يثور جدل بين حين وآخر حول سفر القطع الأثرية الأصلية للعرض في متاحف الدول المضيفة، وهنا تختلف الآراء بين مؤيد ومعارض، فالمؤيدون يرون أن ذلك تصرف حضاري واسع الدلالة يشير إلى أن الحضارة الإنسانية هي تراث مشترك للبشر بغير استثناء كما أن تلك الآثار تعرض بمسمياتها الأصلية منسوبة إلى الحضارات التي خلفتها والدول التي أرسلتها، وعلى سبيل المثال فإن للمصريين مشكلة مع المتحف الألماني حول (رأس نفرتيتي) التي يجري تكريمها من جانب الألمان رغم أنهم لا ينتمون لحضارتها ولكنهم يدركون قيمتها، ولقد قاد الأثري العالمي زاهي حواس حملة على امتداد السنوات الماضية لاستعادة ذلك الأثر الجميل الذي يشد الإنسان في كل زمان ومكان، وعلى الجانب الآخر في أوروبا أيضًا فإن (حجر رشيد) الذي فك رموزه الضابط الفرنسي (شامبليون) يبقى هو الآخر علامة فارقة في تاريخ الحضارة الإنسانية لأنه يعتبر الكشاف العلمي الذي فك رموز الحضارة الفرعونية الأم وأنار الطريق لفهم كثير من الأمور التي لم تكن واضحة، ويتمسك المتحف البريطاني بحقه في الاحتفاظ بذلك الأثر التاريخي العظيم بدعوى أنه كان مقايضة ذات طابع سياسي بين الدولتين المتنافستين في مصر بريطانيا وفرنسا، ولكن يبقى السؤال المطروح هل يعتبر وجود هذه الآثار في الخارج طعنًا في الحضارة المصرية أو إقلالًا من شأنها؟ إن الأمر يبدو لي غير ذلك فالفرد الذي يحمل اسمه يظل مرتبطًا به أينما ذهب ولا يقلل ذلك من أهميته الزائدة ولا احترام الآخرين له ولكن النقطة الجديرة بالتأمل هي أن الدول التي تضم متاحفها آثارًا مصرية أو أجنبية عليهم أن يدفعوا جعلًا ثابتًا لوجود هذه الآثار لديهم لأنهم يجنون من ورائها دخولًا ملموسة تتمثل في حجم الإقبال على متاحفهم وما يدره ذلك عليهم من عائد، وأستأذن القارئ هنا في أن أطرح الملاحظات الآتية:
أولًا: إنني من أتباع النظرية التي ترى أن وجود آثارنا في الخارج هو دعاية لها تدعو من يراها إلى زيارة دولة الأصل ليرى المزيد من تلك الآثار المثيرة وهذا ما يحدث بالفعل فلقد أثبتت الإحصاءات أن الدول التي استضافت معارض لآثارنا أو وجدت في متاحفها آثار لنا قد أقبل مواطنوها أكثر من غيرهم على زيارة مصر والذين يرون أن المشاهد الأجنبي يكتفي بما يراه ويستعيض به عن زيارة مصر إنما يتبنون نظرية مسطحة وليست دقيقة على الإطلاق بل الأولى هو ما ذهبنا إليه من أن ذلك يؤدي إلى مزيد من الأفواج السياحية التي شاهدت فسافرت فاستمتعت، ولي تجربة مباشرة في ذلك عندما كنت سفيرًا في العاصمة النمساوية وأقامت وزارة الثقافة وقتها معرضًا للآثار الفرعونية في فيينا إذ لاحظت بعدها زيادة التدفق السياحي من النمساويين تجاه مصر.
ثانيًا: إن آثارنا في الخارج دليل عظمة ومصدر شموخ وهي دعم سياسي غير مباشر لأنها تجعل الجميع ينظرون إلى الحضارة المصرية الملهمة باعتبارها الحضارة الأم لحضارات الشرق وربما الغرب أيضًا، وذلك في حد ذاته جزء من الكبرياء الوطني والإحساس بعظمة الأجداد التي يجب أن يرتفع إليها الأحفاد.
