردوغان، ولذلك فإن الخلاف مع مصر - على سبيل المثال – هو خلاف بين رئيس الدولة التركية والسياسات المصرية وبعض التوجهات العربية دون أن يكون في ذلك أسباب حقيقية إلا سقوط مشروع أردوغان وشعوره بالإخفاق معتبرًا أن ما حدث في مصر يوم 30 يونيو 2013 و3 يوليو بعده بثلاثة أيام هو انقلاب على الشرعية من وجهة نظره وصفعة كبيرة لمشروعه الذي كان مدعومًا من الغرب ومباركًا من الولايات المتحدة الأمريكية، وهكذا يجد العرب أنفسهم محصورون بين سياسة إسرائيلية بعيدة المدى وأحلام فارسية يبشر بها (الملالي) وتدعو إليها تيارات مساندة في العالمين العربي والإسلامي فضلًا عن ذلك فإن الترك لا زالوا يعيشون على تراث الماضي ويجترون ذكريات الخلافة تحركهم دوافع اقتصادية وآمال توسعية على الحدود العراقية والسورية في ظل الأوضاع الأخيرة في المنطقة، ونحن لا نريد في النهاية أن يعيش العرب في هذا الزحام وكأنهم الأيتام على مائدة اللئام.
نُشر المقال في جريدة الأهرام بتاريخ 13 أغسطس 2019.