ثالثًا: إن التراث الإنساني هو شراكة بشرية تجمع الأمم والشعوب لذلك فإن وجود آثار مصرية خارج الحدود هو تأكيد لمعنى لا يغيب عن الأذهان وهي أننا نؤمن بالشراكة الكاملة بين الحضارات والتداخل بين الثقافات ونعلم أنه لا يوجد مبرر لأي تعصب ضد الآخر بل لابد من مشاركة كاملة للتراث الإنساني بغير حدود أو حواجز عرقية أو ثقافية أو دينية.
رابعًا: إن دولًا عربية منها دولة خليجية قد استأثرت بقدر من الآثار الإسلامية خصوصًا المملوكية وهو أمر تقبله مصر عن سماحة لأن كل من يرى هذه الآثار الإسلامية يعرف أنها قادمة من عاصمة الألف مئذنة.
خامسًا: إننا نطالب بتقنين أوضاع الآثار في الخارج بدءًا من طلب استعادتها وذلك بثبوت ملكيتها لأصحابها وكل أثر يكون مجهول المصدر وغير معروف طريقة خروجه من مصر يكون محل مساءلة، لذلك فإننا نتطلع إلى تفعيل اتفاقية دولية تعطي الدول صاحبة الأثر حقوق الملكية الفكرية والمادية وهو أمر حاول فيه الخبراء المصريون والأثريون والقانونيون أن يفعلوا شيئًا ولازال الملف مفتوحًا بسبب أطماع الغرب والرغبة الدائمة في الاستئثار بكل شيء.
إن آثارنا رسول حضارة، ومبعوث ثقافة، ومصدر ضياء للإنسانية كلها وللبشرية جمعاء، ومصر المعطاءة لا تبخل على الدنيا بأشعة الضوء المنبعثة من تاريخها العريق ولا يشعر أبناؤها بشيفونية انعزالية ولكنهم يدركون دائمًا أنهم جزء لا يتجزأ من البشرية وأنهم يحملون شريحة كبيرة من تاريخ الإنسان على الأرض، وأنا لا أنسى أن الطريق إلى المتحف البريطاني يحمل اسم (القبط) في إشارة إلى الاسم التاريخي لمصر ومكانتها الرفيعة وآثارها الخالدة، ولعلي أطالب هنا بأن نعلم أجيالنا الجديدة أن آثارنا موزعة في أنحاء العالم وأن بعضها خرج بطريقة مشروعة إما بالإهداء الأحمق من الحكام بدءًا من محمد علي أو نتيجة الشراء غير القانوني أو الحصول على نصف ما يتم اكتشافه لصالح الأثريين وأساتذة المصريات الذين كانوا يعبثون بالتربة المصرية بحثًا عن الآثار العظيمة، أما أن يقال أن هناك آثارًا مسروقة أو خرجت بطريقة غير مشروعة فهنا يتعين علينا أن نقاضي من يفعلون وأن نحاسب من أجرموا في حق تاريخنا ولعل قصة التمثال الذي كان يبيعه أحد المتاحف في لندن منذ فترة وجيزة هو خير مثال على نوعية العدوان على الآثار الفرعونية خصوصًا والمصرية عمومًا، إننا لا نطالب بغير احترام آثارنا في الداخل وفي الخارج وألا تضيع حقوقنا في الداخل أو الخارج أيضًا، وبهذه المناسبة فإنني أطالب بتجريم التنقيب الفردي للآثار الحقيقية أو الاتجار فيها لكي تكون عقوبة فاعلها موازية لتجارة المخدرات بل قد تزيد وذلك كإجراء وقائي ضد لصوص الحضارة ومرتزقة المقابر ومعدومي الضمير.
نُشر المقال بجرية الأهرام بتاريخ 27 أغسطس 2019.